Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الشعراء الفلسطينيون الجدد ليست لديهم قضية واحدة

المغربيان عبد اللطيف اللعبي وياسين عدنان أنجزا أنطولوجيا شعرية بالفرنسية والعربية

لوحة للرسام الفلسطيني تيسير شرف (صفحة الرسام - فيسبوك)

من يقرأ الأنطولوجيا الشعرية "أن تكون فلسطينياً"، الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط في نسختها العربية، وعن منشورات لوبوان في باريس في نسختها الفرنسية، قد يتبادر إليه السؤال االآتي:  لماذا يقف وراء هذه الأنطولوجيا الفلسطينية شاعران من المغرب؟ أحدهما يكتب باللغة الفرنسية، هو عبد اللطيف اللعبي، والثاني باللغة العربية، هو ياسين عدنان؟ ولماذا شاعران بالضبط وليسا ناقدين أو باحثين؟

إن الإجابة على أسئلة كهذه تقتضي بالضرورة العودة إلى الوراء، من أجل وضع هذه الأنطولوجيا الجديدة في سياقها التاريخي. فقبل أكثر من خمسين سنة نقل اللعبي إلى القارئ الفرنسي صورة كبيرة وواضحة عن أدب النضال في فلسطين، وأصدر سنة 1970 "أنطولوجيا شعر المقاومة الفلسطينية". وعاد سنة 1990 ليصدر أنطولوجيا أخرى عن الشعر الفلسطيني المعاصر. ويأتي إسهامه في الأنطولوحيا الجديدة بعد ثلاثة عقود، في سياق الانتصار للقضية الفلسطينية بالأساس، باعتبار الأدب واجهة دفاعية تكاد تكون واحدة من أبرز وسائل إثبات الذات، حيال كل محاولات النفي والإلغاء.

وتأتي مشاركة ياسين عدنان في السياق النضالي ذاته، وهو في الآن نفسه من أكثر الكتّاب المغاربة متابعة للحراك الثقافي في مختلف البلدان العربية. وانتصاره للشعر الفلسطيني الراهن يتداخل فيه ما هو جمالي وأدبي مع ما هو وجداني وتعاطفي، فضلا عن صداقاته الواسعة مع شعراء فلسطينيين من عدة أجيال.

سؤال الإختيار

من البديهي أن يطرح كل عمل أنطولوجي فور صدوره السؤال المزدوج الآتي: لماذا حضر هذا الاسم وغاب ذاك؟ لكن هذا السؤال لا يمكنه أن يحجب حقيقة مفادها أننا أمام عمل حاول الإحاطة ما أمكن بالشعرية الفلسطينية الراهنة، بالرغم من شساعة المشهد واختلاف مرجعياته في الكتابة. والراجح أن كلاً من اللعبي وعدنان، قد استعان بأسماء من داخل فلسطين وخارجها، لتقريبهما أكثر من راهن التجربة الشعرية، ولوضعهما أمام الأصوات الأكثر جدّة، وحتى الأقلّ تداولاً.

اختار معدّا الأنطولوجيا التركيز على موضوعة الراهنية، تفادياً لذلك التصنيف الذي درج معظم النقاد العرب على اقترافه "الشعراء الشباب". ويبدو واضحاً أن تاريخ الميلاد كان حاسماً في اختيار الأسماء المدرجة ضمن الأنطولوجيا. فنحن أمام تجارب مختلفة لشعراء وشاعرات لا تتجاوز أعمارهم الخمسين سنة. فهم، إما من مواليد السبعينيات، أمثال رجاء غانم وأنس العيلة وخالد سليمان الناصري وجمانة مصطفى ونجوان درويش وغياث المدهون ومازن معروف، أو من مواليد الثمانينيات من أمثال رائد وحش ورولا سرحان وأشرف فياض ومايا أبو الحيات وكوليت أبو حسين وطارق حمدان وأسماء عزايزة وداليا طه، أو من مواليد التسعينيات من أمثال هشام أبو عساكر وحسن مخلوف وإيناس سلطان ويحيى عاشور الذي يعدّ أصغر شاعر مدرج في الأنطولوجيا الفلسطينية، إذ لا يتجاوز عمره الرابعة والعشرين.

أصوات جديدة تتجنب البكاء وتحتفي بالحياة

لن يجد قارئ أنطولوجيا الشعر الفلسطيني الراهن مكبرات الصوت التي تملأ الشوارع والساحات بأصوات الاحتجاج، ولن يجد الشعارات والهتافات والخطاب الجماعي الذي دأب على سماعه طيلة أربعة عقود من حضور الشعر الفلسطيني في منابر الملتقيات والمهرجانات الخطابية والإذاعات والمطبوعات اليسارية واليمينية. إننا أمام أصوات خفيضة لها طريقتها الخاصة في الاحتجاج. إنها تراهن، قبل إلغاء الآخر/ العدو المفترض، على إثبات الذات أولاً. إنها أصوات جديدة لا تبحث عن استدرار العطف وتجييش المتضامنين، بل تريد أن تثبت وجودها وتكشف للعالم أن خلف هذه الأصوات كائنات تعيش وتحبّ وتفرح بالحياة، بالرغم من كل الظروف السيئة المحيطة بها. النصوص التي تزين أنطولوجيا اللعبي وعدنان لا تقول القهر والظلم والاحتلال بشكل صريح، ولا تحاصرنا بالبكاء والنحيب، ولا ترفع بالمقابل شعار التحدي والصمود بشكل مرئي. إنها أصوات بدون لافتات. لكنها بالمقابل أصوات قوية ترى أن أكثر الطرق تأثيراً على الآخر الذي يمنحه الحياة بالتقطير، هو أن تذهب بنفسها إلى هذه الحياة وتغترف منها بجرعات أكبر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يستهل معدّا الأنطولوجيا هذه التجربة اللافتة بنصوص لرجاء غانم طافحة بالرومانسية والإروسية أيضا. أليس من حق الفلسطيني أن يحب ويمارس الحب؟ هل قدر كل شاعر فلسطيني أن يتحول بالضرورة إلى جندي أو فدائي على أرض الكتابة؟ ألم يقل درويش قبل عقود: "ارحمونا من هذا الحب القاسي؟" نقرأ لرجاء غانم في نصها الأول: "الآن يتفتح جسدي بين يديك/...تمر يداك على نهديّ/ يتأوه العالم/ ويسيل حليب الأمهات". ثم نقرأ للشاعرة نفسها في نص آخر: "أجردكَ من ملابسك/ كما أقلّم شجرة/ من أغصانها الزائدة". ويجسّد الشاعر أشرف الزغل الشهيد في صورة سريالية، فهو ليس عريسا كما في الصورة الشعرية التي اعتدنا عليها منذ الستينيات، فهو لاعب بارع في أولمبياد، ونبيل ضجر أمام قلعته، فمه مقعر باتجاه السماء، ويخفي صلواته في جيوبه الخلفية.

يستعيد الشاعر أنس العيلة أمه الراحلة، وحياته في الريف، بعيدا عن ضجيج العالم، حيث الشجر والتراب والدود والنمل، عناصر تشكل إطارا لصورة الطفولة. يقول في نص عنوانه "التجول في الريف بحاسة واحدة": "أصغي لصراخ دودة تنقلب على ظهرها... وأصغي للهدير الذي يحدثه/ سرب نمل أسود/ يرسم خطاً متحركاً لا فراغ فيه".

الخروج من قوقعة القضية الواحدة

لقد تغير مفهوم الحرية عند الشاعر نجوان درويش: "الحرية تمثال طيني/ يتشقق تحت شمس الساحل"، لذلك يلوذ بالحب ويبحث عن خلاص فردي. يقول في نص "في انتظار المخلّص" بعد أن عدّد أصنافاً من الذين ينتظرون من يخلصهم: "أما أنا/ فكنت أحمل خلاصي على ظهري/ وأطوف به/ مثل عِقاب". تكتب الشاعرة رولا سرحان عن الحب والحنين، وتكتب الشاعرة إيناس سلطان عن الأب والأم والأخت، ويركز الشاعر رائد وحش على تيمة الغياب بما هو استعادة ل "أطياف هاربة وذكريات صغيرة"، وينقل لنا الشاعر طارق حمدان مشاهد من حياته الفرنسية، برفقة عرب وروس وآسيويين وأفارقة يرددون الأغنية نفسها. وتحتفي الشاعرة هلا الشروف بالمكان، وبحميمية البيت، وتعتبر الشعر ملاذاً تبتهج معه، وتحتمي به من أهوال الحياة.

يفاجئنا الشاعر مازن معروف بالمقطع التالي: "لم يعد لي أعداء على هذا الكوكب/ لذا/ سأمضي/ حاملاً سعالي في حقيبتي... باتجاه ساحرات/ يمشطن شعورهن بنافذة مكسورة/ تطل على كوكب سابق/ لا أعداء فيه". ويحلم الشاعر غياث المدهون بعالم تتوقف فيه الحرب: "انتهت الحرب، وعاد القتلى إلى أهلهم سالمين، عاد الشهداء إلى أمهاتهم كاملين، عادت الأمهات إلى البيوت، عادت البيوت، الشوارع، الجوامع، الأعين، الأقدام، الأشلاء إلى أصحابها، عادت الأصابع إلى الأيادي، الخواتم إلى الأصابع، المدارس إلى الأطفال، عادت حبال الغسيل إلى الشرفات، العشاق إلى الأسطح، أخي إلى أمي، وأنا عدتُ إلى الشام".

إن كل ما سبق لا يعني بالضرورة أن الشعراء الجدد في فلسطين لم تعد لديهم قضية، بل إن قضاياهم قد تعددت وتنوعت، وبالتالي سيبدو من الجور في النقد والتلقي أن نخندق كل شاعر  أو شاعرة من فلسطين في خانة ضيقة، كما لو أن شاعرات أوشعراء فلسطين لا ينتمون إلى العالم.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة