Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

واسيني الأعرج ينتقد خطأ النقد في تبجيل رواية "زينب"

البحث في كيفية استعادة التراث السردي العربي في عصر الحداثة

الروائي والناقد الجزائري واسيني الأعرج (صفحة الكاتب - فيسبوك)

هل قراءة السرد العربي القديم في ضوء المناهج الحديثة تعيد إليه راهنيّته؟ وهل يستجيب المنجز السردي القديم لهذه المناهج؟ وهل لحظة القطيعة التي شكلتها رواية "زينب" لمحمد حسين هيكل مع هذا المنجز هي إيجابية أم سلبية؟ هذه الأسئلة وغيرها يطرحها الروائي والباحث الجزائري واسيني الأعرج في كتابه الجديد "المنجز السردي العربي القديم في ضوء المناهج النقدية الحديثة"، الصادر عن "المؤسسة العربية للدراسات والنشر" في بيروت. ويحاول الإجابة عنها في الكتاب، من خلال مقدمة وسبعة فصول وخاتمة. والكتاب هو التاسع والعشرون في حصيلة الأعرج الأدبية الموزعة على القصة القصيرة والسيرة الذاتية والدراسة الأكاديمية والرواية. ولعل الحافز المباشر لتأليف الكتاب يكمن في استشعار المؤلف خطراً يحيق بالمنجز العربي السردي القديم بعد انتهائه من قراءة كتاب "الأدب في خطر" لتزفيتان تودوروف، فانبرى يحاول تأهيل النص السردي العربي القديم قرائياًّ، من خلال الكتاب، ما شكّل جهداً أكاديمياًّ مضافاً إلى الجهود الأكاديمية الأخرى المبذولة على هذا الصعيد.

مسلّمات نقدية

في كتابه، يضع الأعرج بعض المسلّمات النقدية على بساط البحث، ويدعو إلى إعادة النظر فيها، من قبيل: نشأة الرواية العربية وتأسيسيّة "زينب" فيها، ارتباط لحظة الحداثة العربية بحملة نابليون بونابارت على مصر، القطيعة الثقافية مع التراث، ومسؤولية النقد العربي عمّا آل إليه السرد العربي القديم. وهو في طرح هذه المسلمات يخالف ما تواضع عليه مؤرّخو الأدب ونقّاده بشأنها. وإذا كان الدرس النقدي العربي يجمع على تأسيسية "زينب" في نشأة الرواية العربية وعلى القطيعة الإيجابية التي أحدثتها مع التراث السردي العربي، فإن الأعرج يرى أن تلك الرواية "لم تكن خيراً على الرواية العربية، بل العكس هو الصحيح"، وأن القطيعة كانت سلبية ولم تكن إيجابية، وتنكّرت لعشرة قرون من السرد العربي القديم تمخّضت عن آثار خالدة لا تزال على قيد الحياة، لا سيّما أن الرواية هي مجرّد تقليد لرواية "جولي أو هيلويز الجديدة" لجان جاك روسو، وقامت بإسقاط قيم مدينية فرنسية على وسط ريفي مصري أفقدتها قدرتها على الإيهام بالواقعية. وهو، لكي يثبت هذه الفرضية، يفرد لها الفصول السبعة من كتابه، ويبذل جهوداً تنظيرية وتطبيقية كبيرة.

خطيئة نقدية

ينطلق الأعرج في جهوده من مناهج النقد الغربية والدراسات النصية الحديثة وما تتيحه من أدوات نقدية، على مستويي المصطلحات والمقولات، ويقوم بتطبيقها على نصوص سردية قديمة مع الأخذ بعين الاعتبار النظم الداخلية التي تحكم آليات اشتغال هذه النصوص. غير أن المناهج الخارجية تطغى على النظم الداخلية في مقارباته. ويخلص إلى راهنية النصوص القديمة وقابليتها للقراءة المنهجية الحديثة، ما يجعل القفز فوقها الذي نظّر له النقد التاريخي العربي، تحت شعار مواكبة الرواية الغربية الحديثة، قطيعة سلبية مع تراث سردي غني. ولولا ارتكاب هذه الخطيئة النقدية لكانت الرواية العربية في مكان آخر. أمّا النصوص التي يخضعها الأعرج لضوء المناهج الحديثة فهي: "ألف ليلة وليلة"، "حي بن يقظان"، "رسالة الغفران"، "تغريبة بني هلال"، "الإسرا إلى المقام الأسرى"، و" التعريف بابن خلدون". وغنيٌّ عن التعبير أن هذه النصوص تشكل مرجعيات سردية لكثير من الأعمال السردية الغربية.

على المستوى الإجرائي، يقوم الأعرج بقراءة التنضيدات النظرية السردية المتمظهرة في البنيات والمكوّنات والعتبات والأنواع، في ضوء مناهج النقد الحديثة. ويقوم بتلمّس تمظهراتها في النصوص القديمة المختارة؛ فيختار بعضها ويقتفي أثر تمظهرها في هذا النص أو ذاك. وبذلك، يقوم بعملية إسقاط منهجي خارجية على النص أكثر ممّا ينطلق من نظم داخلية تنتظم مكوّناته. ولعل هذا الإجراء يتناسب مع الهدف من الكتاب وهو إثبات راهنية النص السردي العربي القديم وصلاحيته للقراءة الحديثة.

المحيط النصي

 بعد تحديده بنيات النص السردي ومكوّناته في الفصل الأول، واختيار التنضيدات النظرية المتعلقة بالنصوص المدروسة، من محيط نصي وبداءة وخرجة وقصة تخييلية وشخصيات وإطار زمكاني وفعل تخييل، يقوم الباحث، في الفصل الثاني، على المستوى التنظيري، بالتعريف بعتبات النص في ضوء المناهج الحديثة، باعتبارها "جزءاً حيوياًّ من الدرس النصي" ، فيتناول المحيط النصي بما هو "العناوين الأساسية والفرعية، اسم الكاتب، التجنيس، الصور، كلمة الغلاف، الإهداءات، الإحالات الشارحة، مراسلات الكتاب..." وغيرها. ويقسم المحيط النصي، استناداً إلى جيرار جنيت، إلى نشري وتأليفي وداخلي وخارجي. ويقوم، على المستوى التطبيقي، برصد تمظهراته في "ألف ليلة وليلة"، في ضوء المقاربة النظرية، ويشير إلى معضلتين اثنتين متعلّقتين به. تتعلق الأولى بغياب اسم الكاتب إمّا لأن النص مكوّن جماعي أو لأن الخوف من المنع جعل الكاتب يغفل اسمه، وتتعلق الثانية بالعنوان ودلالة إضافة ليلة على الألف لا سيما أن "العقل البشري يميل عادة إلى الأرقام المغلقة". وبهذا، يثبت الباحث قابلية نص الليالي للقراءة الحديثة انطلاقاً من العتبات النصية.

البداءة والختمة

في الفصل الثالث من كتابه، يتوقف الأعرج عند مصطلحي اللحظة البدئية بأنواعها الأربعة: الثابت والتدريجي والدينامي والتعطيلي، واللحظة الختمية بأنواعها الأربعة: الكلاسيكي والبوليسي والمعلّق والمغلق. ويعرّف بهذه الأنواع ووظائفها. ويقترح مصطلحي البِداءة والختمة بدلاً من المصطلحين المذكورين أعلاه. وإذ يختبر هذين المقترحين على نص "حي بن يقظان"، يخلص إلى وجود بداءتين اثنتين فيه، إنسانية وطبيعية، في بداية النص، ووجود خرجة صعبة مركّبة في نهايته. على أن إغراق الدرس النقدي بهذه التفاصيل من شأنه أن يزيده تعقيداً ويبعد القارئ عن النص المدروس بدلاً من تقريبه منه.  وهو ما ينطبق، إلى حد معيّن، على بنيتي الفضاء والزمن الروائيين اللذين يدرسهما في الفصل الرابع من الكتاب، فيشير إلى تلازم هاتين البنيتين والعلاقة الجدلية بينهما التي يطلق عليها الكرونوتوب بتصنيفاته المختلفة، التشخيصي والثقافي والوجودي والأجناسي والثيماتي. ويتوقف عند البنية الزمنية بزمنيها الخطي والتركيبي بتقنياته المختلفة. وإذ يطبق هاتين البنيتين على "رسالة الغفران"، يخلص إلى أن الفضاء المكاني فيها متعدد بين الافتراضي والحقيقي وما بينهما، وأن البنية الزمنية مركّبة من ماضٍ متخيّل وحاضر "متوقّع". وبذلك، تتميز "رسالة الغفران" بحداثة سردية، على المستويين المكاني والزماني.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

 في السياق نفسه، يقرأ الباحث في "تغريبة بني هلال" من منظور الشخصيات باعتبارها علامات. وإذ يأخذ على النقد التاريخي خلطه بين الشخصية الروائية والشخص الواقعي، فإنه يذهب مع النقد الحديث إلى الفصل بينهما معتبراً أن الشخصيات الروائية هي كيانات لغوية ورقية لا وجود لها خارج الرواية "حتى ولو لم تقطع مع المرجع الاجتماعي الذي لا يعني الشيء الكثير في العملية الإبداعية"، على حد تعبيره. ويصنف هذه الشخصيات، مع فيليب هامون، إلى مرجعية وإشارية واستذكارية، ويضرب الأمثلة عليها من النص الروائي العربي. وبتطبيق هذا التصنيف على "تغريبة بني هلال" يخلص إلى تواجدها فيها.

من جهة ثانية، يدخل الأعرج، في الفصل السادس من كتابه، إلى نص "الإسرا إلى المقام الأسرى" لمحيي الدين ابن عربي من باب التخييل السردي المفضي إلى العجائبي. وهو، إذ يشير إلى أهمية التخييل في البنية الأدبية لا سيما السردية منها، وضرورة تلازمه مع الحرية، ومفارقة الحقيقة الروائية للحقيقة الموضوعية، على المستوى النظري، ويرصد بعض تمظهراته في أعمال أونوري دو بلزاك وغوستاف فلوبير وإميل زولا، فإنه يقتفي آثاره في نص ابن عربي، على المستوى التطبيقي، ويشير إلى تماديه التخييلي واستناده إلى المعراج الرسولي، ويتوقف عند أقسامه الخمسة المغرقة في التخيّل، المتعاقبة في إطار رحلة روحية عجائبية هي تنويع على المعراج النبوي الشريف. وبذلك، يشتمل النص على فعل التخييل العجائبي العرفاني، ويثبت قابليته للقراءة الحديثة.

السيرة الذاتية

أمّا النص المسمّى بـ"التعريف بابن خلدون" فيدخل إليه الباحث من باب السيرة الذاتية؛ وهو، إذ يعرف بهذا النوع السردي، ويقدم نبذة تاريخية عنه، ويقارن بين السيرتين العربية والأوروبية، في المقاربة النظرية من الفصل السابع والأخير، يخلص إلى أنها "حكي استرجاعي نثري يقوم به شخص واقعي عن ودوده الخاص، ويركز فيه على حياته الفردية، وعلى تاريخ شخصيته بصفة عامة"، على حد تعريف فيليب لوجون، وأن العرب بدأوا بكتابة هذا النوع السردي منذ القرن الخامس الهجري بصيغة شذرات أولية ذات طابع تاريخي، وتوقفوا عن كتابته في عصر الانحطاط. ثم عادوا إليه في عصر النهضة حتى إذا أزف القرن العشرون شهد انفجاراً في هذا النوع. وبالتالي سبقوا الأوروبيين إلى كتابة السيرة الذاتية بدليل أن ابن خلدون في "التعريف" سبق روسو في "الاعترافات" بثلاثة قرون. غير أن الأوروبيين كانوا أسبق إلى التأصيل النقدي لهذا النوع، وهو ما بدأوه في العام 1956. وبإسقاط محددات السيرة الذاتية على سيرة ابن خلدون، يتبيّن للدارس أنها تستجيب لها إلى حد كبير.   

 لم يستخدم واسيني الأعرج جميع التنضيدات النظرية الحديثة في قراءة المنجز السردي العربي القديم، بل اختار أجزاء منها ورصد مدى تمظهرها في هذا النص أو ذاك، وهذه الأجزاء تختلف من نص إلى آخر. ومن هنا، نستنتج أن استجابة هذا المنجز  للقراءة الحديثة هي استجابة جزئية وليست كلية، وهذا أمر طبيعي ينسجم مع منطق الأمور وصيرورتها التاريخية. يقول الاعرج: "نص "ألف ليلة وليلة" ليس رواية بالمقاييس الغربية، لكنه ليس أقل سردية من رواية "زينب" بل تخطاها من حيث البنية التخييلية التي تعتبر ركيزة العمل الفني. ولم يكن "حي بن يقظان" أقل أسطورية ومتانة بناء وفلسفة من رواية "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ. ولم تكن رحلة ابن جبير في أعماق البحار أقل قوة وتأثيراً في القارئ من الروايات المشبعة بالمغامرات".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة