إذا كان غابرييل غارسيا ماركيز، نفسه، قد تحفظ على تحويل روايته "الحب في زمن الكوليرا"، الصادرة عام 1982، إلى فيلم سينمائي، وظل ثلاثة أعوام كاملة يرفض طلبات المخرج مايك نويل، لأنه كما قال "أفضل أن يتخيل قارئ كتابي الشخصيات كما يحلو له، وأن يرسم ملامحها كما يريد. أما عندما يشاهد الرواية على الشاشة فإن الشخصيات ستصبح ذات أشكال محددة هي أشكال الممثلين، وهي ليست تلك الشخصيات التي يمكن أن يتخيلها المرء أثناء القراءة"، ثم وافق تحت ضغط المخرج وإلحاحه، ما بالنا إذاً، بتحويل الرواية إلى عمل مسرحي، مع الأخذ في الاعتبار أن السينما، بإمكاناتها الكبيرة، أكثر قدرة وسحراً في تجسيد الأحداث.
على أية حال فإن الفيلم السينمائي، الذي قدمت فيه المطربة الكولومبية الشهيرة شاكيرا أغنيتين، وتم عرضه في عام 2007، لم يحقق نجاحاً كبيراً، فوصفته مجلة "تايم" الأميركية بأنه "منافس جدي على لقب أسوأ فيلم صنع عن رواية على الإطلاق".
ماذا إذاً عن تحويل الرواية إلى عرض مسرحي، وهو تحدٍّ صعب بالتأكيد، تلزمه مهارات خاصة، في توظيف عناصر العرض كافة؟ ويلزمه كذلك، وهذا هو الأهم، تقدير موقف، بمعنى الإقرار بأننا بصدد رواية باذخة في لغتها وأحداثها وشخصياتها وعوالمها، مما يجعل نقلها إلى وسيط آخر (المسرح)، يتطلب قدراً عالياً من التكثيف، وفض الاشتباك بين خطوطها الكثيرة، ودروبها المتعرجة، بما لا يخل بجوهرها الأساس، أو برسائلها الفكرية والجمالية.
تكثيف النص
العرض المسرحي "الحب في زمن الكوليرا" الذي قدمه مسرح الطليعة المصري (وزارة الثقافة)، سعى صناعه إلى تقديم توليفة تجمع بين السرد والتمثيل والغناء والاستعراض، ليسهم كل عنصر منها، ولو بقدر، في الإمساك بجوهر الرواية وأسئلتها.
نص العرض، كتبه مينا بباوي، عن الترجمة العربية لصالح علماني، استبعد كثيراً من الأحداث التي تحفل بها الرواية، واكتفى ببعض الأحداث التي تخص، مباشرة، قصة الحب بين فيرمينا وفلورنتينو. واكتفى كذلك بعدد قليل من الشخصيات مثل فلورنتينو، وفيرمينا، والزوج أوروبينو، والأب لورنزو، والعمة، وبعض الشخصيات الثانوية. وأسهم السرد، الذي قامت به بعض الشخصيات في تكثيف النص، واستغنى به المخرج السعيد منسي، في مشاهد عدة، عن التشخيص.
الشخصيات تروي
حرص المخرج على استخدام السرد من خلال الشخوص أنفسهم، فكل منهم، في بؤرة إضاءته يحكي بعضاً مما يخصه. لسنا أمام راوٍ تقليدي، فأغلب الشخصيات جاءت لتحكي، كما عاش ماركيز ليحكي. والحكي أو السرد هنا، جاء خاطفاً، حفاظاً على إيقاع العرض، وفي الوقت نفسه تم تضفيره، أو مزجه، بالتشخيص في شكل انسيابي لا يشعر المشاهد بأن هناك قطعاً ما، أو تشتيتاً لذهنه. وسيطرت فكرة التكثيف على المخرج في عديد من المشاهد، التي تم تجسيدها، إما عن طريق حركة الممثلين الصامتة، التي جاءت متوافقة تماماً مع دوافع الشخصيات، أو التعبير الحركي المتقن للراقصين (صممه محمد ميزو)، الذي جاء في بعض الأحيان معادلاً جمالياً للحدث المجسد، وفي بعضها الآخر حضر بذاته منفرداً وبديلاً من التشخيص كعنصر فاعل داخل دراما العرض ومطور لها.
حرص المخرج، كذلك، على استغلال كل عنصر لديه وتوظيفه بما يخدم رؤيته، بمعنى أن لا شيء مجانياً في العرض. إضاءة عز حلمي التي أدركت طبيعة العرض ورسالته وأجواءه ونقلاته من بنى صغرى إلى أخرى كبرى، أو من لحظات حدته واحتدامه إلى لحظات صفائه ورومانسيته. وقد أصاب في تعدد الألوان ومصادر الإسقاط، واستخدام الفيديو - بروجيكتور في مشهد النهاية لتحلق طيور بيضاء في سماء ذلك البحر الذي انطلق عبره قارب الحبيبين، ثم ليعود كل شيء كما كان، حتى لو مر عليه واحد وخمسون عاماً وتسعة أشهر وأربعة أيام، وهي الفترة التي أمضاها فلورنتينو منتظراً فيريمنا، التي أحبها وارتبطت بغيره، بسبب التقاليد التي تسود الفترة التي تتناولها الرواية (1880-1930).
الأحداث تدور في منطقة الكاريبي، والأماكن متعددة، وهو ما يصعب مهمة مصمم الديكور (مينا رضا) إذا لم يعمل خياله، ويقدم تصوره الجمالي الذي يتيح جريان الأحداث من دون ارتباكات. جاء الديكور في منظر واحد ثابت مائل إلى التعبيرية، فلا مكان محدداً يمكننا الإشارة إليه. مجموعة ستائر مدلاة من أعلى، وقطع دائرية يستخدمها الممثلون منصات أثناء السرد، وبعض القطع الأخرى في مستويات أعلى، وفي العمق قمر تتبدل إضاءاته حسب الحالة. ووسط هذا الفضاء شبه الخالي، يتم استخدام بعض القطع للتعبير عن المكان الذي تدور فيه الأحداث، منزل، حديقة، مكتب، سفينة... وهو ما أتاح الفرصة لحركة الممثلين والراقصين.
الوعي الموسيقي
في العرض بعض الأغاني الرومانسية (كتبها حامد السحرتي)، وجاءت هي الأخرى عنصراً فاعلاً في الدراما ومستقى من أجوائها. واستلهم مؤلف الموسيقى (وليد الشهاوي)، سواء في الأغاني أو الرقصات، أو في المقاطع المصاحبة للأحداث والمبطنة لها، ملامح من الموسيقى اللاتينية التي كانت سائدة في تلك الفترة، مستخدماً الآلات الوترية والخشبية، لذلك شكلت الموسيقى عنصراً جمالياً مهماً في العرض وضابطاً لإيقاعه بتوافقها الواضح مع الأحداث، والتعبير عنها، وليس التعليق عليها. ولم تشذ الملابس (صممتها مها عبد الرحمن) عن زمن النص، ولا عن طبيعة الشخصيات ووضعها الاجتماعي.
في ظل كل هذه العناصر المتضافرة والفاعلة، التي أجاد المخرج توظيفها لتحقيق رؤيته، كان على التمثيل أن يستغل هذه الطاقات التي حملته على أجنحتها، ويبرز كعنصر استثنائي متوجاً لها. لعب محمد فريد دور فلورنتينو الكبير، ذلك العجوز العاشق، الذي ظل منتظراً حبيبته أكثر من خمسين عاماً، مخلصاً لقسمه بأن يظل يحبها ما عاش، برهافة وحساسية بالغين. واستخدم صوته وجسده بطريقة تنم عن فهمه العميق للشخصية وأزمتها، بخاصة أنه قدم مرحلتين من عمر الشخصية، إحداهما في منتصف العمر والأخرى في أواخره. وكان فيهما مقنعاً وواعياً إلى التغيرات النفسية والجسدية التي طرأت على الشخصية، التي بدا الممثل محباً لها ومتعاطفاً مع أزمتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكذلك محمد صلاح (أوروبينو الكبير) ذلك الطبيب الشهير المتزوج من فيرمينا: أداء هادئ ورصين ومتوافق مع طبيعته ووضعه المهني والاجتماعي، ومحمود البيطار (الأب) الذي يعكس صورة المجتمع المغلق وقيمه الاجتماعية البالية، ووضعه هو كتاجر بغال، بخفة ظل شديدة. ودينا أحمد (فيرمينا الكبيرة) بإحساسها المرهف كزوجة ارتبطت برجل على غير هواها، وبعد رحيله التقت بحبيبها الأول الذي حالت التقاليد دون الارتباط به. وأبانوب لطيف (أوروبينو الشاب)، بحيويته وفهمه الجيد لطبيعة الشخصية ومرحلتها العمرية، وشمس الشرقاوي (العمة المتمردة) التي هي صورة أخرى لابنة الأخ فيرمينا، عانت تقاليد المجتمع ولم تتزوج حبيبها. ونسمة عادل (فيرمينا الشابة)، وعصام الدين أشرف (فلورنتينو الشاب)، وآية خلف (الراهبة) ودينا السواح (إمركا)، ووفاء قابيل (هيلدرااند)، ومي السباعي (الأم)، وأحمد حسن (القبطان).
عرض "الحب في زمن الكوليرا"، الذي يفر الناس فيه من الحب كما يفرون من الكوليرا، لم يفر صناعه من العمل على رواية شائكة، تحفظ صاحبها على نقلها إلى وسيط آخر. وكما نجح فلورنتينو وفيرمينا في استعادة حبهما بعد أكثر من خمسين عاماً على الفراق، نجح صناع العرض في تبديد مخاوف مؤلف النص الأصلي، التي عبر عنها قبل رحيله بسنوات عدة.