بدأ الشاعر الفلسطيني غسان زقطان تجربته الشعرية في مجموعة مشتركة مع الشاعر الفلسطيني – الأردني محمد الظاهر (1952- 2020) أصدرتها رابطة الكتاب الأردنيين في منتصف السبعينيات. وقد اتخذت المجموعة عنوان "عرض حال للوطن"، كان زقطان الشاهد الأول فيها، فيما كان الظاهر الشاهد الثاني. ويمكن قارئ المجموعة أن يلاحظ المشاغل المشتركة، والإيقاعات المتقاربة، والتأثيرات عينها، والثيمات الفلسطينية ذاتها، التي نعثر عليها لدى عدد كبير من الشعراء في تلك المرحلة من تطور تجربة الشعر الفلسطيني.
ولا شك في أن هذه الثيمات، والإيقاعات، والتأثيرات، وطرق صياغة الجملة الشعرية، حاضرة بقوة في مجموعة غسان التالية "صباح مبكر" التي صدرت بالتعاون بين "دار ابن خلدون للنشر" ورابطة الكتاب الأردنيين في نهاية سبعينيات القرن الماضي. أي أنها تنتمي إلى الفترة الزمنية نفسها، وتحمل رؤية العالم ذاتها، وتنشغل بثيمات المخيم والغربة والمنفى والموت والفداء والمقاومة التي كانت زاد الشعراء الفلسطينيين على مدار عقدين من الزمن مثلا فترة صعود المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة 1967: "حدثني الفدائيون عن شاي المخيم.../ وانفجار الحلم/ شكلني المخيم شاعراً/ لم أبتكر نفسي.../ والفلسطيني آيته المخيم/ شكل الأشياء فابتدأت".
ويمكن أن نلاحظ في هذه المرحلة من بدايات زقطان التأثير الواضح للغة محمود درويش الشعرية، سواء في الثيمات، أو الجمل، أو الإبدالات أو الإيقاعات الشعرية، التي تحفل بدلالات تفجر الخصب والفداء والشهادة والبطولة، كما تمزج بين الغنائية والدرامية وما هو مأسوي في تعبير شعري واحد: "ويجيء البحر كي يزرع موزاً في أريحا/ إنها الأرض التي تنبت/ شعراً ودماء/ إنها الأرض التي تنجب طفلاً ساحراً في الفجر.../ يرتد شهيداً في المساء". وهو ما يذكر بمجموعتي درويش "أحبك أو لا أحبك" و"محاولة رقم 7"، وعلى الأخص بقصيدته "سرحان يشرب القهوة في الكافيتيريا" التي أحدثت انعطافة مهمة في شعر درويش نفسه، وفي الشعر الفلسطيني في سبعينيات القرن الماضي. ومن الملاحظ أن هذا التأثير يمتد إلى بعض قصائد مجموعة "أسباب قديمة" (1982) حيث يتردد صدى جملة درويش الشعرية في تلك المرحلة: "ويا أم/ ما شردتني المدائن/ إني أشردها في دمي"، في تعبير عن الارتحال والمنفى الفلسطينيين الدائمين.
تجربة شخصية
وعلى الرغم من استمرار بعض من هذه التأثيرات الدرويشية، ومعجم الشعر الفلسطيني المقاوم، في قصائد غسان زقطان، فإننا، بدءاً من "أسباب قديمة"، نقع على تأثيرات جديدة آتية من شعريات مختلفة، عالمية وعربية؛ والأهم في هذا السياق هو تأثير قصيدة النثر، بتركيباتها اللغوية، ومطالعها الصادمة، واهتمامها بالأشياء والعاديات والتفاصيل، واليومي، والحميمي، والذاتي، والذكرى، والغريب، وغير المألوف. وتنسرب هذه التأثيرات في قصيدة زقطان، بغض النظر عن الشكل الشعري أو الإيقاعي الذي تتخذه هذه القصيدة، سواء تفعيلية أم نثر: "ليس جرس الكنيسة هذا الذي يرن.../ ... إنه النحاس/ يخرج من عروق الفتية/ ويتصل بالمعادن"، أو: "علقت جارتنا الزنجية/ ستائرها الثقيلة/ فلم نعد نرى/ كيف يخرج الأبنوس/ من الثياب". والواقع أن هذه التأثيرات الأخيرة قد أدت إلى صقل التعبير الشعري لدى زقطان، وجعله أكثر تحديداً وصلابة وحسية، وأبعد ما يكون عن اللغة الغائمة التي تسعى إلى قول العالم والأشياء والمشاعر والأحاسيس، من دون أن تتمكن من قول ذلك كله، لأنها تغترف كلامها من الدارج في التعبير الشعري في حينه، ولا تسعى إلى تخصيص هذا الكلام والتعبير عن أعماق تجربتها الشخصية ورؤيتها المخصوصة للعيش والعالم.
ومن هنا تبدو النقلة الواضحة لغسان زقطان في مجموعته "بطولة الأشياء" (1988) تعبيراً أكثر نضجاً عن الخبرات والتجارب الشخصية، عن الخسارات والانكسارات التي ألمت بالذات والجماعة؛ أي ذات الشاعر وجماعته الفلسطينية، بعد خروج منظمة التحرير من بيروت عام 1982. ولعل العنوان الذي وضعه الشاعر لمجموعته "بطولة الأشياء" هو بمثابة عتبة لدخول القارئ إلى عالم التعبير الشعري الذي يحتفي بالأشياء وذكريات الحرب وشخوصها وهزائمها وحسراتها. ومع أننا نقع على بعض الأمل، على قدر من استمرار الحس المقاوم: "أشار لنا.../ من هنا.../ واختفى في نثار المنازل والانفجار/ وظلت أصابعه في فضاء الجدار/ تشير لنا./ من هنا.../ من هنا". إلا أن التركيز على ديمومة الأشياء، وعدم تغيرها، وبقائها على حالها، (بطولتها كما يقول عنوان المجموعة الشعرية)، وتغير الذات، نضجها ربما، وإقرارها بالخسارة (لم يزل كل شيء على حاله/ مذ خرجنا إلى الحرب/ منذ الطفولة/.../ ... كل شيء كما كان،/ لم يختلف/ سوى نحن/ نحن الذين سقطنا على الحرب/ من جرس المدرسة/ ... ولما نعد بعد...)، يضفي على التعبير الشعري صلابة وصفاء وعمقاً أكثر اتصالاً بحقيقة الأشياء والعالم.
بطولة الأشياء
في مجموعات الشاعر التالية يحدث نوع من القطع مع ما تشدد عليه المجموعات السابقة، في تركيزها على تجارب الآخرين، على حيواتهم، على تصوير بطولة الأشخاص والأشياء؛ وما هو خارجي بالنسبة إلى الذات الشاعرة. ويسعى الشاعر في هذه المرحلة، من تطور تجربته، إلى الغوص في أعماق الذات، إلى إعادة فحص الماضي الشخصي، وتقديمه في ضوء مختلف. بدءاً من هذه المرحلة، يتشكل عالم زقطان الشعري من الذكريات الشخصية، من سنوات التكوين الأولى؛ الطفولة والصبا، والأمكنة التي ارتحل منها وإليها الشاعر، بلدة بيت جالا الفلسطينية التي ولد فيها بعدما لجأ أهله إليها بعد نكبة 1948، وسنوات المخيم قرب مدينة أريحا الفلسطينية، ثم الأردن، ودمشق، وبيروت، وتونس. وهي علامات الرحيل الفلسطيني المستمر منذ النكبة الأولى، وصولاً إلى الحاضر الغامض المفتوح على المجهول: "كأني تهيأت هذا/ ولامست من قبل هذا المكان/ وهذا الصدى/ كأني أرى دائماً، ما مضى"، كما يقول الشاعر في واحدة من قصائد مجموعته "ليس من أجلي" (1992). ويتحول هذا الصدى، في مجموعة تالية "مشاة ينادون إخوتهم" (2015)، إلى سياحة في أرض الموت، إلى تقمص أصوات الموتى التي يسمعها وهم يعبرون "طريق البحيرات".
في "مشاة ينادون إخوتهم" مقاربة لعالم الذكرى من خلال موتى (... يبدؤون بإخراج ذكرياتهم من صدورهم كما تخرج النواة من اللب./ .../ يبدؤون بروايتها لإزالة الغبار من الزوايا المعتمة...). يرسم غسان هنا أحلاماً ورغبات غاربة ومستنفدة، من خلال تصوير أرض الموت وزمان الموتى، مستعيداً ذكريات وعوالم آفلة، واصلاً النهايات بالبدايات، حيث تتردد أصداء الغربة والمنفى التي تحضر بصورة مواربة في قصائد المجموعة. ويمكن إدراج هذا النوع من تذكر الموتى حيواتهم السابقة في ما تطلق عليه إحدى قصائد المجموعة "تدوير المخيلة"، أو إجراء "تعديلات طفيفة"، أو إعادة رسم المشهد بحيث تتوضح قسمات الذكرى وتظهر الشخوص والأحداث والتفاصيل الغائبة: "ليس المقصود استبدالها تماماً/ إضافة أشياء، ربما،/ .../ مضاعفة الصوت/ أو تدوير المخيلة قليلاً.../... كان عليه أن يفعل ذلك منذ سنين طويلة/ بدل أن يكتفي بحملهم، جميعاً/ كما هم". كأني بالشاعر ينعطف هنا بمساره، ليتعرف على ما أهمله، أو غفل عنه، في الماضي، في غمرة انشغاله بصخب الحياة اليومية، والركض وراء الحكايات الكبرى، والقضايا الجامعة. ثمة إذن عودة إلى التفاصيل الصغيرة، إلى البقع الرمادية، والزوايا التي بدت باهتة، أو خافية عن الأنظار في الماضي، ولكن لغة الشعر تستعيدها وتعيد تأطيرها، وتظهيرها، في ما يبدو أنه غاية الشعر، ولحمته وسداه؛ رحلته في طريق البحيرات.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
نثار حيوات سالفة
في مجموعته الشعرية الجديدة "تحدث أيها الغريب تحدث" (دار المتوسط) يواصل غسان زقطان استعادة الذكرى، و"وصف الماضي"، كما هو عنوان كتاب نثري له، وجمع نثار حيوات سالفة، حيث تتداخل سيرة الذات، وتفاصيل حياتها الماضية، وصرختها الأولى، التي تندس "في شقوق المكان"، بتعبير محمود درويش في "لماذا تركت الحصان وحيداً"، بسيرة الجماعة الفلسطينية، وكذلك الجماعة العربية في صعودها وانهيارها، عبر السنوات والقرون. ولعل هذا ما يجعل الشاعر يصرح، في الصفحات الأولى من هذه المجموعة، بمرارة، وحس مأسوي فاجع، وشعور عميق بالخسارة وافتقاد الطريق: "لم يبق سواي في هذه البرية/ يتأمل الرياح التي تنقل الرمل/ والبحيرات التي تجف". فالغريب، الذي تخاطبه الأنا الشاعرة، هو، في وجه من وجوهه، الذات التي لم تعد تتعرف على نفسها في زمن التيه والخسارات: زمن الرمل. يجرد الشاعر إذن من نفسه، على طريقة الشاعر العربي القديم، قريناً يخاطبه، في محاولة يائسة للتعرف على ذاته، على ملامحه الأولى، واسمه الذي ما عاد يذكره: "امكث قليلاً هنا/ أيها الغريب/ لن أسألك عن اسمك/ أو وجهتك./ فقط اجلس تحت ضوء الشمعة التي أشعلتها من أجلك/ لأتذكر الهيئة التي كنتها./ وتحدث، تحدث، تحدث أيها الغريب، تحدث، لأجد صوتي/ الذي أخذته الرياح حمالة الرمل".
يمكن القول، استناداً إلى معرفة خط تطور زقطان الشعري، بدءاً من قصائده الأولى، وغلبة "وصف الماضي" والبحث عن الذكريات المنسية فيه، إن من الصعب فهم قصائد هذه المجموعة من دون قراءة مجمل تجربته. فهو، منذ وجد صوته الخاص، وتخلص من حمولة شعر المقاومة الفلسطيني، بمعجمه ونبرته العالية، وتمجيده الأرض والبطولة والفداء، سعى إلى البحث عن الحميمي، الشخصي، اليومي، المهمل، والمنسي، لابتناء عالمه الشعري. نعثر على ذلك في معظم مجموعاته الشعرية، بدءاً من "بطولة الأشياء". لكنه في "تحدث أيها الغريب تحدث" يعود إلى طفولته ومكانه الأول وصباه وترحله بين المدن والبلدان وتيهه ومنفاه وعودته، عودة بعض أبناء شعبه، المنقوصة، إلى بعض من فلسطين، وافتقاده الصوت والطريق، ما يلجئه إلى حيلة الشاعر العربي القديم في تجريد شخص آخر من ذاته، غريبه الذي يسعى إلى التعرف عليه في ضوء ذاكرة متعبة أوهنتها رحلة التيه والمنفى: "كيف أدلك، أيها الغريب،/ مقصدك بعيد ودروبك وعرة؟". وهو السؤال الذي يعيد وصل تجربة زقطان بالثيمات الأساسية، الحاضرة بقوة خلال العقود الأربعة الأخيرة، في الشعر الفلسطيني، أي المنفى، الغربة، التيه، الفقدان، قلق الوجود، وعدم العثور على أجوبة لـ"الحاضر المكسور".