Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

السوداني أحمد ضحية يطلق سراح "البلاد الأسيرة" روائيا

   حكايات الحب والحرب في الجنوب بصيغة واقعية غرائبية

مشهد من جوبا عاصمة جنوب السودان (صفحة جوبا - فيسبوك)

ليس ثمّة ما هو أكثر تضليلاً من عتبة العنوان في رواية "هيلدا" لأحمد ضحية، الروائي السوداني الأميركي (ويلوز هاوس للطباعة والنشر)، فهي توحي للوهلة الأولى أن المتن الروائي يتمحور حول هذه الشخصية، غير أن التوغل في متاهات الرواية يشي بأنها واحدة من شخصيات كثيرة تتعالق بأنماط مختلفة من العلاقات التي يتشكّل منها النسيج الروائي. وأحمد ضحية روائي وقاص وكاتب، سوداني الهوية أميركي الجنسية، صدر له عدد من الكتب والروايات والمجموعات القصصية، وهو عضو في عدد من الأطر الثقافية الأميركية والسودانية.

واقعية غرائبية

 في "هيلدا" يروي ضحية حكايات الحب والحرب في جنوب السودان، خلال  الحرب الأهلية السودانية، وهو يكنّي عنها بكناية "البلاد الأسيرة" التي تتكرر في النص. وبالتالي لا يوجد في الرواية حكاية واحدة رئيسية، بل نحن إزاء مجموعة من الحكايات الفرعية التي تتجاور وتتراكم وتتعاقب وتتزامن وتتقاطع فيما بينها، في سياق علاقات عابرة، وتشي ببنية روائية مفكّكة لا يجمع بينها سوى الفضاء المكاني المشترك والزمن الروائي الذي تحدث فيه. ولعل مثل هذه البنية تشكّل انعكاساً لواقع الحرب الأهلية التي لا تنتج سوى التفكّك. أمّا العلاقات داخل الحكايات فتتراوح بين الحب (هيلدا / عبدالله) والصداقة (متوكل / سعود) والتبعية (ولي الدين / سعود) والأبوة (باناو / لانجور) والأخوّة (عبدالله / درّية) والتبني (جوزيف / وليم) والنضال ( عبدالله / سالم) وغيرها. على أن القاسم المشترك بين هذه العلاقات الثنائية هو قِصَرُها في معظم الأحيان.

 الفضاء المكاني العام الذي تدور فيه الأحداث متعدّد. يتراوح بين جوبا ووادي النحاس وسواهما من المدن والقرى السودانية. والفضاء المكاني الخاص متحرّك، فتدور الأحداث على متن باخرة أو في جوف قطار أو في محطة انتظار أو في موكب مقاتلين. وهذا الفضاء يعكس حالة عدم الاستقرار ويتناسب مع فضاء الحرب الروائي. والعالم المرجعي الذي تحيل إليه الأحداث مجتمع قبلي متحلّل من التشدّد الأخلاقي، سطحي التدين، متمسّك بالعادات والتقاليد، حريص على تطبيق الطقوس، تتحكّم الغيبيات والمعتقدات البدائية بقرارات أفراده، مما يجعلنا إزاء واقعية سحرية تمتلك فيه الأسطورة قوة الواقعة الحقيقية.

  شخصيات تمثيلية

 في ظل هذا العالم، تتراكم أحداث الرواية، وتنمو العلاقات بين الثنائيات المختلفة، وتتمخّض عن أنماط معينة من الشخصيات التي تتوزع على الخط البياني للرواية بين مثالية مفرطة وواقعية فظّة. وعلى هذا الخط، يمكن أن نرصد عدداً من الشخصيات.

يمثّل الرث باناو السلطة القبلية في تجلياتها العنيفة واستئثارها بالقرار القبلي وتحكّمها بموارد القبيلة؛ فيغتال الرث السابق، ويستولي على الزعامة، ويوزّع ميراث الرث القتيل، ويقيم احتفالات التنصيب، ويحل مشاكل القبيلة، ويفتي في الأمور، ويتولى مقاليد البحث عن أرض جديدة ترتادها القبيلة. على أن الحرب تطيح بهذه الأرض، وتحيلها خراباً ، فعندما يقوم ابنه لانجور بتفقدها، بعد نجاته من الحرب، لا يجد غير الدمار.

يمثل الشيخ ولي الدين الغريق المتحدّر من أب إفريقي وأم بدوية السلطة الدينية الفاسدة في الرواية، ويمزج الدين بالشعوذة، ويوظّف قدراته الخارقة في التأثير في أتباعه، فيتحلقون حوله ليروي لهم مغامراته الغرائبية التي يتقمص في بعضها دور آدم، وينسب إلى نفسه قصة الخلق الأولى. ويستخدم هذه القدرات في الصعود السياسي، فيتغلغل في مفاصل السلطة، وينشئ الأجهزة الأمنية الرديفة، ويصبح الآمر الناهي. ويمثل تراجعاً كبيراً في تاريخ البلاد الأسيرة، ويعيد عقارب الساعة "مئات السنوات إلى الوراء" (ص 36). بينما يمثل الأب جوزف السلطة الدينية الثائرة على الظلم، فيتبنى الأولاد الذين فقدوا أسرهم، ويقوم بتربيتهم وإعدادهم للانخراط دعم القضية الجنوبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 يمثّل عبدالله المندوكورو السلطة الاجتماعية الرصينة، وهو العربي الآتي من الشمال بداعي التجارة والبحث عن أخت مفقودة منذ الصغر، فيمد يد المساعدة للمحتاجين، ويؤمن بالوحدة العابرة للقومية والعرق، ويتحلّل من الانتماءات الضيقة. ويرتبط بهيلدا الجنوبية العاملة في منظمة إغاثة دولية، فيجمع بينهما نبل الهدف وعمق الحب وشرف النضال، ويحظى باحترام الجميع، غير أنه يؤول إلى الصمت واجترار الذكريات القديمة، في نهاية المطاف، وسط دموع زوجته هيلدا.

  شخصيات فرعية

إلى هذه الشخصيات التمثيلية في الرواية، ثمة شخصيات أخرى تحفّ بها وتتعالق معها، بشكل أو بآخر؛ فلانجور ابن الرث باناو، يسعى لاستعادة مجد الأسلاف، ويصادق عبدالله، ويحب سلوى. لكن أياًّ من هذه العلاقات لا تؤتي ثمارها المرجوة. وسعود يرتبط بعلاقة مشبوهة مع الشيخ الغريق، ويكون إحدى أدواته حتى إذا ما دانت السلطة للشيخ ينقلب ضده ويمتنع عن استقباله، ويعيش الازدواجية بين اكتسابه العلم المدني وغرقه في الغيب الديني. يفشل في حب سلوى ويستعيض عنها بحب سلمى، ويعاني العجز عن إعالة أسرته، وينتهي به المطاف أسيراً لدى أنصار الشيخ، ومقتاداً إلى معسكر تدريب للمشاركة في الحرب. ومتوكل يرتبط بعلاقة صداقة مع سعود، ويدفع ثمن هذه العلاقة، فيقبض عليه معه، ويُقتادان إلى التدريب والحرب. ووليم ينشأ في كنف الأب جوزف، ويؤمن بعدالة القضية الجنوبية، وينخرط في أتون النضال، ويتحوّل إلى قائد ميداني، ويطمح إلى القيادة العامة. على أن القاسم المشترك بين هذه الشخصيات المكمّلة هو عدم تحقيق أهدافها، بنسب تختلف من شخصية إلى أخرى.

 من جهة ثانية، تشغل المرأة في الرواية حيّزاً إيجابياًّ بتمظهراتها المختلفة؛ فهيلدا التي تحمل الرواية اسمها أمينة على جذورها، منفتحة على الآخر، تعي ثقافة قومها، تساعدهم من خلال عملها في منطمة إغاثة دولية، تحب زوجها وتسهر على رعايته. وسلوى ترفض الارتباط بسعود لازدواجيته وتبعيته للشيخ الغريق، وتحب، في المقابل، لانجور الذي لا يقارن به، وتنخرط في قضية قومها. وسلمى تصبر على الفقر والبؤس والجوع، وتحثّ زوجها على الاهتمام بأسرته. وأبدوك تتمرد على ذويها، وتنضم إلى جماعة الرمح المقدس، وحين تعود إليهم لا تجد سوى الخراب. والجدة تنقل للحفيدة سيرة الأسرة وتنقل لها عادات الآباء والأجداد. على أن هذه الإيجابيات لا تحجب بطبيعة الحال وقوع بعض النساء بين سندان مجتمع ذكوري ومطرقة أعراف قبلية؛ فتُغتصَب أكيديا في وقت مقدّس ويُحكم على المغتصب بدفع غرامة لوالدها، وتُحتجَز سلمى في غرفة مقفلة لإرغامها على الزواج من تقي ود زهرة الذي يتمتع بالسلطة والجاه، على سبيل المثال لا الحصر.

  الخطاب الروائي

 في روايته، يطرح أحمد ضحية أسئلة الحرب والهوية الدين والسياسة في "البلاد الأسيرة". ولعل طرح الأسئلة هي البداية الطبيعية لمحاولة الإجابة عنها، وتحرير البلاد من أسرها بواسطة الرواية، في المرحلة الأولى. وهو يفعل ذلك بشكل عشوائي. وهو ما ينطبق على الأحداث والشخصيات أيضاً، فنراه ينتقل من حدث إلى آخر، ومن شخصية إلى أخرى، على غير هدى، ما يجعل عملية القراءة محفوفة بالتعب، ويكون على القارئ أن يبذل جهداً كبيراً ليجمع ملامح الشخصيات ونثار الأحداث وجزئيات الحكايات، من مظانّها النصية المتباعدة. ذلك أن الروائي يطيح وحدة الحكاية، ولا يصطنع سلكاً رئيسياًّ ينتظم أحداثها. ولعله يفعل ذلك مجاراة لمقتضيات ما تزعمه رواية ما بعد الحداثة.  وفي عمله هذا، تتداخل أزمنة السرد، وتتجاور أنماط الكلام، وتتعدد ضمائر الروي، وتختلف مستويات اللغة. وبذلك، لا يقتصر التشظّي على عنصر الحكاية بل يتعداه إلى الخطاب الروائي. غير أن ما ينتقص من هذا الجهد المركّب الذي يبذله الروائي هو كثرة الأخطاء، اللغوية والنحوية والإملائية، التي تعتور النص، مما يؤثر سلباً على اللغة الروائية التي تقترب في بعض مستوياتها من مقام الشعر.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة