يُحاول الناقد المغربي شرف الدين ماجدولين، بجدية واضحة، الخروج من بوتقة الكتابة النقدية في موضوع الرواية في شكلها المألوف التي بدت اليوم وكأنها صيحة الثقافة العربية المعاصرة في غياب مهول لدراسات الشعر والقصة والتشكيل والسينما. وكأن الثقافة العربية، هي ثقافة خِطاب وكلمة ولم تعرف أبداً الصُورة بمختلف تعبيراتها الفنية من تشكيل وفوتوغرافيا على سبيل المثال لا الحصر، وما استطاعت هذه المجالات بعينها أن تفتحه من آفاق مذهلة على مستوى التجديد والتفكير في خصوصيات النقد الأدبي، الذي يجد نفسه اليوم في حالة صراع وثورة على ذاته، بغية التخلص من بعض الأزعومات لتغيير هندامه وطريقة تقييمه للعمل الأدبي في محاولة استلهام العلوم الإنسانية والاجتماعية لمقاربة الأعمال الأدبية والفنية. وهو ما فتح قارة مجهولة في تاريخ النقد الأدبي المعاصر والانفتاح أكثر على قضايا ظلت مُهمشة وفي حكم اللامفكر فيه داخل النقد الأدبي العربي المعاصر، الذي يبدو في بعض منطلقاته وتجلياته، يكرر نفسه عن طريق موضوعات باتت مألوفة، بل إن الأخطر من ذلك هو في عموميته، بحيث أن ما يُكتب عن رواية قابل أن يصلح لقراءة عمل شعري أو مسرحي، وبالتالي، فنحن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى تفكير مكثف في مفاهيم ومصطلحات النقد الأدبي وضرورة تمييزها عن النقد الفني وما يفرضه من معاينة دائمة للعمل الفني وفهم طبيعة اشتغاله ومراحله الجنينية التي قطعها للوصول إلى "اكتماله"، من دون أن ننسى ضرورة استلهام المعارف الإنسانية في إضاءة معالم الأعمال الأدبية والفنية، وتحررها من سُلطة التنميطات الأقنومية المُتداولة.
منذ سبعينيات القرن المنصرم من خلال الانفتاح على قضايا ومناهج جديدة، قد تُسعفنا في فهم طبيعة أشكال الأعمال الأدبية والفنية، كما تُنتج اليوم وليس البارحة. فالمفاهيم الأدبية تتغير، إنها تُشبه حيوات البشر دائماً تشيح وتُنهك ولم تعد قادرة كأداة على مقاربة فيزيونومية واقع عربي مُتغير ومنفلت من قبضة القواعد والمفاهيم والمصطلحات الحديثة، التي كانت تحتكم إليها الرواية إبان القرن الثامن عشر. وبالتالي لا يجوز الركون إلى هذه المفاهيم في مقاربة الرواية المعاصرة، ذات البناء المعماري المُركب المختلف وذات الصلابة الفكرية والتاريخية، كما نُعاينها في أعمال التركية إليف شافاك والسوري سليم بركات.
شرف الدين ماجدولين هو واحد من النقاد العرب، الذين فطنوا مُبكراً إلى ضرورة التفكير في قضايا الصُورة والتصور في علاقتهما بالمتخيّل الروائي والتشكيلي. فمنذ أعماله النقدية الأولى، ظل الرجل وفياً لمنهجه الأركيولوجي، الذي يقوم على الحفر في ثنايا الخطاب الروائي العربي المعاصر وفي تقاطعاته المعرفية مع أجناس فنية وأدبية أخرى مثل القصة والتشكيل والسينما من خلال التركيز على دراسة مفهوم الصُورة داخل السرد. وهي مقاربة فريدة، ستحرر لا محالة طبيعة الكتابة النقدية، وتجعلها في حوار فعلي وسجال معرفي مع أنماط تعبيرية أخرى لتحقيق بعض من المتع المتناغمة بين الآداب والفنون، وأيضاً لتحرير النقد من جَفافيته وجعله مفهوماً مُتغيراً وقابلاً للتعدد مع كل قراءة لعمل أدبي أو فني، ولما لا يُصبح في طرائق تشكله وكأنه ممارسة فكرية وليست وسائطية، تعمل على تحليل وفك شفرات عمل أدبي أو فني ما. وهذا الأمر، هو ما نتلمسه بوعي داخل بعض كتب الناقد شرف الدين ماجدولين وحرصه على مساءلة الأعمال الأدبية والفنية عوض الاكتفاء بتحليلها وأيضاً التفكير في بنية مُتخيّلها عن طريق طرح أسئلة جريئة في هذا المضمار، تخص طبيعة الكتابة الروائية من خلال مدخل تشكيلي وفهم ميكانيزماتها وطرائق تبلورها داخل الخطاب الأدبي المعاصر. نذكر منها "الفتنة والآخر: أنساق الغيرية في السرد العربي"، "حكايات صُوَر : تأويلات نقدية"، "الصورة السردية"، "بيان شهرزاد"، "ترويض الحكاية".
مدخل نفي الى الرواية
في كتابه الجديد "الرسّام والروائي : الصُورة وإنتاج الأثر"(2020) الصادر عن منشورات المركز الثقافي للكتاب، يعمل شرف الدين ماجدولين على التفكير في الرواية من خلال المدخل الفني التشكيلي على الخصوص، مُستكنهاً طبيعة العلاقة وأواصر الصداقة الإبداعية، التي يُمكن أن تُنتسج بين الرسّام والروائي، مُسلطاً الضوء على المسار الفني، الذي قطعته هذه العلاقة بين الطرفية منذ القرن التاسع عشر إلى الآن. ويتوقف عند أعمال فنية وأدبية مخصوصة، عند كل من بيكاسو وأورهان باموك وعاصم الباشا وإيمان يحيى وكمال بلاطة وطوني موريسون ورضوى عاشور ويمنى العيد ولطيفة الدليمي، وعبد اللطيف اللعبي وغيرهم من الفنانين والأدباء، الذين اشتغل عليهم شرف الدين لفهم خصوصيات هذه العلاقة بين الرسّام والروائي المُحتشمة في تاريخ النقد المعاصر والوقوف عند نماذج مُعينة منها واستيعاب نقط التقاطع والتلاقي بين الرسّام والروائي عن التخيلات والموضوعات والمواد والأساليب التعبيرية. ثم يعمل على تشكيل مفهوم التحفة بينهما وإمكانية تبادل الأدوار والمواقع وتخيص حدود الامتاع والمؤانسة لهدف وحيد يكمن في قدرة كل من الرسّام والروائي على إبداع الأثر وإنتاج صُور فنية وأدبية ذات دلالات عميقة، تكمن في إنتاج خطاب فني قائم على تحرير الفكر والنقد معاً وعلى طرح أسئلة حقيقية حول العمل الفني والأدبي. وهذه الخاصية لم تحملها، إلا الأعمال الكبرى في تاريخ الفن والأدب العربيين عند كل من عبد الرحمن منيف ونجيب محفوظ ومحمد القاسمي وفؤاد بلامين وعبد اللطيف اللعبي ومحمد برادة وإتيل عدنان وغيرهم من المبدعين، الذين عملوا على إنتاج خطاب لصُورهم التشكيلية والروائية. وهو خطاب يغوص في طبيعة الحياة العربية سياسياً واجتماعياُ وثقافياً، بطرق مختلفة من التعبيرات الحكائية والوصفية والتشكيلية وبأساليب مجازية تتراوح بين الكلمة والمادة والسند، كلٌ يعبر عن هذا الخطاب بوسيلته الإبداعية. يقول المؤلف: "يسعى الرسّام في لوحاته لأن يقدم حكاية، تلتقط العين تفاصيلها، وتعيد صياغتها لتكسبها معنى، في حدود السند وبالنظر إلى مادته، وما تتشكل عبره من ألوان وضياء وظلال، هي تعبير عن فكرة وتشكيل لموضوع، وإنحياز لأسلوب، يقدم للناظر، مثلما أن الروائي يتشوف عبر مكونات نصه المكتوب إلى أن يرسم شخصيات ويصور فضاءات وأزمنة ومواقف وعواطف وأفكار، وأن يشكل لوحات لفظية".
من هنا نرى أن مفهوم الكتابة عند شرف الدين ماجدولين، يستند إلى خاصية هامة، هي ما تلحم عناصر النص وقضاياه وموضوعاته وما يتشعب عنها من أسئلة تخص المحكي والمصور. وتتمثل في إمكانية أوقدرة الصُور الأدبية والأعمال الفنية على حد سواء في إنتاج الأثر، منذ بداية صداقة إبداعية وإنسانية بين الطرفين، لتصبح في النهاية مدخلاً لخطاب فكري قائم على تزاوج بين الفن والأدب. وهذا النوع من التزاوج المعرفي، هو القادر على اجتراح خطاب فكري يتأرجح بين التماهي في عمق النص والإقامة في تخوم العمل الفني. هنا تصبح الرواية واللوحة قادرتين على خلق سجال معرفي متبادل وعميق، يقوم على رصد التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية التي طالت المجتمعات العربية في فترة ما من تاريخها الجريح، يصبح من خلالها الفرد مرآة لمجتمعه. وهذا الأمر لن يتأتى إلا من خلال أعمال فنية قادرة على تحريك الفكر وخلخلة المألوف وكشف المخبوء من واقعنا المعاش، كما هو الشأن في لوحة "لاغيرنكا" لبابلو بيكاسو، التي أسيل عنها الكثير من الحبر، نظراً لقدرتها على تأزيم الشكل وخلخلة المعنى، وكشف المخبوء من الألم الذي عانى منه الإسبان إبان القرن العشرين، بخاصة أنها تحمل في طياتها خطاباً مُتعدداً له علاقة بالسياة والاجتماع، وما أثارته من جدل واسع في تاريخ التشكيل الغربي خلال القرن العشرين. بل وحتى العربي، بحكم أن العديد من التشكيليين العرب أعادوا إنتاج هذا العمل، الذي تجاوز السياق التاريخي الإسباني إلى فضاءات أخرى يراعى فيها البعد الإنساني أكثر من أي شيء. وهذا الأمر بالذات، جعل شرف الدين ماجدولين، يخصص لها الفصل الثالث من كتابه، لكن وجهة نظر مختلفة، تتمثل في استشكال صورة اللوحة وتداعياتها عبر نماذج من السرد العربي المعاصر، عملت على صياغة المُتخيّل الفني لهذه اللوحة داخل قالب روائي أو رحلي أو نقدي عند كل من يمنى العيد (زمن المتاهة) وفواز طرابلسي (غيرنيكا بيروت) ولطفية الدليمي (مدني وأهوائي).