Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ضحى عاصي تسرد تبعات انهيار الاتحاد السوفياتي بعين عربية

رواية "صباح 19 أغسطس" تبرز انقسام الهوية وتبعات الانتماء

مشهد رمزي من الإتحاد السوفياتي (رويترز)

لا شك في أن روافد المعرفة المتعددة التى تمتلكها الكاتبة المصرية ضحى عاصي قد أثرت في البنية السردية، سواء فى مجموعاتها القصصية أو رواياتها، فتنوعت دراساتها ما بين الطب وعلم المصريات والنقد الفني والفنون الشعبية واللغة الروسية وآدابها. ويظهر هذا الثراء المعرفي في روايتها "صباح 19 أغسطس" (الدار المصرية اللبنانية). فهناك تنوع واضح على مستوى الشخصيات القلقة المضطربة التي تجمع بين أكثر من هوية، بخاصة المصرية والسوفياتية. ونجد في حالة "كاملة" التي كانت أشبه بأداة الاتصال الرابطة بين هويتين، يحتدم في نفسها صراع بخصوص إمكانية الاكتفاء بالانتماء إلى واحدة منهما، وفي الختام تقيم ما يشبه التصالح بينهما بمساعدة ابنها "صادق". وهو الأمر الذى لم يستطع زوجها "رسلان" أن يحققه حين ذهب إلى أفغانستان متخلياً عن هويته السوفياتية ومحارباً فيها. فذات مرة قال له أحد الذين كان يعالجهم وكان مسناً أصابته طلقة رصاص: "أراد الشيوعيون تغيير شريعة الله فأخذوا الأراضي من الإقطاعيين ووزعوها على الفلاحين". ومع ذلك ظل الطبيب "رسلان" في ما يشبه صراع الهويات الذي لم يستطع حسمه؛ مما أدى إلى انهياره فى نهاية الرواية بعدما حاول أكثر من مرة خنق "كاملة"؛ ربما رغبة في الخلاص من ماضيه معها الذى لا يستطيع العودة إليه.

رؤية موضوعية

أما "كاملة"، فإن ازدواج هويتها وتوزعها ما بين الاتحاد السوفياتي ومصر جعلاها على مسافة تستطيع من خلالها تقديم رؤية موضوعية لكلا الوطنين. تقول واصفة هذه الحالة: "لقد تشبعت عقولنا وأرواحنا بالمقولات الكبرى ومبادئ العدالة والمساواة وعندما تفتحت أزهارنا وجدنا أنفسنا مكبلين بالممنوعات التى كانت تبدو كبيرة. ألا تذكر – تخاطب رسلان – كيف لم يكن من حقنا أن نقول كلمة عن ستالين أو ننتقد لينين؟".

 

ومن الواضح أن الكاتبة ترى – على لسان "كاملة" – أن افتقاد الديمقراطية أحد أهم أسباب انهيار الاتحاد السوفياتي؛ لأن ديكتاتوريته فرضت فكراً واحداً ولوناً واحداً. تقول "كاملة": "كنا نرتدي نفس الملابس بنفس الألوان. نستخدم نوعاً واحداً ولوناً واحداً من أحمر الشفاه. نسكن في نفس البيوت ونأكل نفس الطعام". لقد ضاعت خصوصية الفرد وسط المجموع وأصبح – طبقاً للتعبير الشائع – تِرساً في آلة. وترى "كاملة" أن اللحية ليست شرطاً لتكون سلفياً، فمن الممكن "أن تكون سلفياً وأنت ترتدي أحدث الملابس وتركب أفخم السيارات". وعشية انهيار الاتحاد السوفياتي نجد أنه كان يتماهى مع نمط الحياة الغربية، فالمحال الكبرى التى أنشأتها الدولة السوفياتية مثل "نسوم" و"جوم" أصبحت مراكز تجارية ضخمة كبيرة لكل الماركات العالمية.

الانقلاب على غورباتشوف

ويشير عنوان الرواية إلى تاريخ الانقلاب العسكري على غورباتشوف، ووقوع الدولة السوفياتية تحت وطأة ما تسميه "كاملة" بـ "التسعينيات الطائشة" التي شاعت فيها مقولة "أطباء وعلماء روسيا في السوق". وذلك في مواجهة الأزمات التي وقع الجميع تحت وطأتها. تبدو هذه الرواية وكأنها طقس من طقوس الاعتراف حيث يبوح كل إنسان بمكنون ذاته وهي عادة سوفياتية تعلمتها "كاملة"، المولودة لأب مصري وأم سوفياتية، وكانت تمارس على موائد الشرب. تقول "كاملة" واصفة ذلك: "الناس يشربون لأسباب كثيرة. أحد أهم هذه الأسباب هو أن الخمرة تعطيك (كوراج) أي  شجاعة. وأهم أنواع الشجاعة هو شجاعة البوح".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كما تستعرض الرواية في بعض المواضع مآسي حصار "ليننغراد" خلال الحرب العالمية الثانية والذي استمر 872 يوماً فاشتد الجوع – كما تشرح جدة كاملة تاتيانا لها – ومات أكثر من مليون شخص، فقاموا "بطهي الأحزمة الجلدية وطهي الصمغ وأكلوا الحيوانات النافقة حتى لا يموتوا جوعاً في الشتاء". لقد توحد الجميع في مواجهة الألمان بينما اختلفوا حول سياسة "الغلاسونست " بين منددين ومؤيدين بينما "كاد الانقلابيون أن يدكوا بالدبابات البيت الأبيض الذي احتمى فيه يلتسن وأتباعه". واسم البيت الأبيض المشار إليه في الشاهد السابق أطلقه ليبراليو روسيا المتأمركون - كما تشير الكاتبة في أحد الهوامش- على المبنى الضخم لمجلس السوفيات الأعلى ومجلس الجمهوريات لروسيا الاتحادية وذلك تيمناً بالبيت الأبيض الأميركي في واشنطن.

فوضى ما قبل الانهيار

 

لكن ما ظنه السوفيات حرية يتحول إلى فوضى بعد أن ضاقوا بالدولة السوفياتية والبيروقراطية. وكان والد "كاملة" - وهو في ذلك يعبر عن الغالبية من الشعب الروسي - "يدين لينين ويشرح باستفاضة كيف أن تجربة البلاشفة والشيوعية عطلت روسيا عن اللحاق بالحضارة الغربية". كأننا أمام حالة عامة من انشطار الهوية ما بين النظام القديم والجديد. وفي موضع آخر يقارن السارد بين حرية ما يحيطنا من كائنات وما نعانيه نحن من قهر... "فالطير يطير في السماء بلا حدود والسمك يسبح في البحار بلا حدود. فقط نحن البشر بلا حدود ليمارسوا قهرهم علينا". وازدواج هوية "كاملة" – الشخصية الرئيسية فى الرواية – كان مبرراً للانتقال بين ما يحدث في الاتحاد السوفياتي وما يحدث  في مصر. ومن هنا جاء الحديث عما يسمى بـ "جمعة قندهار" التي شهدت تظاهرة تردَّد فيها هتاف كهدير البحر: "الشريعة الإسلامية"، ورفعت خلالها لافتات تناصر "جمهورية أفغانستان الإسلامية". يقول السارد: "واكتظت الميادين بالحشود الهائلة السوداء الكئيبة". وهو وصف يدل دلالة واضحة على موقف السارد الأيديولوجي.

التداعي الحر

والحقيقة أننا أمام ما يمكن أن نسميه بتناسل الحكايات حيث تتوالى في ما يشبه التداعي الحر الذي يبتعد عن الحبكة التقليدية. فبالإضافة إلى ما سبق نجد سرداً مطولاً عن عولمة الإرهاب بين "كاملة" وزوجها "رسلان" بعد عودته من أفغانستان يتضح من خلاله انتشار الإرهاب فى العديد من الدول. ولا شك أن هذا التناسل الحكائي – إن صحَّ التعبير- أدى إلى تنوع موقع الراوي ما بين الراوي الخارجى العليم والراوي الداخلي. ويرتبط الراوي الداخلي بضمير المتكلم. يقول "رمضان" الذي كان يرافق عدداً من السائحين في مصر: "لقد تعودتُ أن أعيش بين الصحراء والجِمال وبلوكات الحجارة التي يأتي الناس من مختلف أنحاء العالم ليروها ويقفوا أمامها". أما الراوي الخارجي العليم فيرتبط بضمير الغائب حين نقرأ في الفصل الثاني "استطاعت كاملة الالتحاق بجامعة العاصمة. أما رسلان فقد أتى من غروزني لدراسة الطب...". كما يتنوع الأسلوب ما بين سرد الحكايات الشعبية الموروثة حين تحكي كاملة عن صياد شديد المهارة "اعتاد أن يأخذ مركبه ويذهب للصيد في المناطق الصعبة" حتى التقى عروس البحر؛ نصفها سمكة والنصف الآخر لآدمية فتحيَّر في أمرها. وكذلك الأسلوب الشاعري حين يناجي "عمر" ابنة خاله "كاملة" قائلاً "أعلم أن ضحاياك من العشاق الذين يقفون ببابك كثر ولكن لم يحبك أحد مثلي ولن يحبك أحد مثلي أنا المجنون بعشقك والمسحور بك أنا الذي لا أملك إلا الحب أقف ببابك أطلب الرجاء. افتحي قلاعك ولو مرة".

كما تنتهى الرواية بالكناية الدالة. ففي الوقت الذي تذهب فيه "كاملة" مع الجمهور احتفالاً بسقوط "الإخوان المسلمين" في مصر في منتصف العام 2013 يعود "صادق" إلى الفندق لاستكمال قراءته التى بدأها منذ عدة أيام لرواية جورج أورويل "1984". وهي رواية دالة – كما هو معروف – على القمع الذي وصل إلى أعلى درجاته، في بلد رأى كثيرون أنه الاتحاد السوفياتي السابق.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة