تبدو الحقائق غائمة في رواية "حراس الحزن"، (دار نوفل 2022)، للكاتب السوداني أمير تاج السر. ليس ثمة واقع مؤكد سوى الحزن الذي يخيم على الرواية منذ بداياتها مع جملة "في هذا النص لا تبحث عن الحزن، دع الحزن يبحث عنك". غير أن هذا الحزن المضمر مسبقاً يختلف عن الحزن التقليدي المقترن حضوره وزواله بالسببية الناتج منها، فيجسد الحزن في الرواية حالاً وجودية رمزية يتم غزلها في ضفيرة واحدة مع السخرية والعبث، فإذا أردنا تفكيك العنوان بنيوياً وتحليله بغرض الدخول إلى بنية الرواية ككل، نجد أن تجليات حال الحزن بتمدداتها الشاسعة في السرد وعبر الشخوص تتخذ من اللعب الساخر في السياق والمفردات والأحداث أحد أعمدة السرد الأساسية والممتعة في آن واحد، ولعل هذا ما يحتاجه نص يؤدي فيه الشك دوراً محورياً في تقديم أبطاله واختيار مواقعهم وأدوارهم.
حضور الغرباء
تتكون الرواية من 27 فصلاً تبدأ مع انشغال البطل السارد "علي" بثلاثة أمور قبل سفره إلى بلدة "خور عاج"، أن يحوم في الحي كي يلمح حبيبته الأولى سمية، وأن يعود إلى مدرسته القديمة ليطمئن على أحوال الشجرة التي زرعها قبل 17ً عاماً، ثم أن يستلقي على ظهره ليحلم لساعات طويلة.
لعل المفارقة تكمن مع القرار الأخير الوارد حدوثه من دون ارتباطه بالسفر، لكن هذا الربط القسري يطرح سؤالاً عن القرارات التي تبدو ظاهرياً واقعية، وضمناً لا تخضع لتسلسل منطقي في النص، لأن الشك في حقيقتها لا يلبث أن يحضر في المقطع السردي اللاحق حين يكشف الراوي حضور أشخاص غرباء إلى بيته ووجودهم لساعات.
هكذا يحمل حدث حضور الغرباء إلى بيت البطل وممارستهم لحياة كاملة فيه مع استهجانه لاحتلال ذاك العجوز مقعده المفضل، ودلالته الرمزية في حلول انتهاك عبثي لحياته، بل إنه يحدث من خلال أشخاص يجهل الراوي قيام سابق معرفة بهم، لذا يبدأ في وضع الافتراضات عن هويتهم، هذا صحافي وذاك لاعب كرة سابق أما العجوز فيبدو أنه نجا من السجن بأعجوبة، لكن إمعاناً في السخرية والعبث يبدو أن البطل السارد لم يعرف نفسه أيضاً وصار يشك في هويته، لنقرأ هذا المقطع المعبر عن حاله، "صرخ فجأة وكنا في منتصف الجلسة، يا صاحب البيت، تلفت الجميع يبحثون بينهم عن صاحب البيت وتلفت معهم، لم أكن أتوقع أن أكون صاحب البيت الذي تعنيه الصرخة، لكن مع الأسف كنت".
لا يتوقف العبث الفانتازي بل الكافكاوي عند هذا الحد، بل يمتد لأن يكون للبطل اسم بدا أنه يجهله أيضاً، فقد عرف عبر أحد الحاضرين أن اسمه "علي صلاح" وسوف ينتقل إلى "خور عاج" لأنه يعمل ضابطاً في الحكومة.
لعبة المرايا
تعمل الرواية على تكثيف الاسقاطات وعكسها على مرآة الواقع عبر الحوارات المكثفة المحتشدة والعابرة بين الأبطال، وهي تكفي للتعبير عن صور اجتماعية ونفسية كاملة. استعان الكاتب أيضاً بتقنية المونولوغ الداخلي ليظهر التباين والتضارب في المواقف والآراء، وللحديث عن القمع والخوف والازدواجية التي تحكم المجتمع، فالعثور مثلاً على طفل حديث الولادة ملقى في القمامة يعتبره أحد الرجال فضيحة، بينما يعلق البطل قائلاً "هذه جريمة، بينما العثور على أمه هي الفضيحة، نحن في عام 1972 لدينا قوانين، لكن لدينا قرارات خاطئة وعنيفة لمفاهيم كثيرة".
تحمل المرآة في النص دلالة على رفض الذات وعدم معرفتها، "المرايا أدوات قهر عظيمة" كما يرى البطل يتجنبها على مدار النص يغطيها بملاءة كي لا تعكس صورته، هو في الحقيقة لا يعرف من هو حقاً، لذا حين تأتي اللحظة التي ينظر فيها إلى المرآة لا يدرك حقاً من يكون. يقول، "ابتسمت ولم أعرف ابتسامتي، كشرت أيضاً لم أعثر على تكشيرتي".
وبالتوازي مع حال الشك تسيطر حال ذهانية يمكن تلمسها لدى جميع الشخوص، فالمرآة لا تحمل دلالة فردية، بل إن المجتمع بكل الوجوه والأفراد الذين يظهرون في النص لا يعرفون ملامحهم، ولا يرغبون في رؤيتها.
ليس الراوي وحده من يكره المرايا، بل كل من جاء إلى البيت وأقام فيه يشترك معه في كره المرايا ورفضها والهرب منها. إنهم أبطال من مختلف الفئات الاجتماعية لكنهم اجتمعوا معاً في المأزق الوجودي ذاته، فالبطل السارد علي والمغني الشريد والصبي المكحل العينين "التائه" والمدير إسماعيل والضابط والصحافي وعبدالعال وسلوى بطرس وسعد نشوة وغيرهم، تتقاطع مصائرهم عند نقطة واحدة هي "التشظي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت الرواية تبدأ مع الغرباء الذين يقتحمون بيت البطل وحياته ككل، فإنها تنتهي في سرد دائري عند النقطة عينها في وجودهم داخل بيته مع حيرة البطل حول الجريمة، والسر الذي يريد أن يودعه في مكان ما، لكن حتى المقبرة يخشى أن يذهب إليها فتكشفه أرواح الموتى.
لا تنتمي رواية "حراس الحزن" إلى نوع الروايات التي تقدم حركة سردية خارجية في عالم منتظم أو مألوف، بل يتشكل جزء كبير من سرديتها في ذهن البطل الراوي من خلال ما يناقش نفسه به من أمور يجرح من خلالها البديهيات ويعيد تشكيلها واعتبارها من جديد، وهنا تكمن فرادة هذا العمل وخصوصيته عن سائر الأعمال التي تطرح رؤية فانتازية مجانية، تقدم الرواية سخرية من الواقع بأسلوب صادم وحقيقي في آن واحد، مثل أن تكون حال "الجدية" كما يرى البطل "تقترح أمراضاً وحوادث طارئة، واعتقالات وسجون في عهد حكم متشنج وعنيف"، أما النوم فيصبح ضاراً بالصحة من وجهة نظر الصبي المكحل الذي تخلى عن اسمه ورضي بأن ينادونه بأي اسم، فيختار له الراوي اسم " التائه".
تتكرر على مدار الرواية عبارات استفهامية تزيد ضبابية الحال الغائمة للوقائع المشكوك في حدوثها، حيث كلمتا " قد" و "ربما" وأفعال مثل "لا أذكر ولا أعرف"، وتساؤلات على وزن "من يكون؟ وما الذي أتى به إلى هنا؟"، تتردد كثيراً على لسان البطل الذي يتحدث بضمير المتكلم على مدار الرواية، كأن يقول واصفاً شخصية عبدالعال، "أحياناً أفكر أنه ليس كياناً بشرياً خالصاً، ربما هو خليط من الإنس والجن، أحياناً أفكر أنه غير موجود وأني ربما أتخيل وجوده"، أو أن يشكك في وجود مديره إسماعيل قائلاً، "عثرت على قرائن أخرى تدل على أن إسماعيل أقام في بيتي ذات يوم، لكن متى؟"، ثم يعود ليستدرك، "فكرت للحظة ربما أنا إسماعيل".
كوميديا سوداء
تبدو الشخصيات جميعها مندمجة في تأدية أدوارها ضمن كوميديا سوداء تجمع بين الواقع الصرف والفانتازيا الساخرة، مثلاً "الشاحنة في الموقف تذهب إلى بلدة تدعى" بلا اسم"، حيث يقف منادياً طفل يجمع الناس ليذهبوا إليها. القوادة اسمها "عشوائية"، والقسيس وأبراموشا من موزعي الحشيش، والمارشال إسحاق من هواياته تلميع القاذورات والمناداة عليها بصوت عسكري مخبول، أما البلدة المتخيلة "خور عاج" فإنها بلا ضابط إداري طول عمرها، وليست هناك مشكلة أن تستمر على هذا الحال".
الزمن المشار إليه في الرواية هو السبعينيات من القرن الماضي، وعند محاولة تلمس الفضاء المكاني يمكن اعتبار أن الأماكن تقع في السودان، وهذا يأتي ذكره مباشرة من خلال أسماء بعض الأشياء مثل ماركة "غوتشي- سودان" وغيرها، لكن في الوقت عينه من الممكن وجود هذه الأماكن في أي بلد يعاني ديكتاتورية عنيفة وفقراً وظلماً وفساداً.
تستدعي شخصية "علي" في الرواية "أبله" دوستويفسكي وسائر الشخصيات الروائية التي تجمع في لحظة واحدة بين حافة العبقرية وفوهة الجنون، فتنطق بالحكمة في لحظات عبثية، وتتمكن من الإشارة بنفاذ بصيرة إلى أماكن الخلل في المجتمع، لكنها في الوقت عينه شخصية عاجزة عن التغيير، لذا يقرر مديره إسماعيل أن يبوح له بسر عجزه الجنسي لأنه يراه الشخص الذي لا يرى ولا يسمع ولا يتكلم.
وفي العودة لمفردة الحزن التي حضرت في العنوان، وفي ختام النص أيضاً يمكن القول إن الحزن يحمل في جوهره طبقات تحتية لمجموعة من الأحاسيس الإنسانية التي بدأ أولها مع الأذى في اقتحام البيت مع دلالة الفعل الرمزية، وما تلاه من كرنفالات عبثية لاحقة، يختمها البطل السارد قائلاً، "كانت باختصار أشياء كثيرة تمثل الحزن في أرقى صوره، الحزن الذي قد يكون حزني أو حزن إسماعيل أو حزن شخص آخر غير موجود في محيطي، وحطت أشلاء حياته عندي بطريقة أو بأخرى"، فما الذي أرادت الرواية أن تقوله للقارئ سوى تقديم تمثيلات لواقع عابث مؤذ وساحق للروح، اختلطت فيه الأوراق بسريالية مخيفة، فلا يمكن تمييز أي الأشخاص كان هنا وأيهم رحل، وأي الوقائع حدثت فعلاً أو لم تحدث.