Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"كاليغولا" مسرحية البير كامو تجيب على أسئلة الراهن

فرقة مصرية تختار صيغة مشهدية كلاسيكية لتقدم نصاً إشكالياً

من مسرحية "كاليغولا" المصرية (الخدمة الإعلامية)

في المشهد الأخير من العرض المسرحي "كاليغولا" الذي يقدمه مسرح الشباب في القاهرة، (البيت الفني للمسرح - وزارة الثقافة)، وبعد أن يتجمع النبلاء وعامة الشعب حول الإمبراطور المستبد للانتقام منه، ويقوم كل منهم بتوجيه طعنه نافذة إليه، ينهض الإمبراطور كاليغولا من بين أقدامهم ويقف على مقدم خشبة المسرح مردداً بكل ثقة وتحد، "أنا مازلت حياً". أما خادمه المطيع الذي طالما هدد بقتل كل من يقترب من سيده، فلا يملك إلا أن يضع سيفه تحت أقدام المنتصر الجديد في مذلة وخسة، لتستمر سيرة الطغاة وتترسخ كذلك أخلاق العبيد مصاحبة لها.

هكذا تصل رسالة العرض لتردنا إلى ما قاله أمل دنقل في قصيدته "كلمات سبارتاكوس الأخيرة"، "فخلف كل قيصر يموت قيصر جديد"، وكأن سيرة الطغاة لا تنتهي، فأينما نولي وجوهنا نجدهم هنا أوهناك، وما مآسي العالم التي نشهدها الآن إلا نتيجة لجنون هؤلاء القياصرة الذين يعيشون بيننا ويهددون وجودنا، أو في الأقل يجعلونه مثل عدمه.

استعادة كامو

لماذا يستعيد المخرج الشاب محمد عز الدين نص "كاليغولا" للكاتب والفيلسوف الوجودي ألبير كامو الآن؟ لعل وقفة كاليغولا (قام بدوره محمد علي رزق) وكلماته التي رددها بعد أن أشبع طعناً، هي ما يبرر استعادة هذا النص، وكأنه يدفعنا إلى التأمل ملياً في ما يحدث حولنا، وما يحدث لنا جراء وجود هؤلاء الطغاة المرضى الذين لم يعدم العالم وجود كثيرين منهم على مدى العصور، ومن المؤكد أنه لن يعدم ما بقيت الحياة.

قدم ألبير كامو سيرة هذا الإمبراطور الروماني المثير للجدل (كاليغولا) وهو ثالث إمبراطور روماني حكم في الفترة ما بين عامي 37 حتى اغتياله عام 41 ميلادية، الإمبراطور الذي اشتهر بتركيبة عجيبة تجمع بين الجنون والسادية والوحشية والرغبة في الانتقام بسبب أو من دون سبب، مما جعله أشهر نماذج الاستبداد السلطوي في التاريخ، وربما لم يقاربه في ذلك سوى نيرون الذي أحرق روما، والذي قيل إن صلة قرابة تربطه به.

تكثيف واختزال

في نص العرض الذي أعده المخرج في شكل مكثف، مختزلاً كثيراً من الأحداث ومحافظاً على جوهره، نحن أمام إمبراطور فاسد وغريب الأطوار لا يتورع عن فعل أي شيء تتيحه له سلطته المطلقة.

إمبراطور أصابه الجنون وسعى إلى إدراك المستحيل والإمساك بالقمر، وأمام حاشية فاسدة ومنسحقة لا يشغلها سوى ذاتها، حتى إن أحدهم يمكن أن يتنازل عن زوجته ليحصل الطاغية على متعته منها، في مقابل أن يظل هذا النبيل حياً متمتعاً بامتيازاته، وكأن لدى هذه الحاشية استعداداً لتبرير كل ما يفعله الطاغية. وإذا كانت قوانين البلاد وعاداتها لا تسمح بعلاقة جنسية بين الأخ وأخته، فإن للإمبراطور أن يفعلها ولكن في الخفاء، كما يقرر شيريا، أحد النبلاء، "من أجل مصلحة الإمبراطورية لا يجوز أن نترك سفاح القربى يتحول إلى مأساة، ليكن سفاح القربى محرماً، لكن دعوه يعيش بيننا في الخفاء".

التعبير الذي رسمه الممثل محمد علي رزق على وجهه وهو يردد "أنا مازلت حياً"، فيه من التحدي والسخرية ما يخز المشاهد في قلبه ويقلقه في مقعده ويشعره بالرعب مما ينتظره لو صادف طاغية مثله، وكأن الطعنات التي نالها هذا القيصر ترد إلى المشاهد وتطرح عليه سؤال العرض، من الذي يصنع الطاغية؟ ولماذا يستخف بكل من حوله وما حوله؟ ولماذا في لحظة ما يشعر بأنه صار إلهاً قادراً على كل شيء؟

شكل كلاسيكي

سعى مخرج العرض إلى تقديم عمل كلاسيكي صرف، وما يحسب له هو انضباطه الشديد المتمثل في سيطرته على عناصر العرض كافة، وقدرته على رسم خطوط الحركة بكل أشكالها من مستقيمة إلى دائرية إلى منحنية وغيرها، فتكون ذات محمول دلالي يعبر عن دوافع الشخصية، وقد أراد تطعيم كلاسيكيته أو كسرها باستخدام "السلويت" في بعض المشاهد، لكنه لم يضف إلى العرض، فجاء غائماً وغير واضح الدلالة، فضلاً عن تشتيته في بعض الأحيان لأنظار المشاهدين، ولو استغني عنه ما تأثر العرض الذي جاء واضح الرؤية متماسك العناصر.

التمثيل في العرض هو أحد مآثره الكبرى، إذ نجح المخرج في اختيار عناصر شابة على درجة عالية من الموهبة والوعي بطبيعة النص وشخصياته ودوافعها، محمد علي رزق في دور "كاليغولا" بتكوينه الجسماني ومرحلته العمرية المناسبين تماماً للدور، واستخدام جسده بشكل واع يناسب كل حال كان عليها، فضلاً عن تعبيرات وجهه التي تعكس ما في داخله، وكذلك تلوينه الصوتي.

وكذلك أوتاكا في دور "شيريا"، النبيل الحكيم الهادئ ظاهراً المشتعل داخلاً، ورباب طارق في دور العشيقة "سيزونيا" المجروحة في كبريائها والمضطرة إلى مجاراة الطاغية في أفعاله الجنونية، ومحمد العربي وخالد الشامي وأحمد لطفي ومصطفى صديق ومحمد حسن ونهاد نزيه وشريف نبيل، ومجموعة منتقاة بعناية، وكل موظف في الدور الذي يناسبه، سواء من حيث المرحلة العمرية أو من حيث التكوين الجسماني، وجميعهم أجادوا استخدام اللغة الفصحى، والحرص على سلامة مخارج الحروف إلا في ما ندر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

التعبير الحركي في العرض الذي صممه هاني حسن كان من العناصر اللافتة، بخاصة في مشاهد الاقتتال التي نفذها الممثلون ببراعة ومرونة فائقتين.

مصمم الديكور حمدي عطية كان على خطى المخرج، منظر واحد ثابت ومهيب، عبارة عن حلبة رومانية وفي الخلفية بانوراما سوداء مرصعة بالنجوم، يتوسطها قمر مضيء، وفي هذه الحلبة تدور الأحداث جميعها، مرة تستخدم كقاعة لعرش كاليغولا، وأخرى تمثل بيت شيريا الذي يجتمع فيه النبلاء للتآمر على القيصر، وثالثة كممرات في القصر أو باحات عامة، وما يحدد هذا المكان أو ذاك مجرد "موتيفات" بسيطة لعبت إضاءة أبو بكر الشريف دوراً مهماً في إحداث النقلات المكانية التي جاءت بانسيابية، ففي حين يدور مشهد أو يقدم أحد الممثلين "مونولوغاً" يكون في بؤرة إضاءة تخصه، بينما في الوقت نفسه يتم إعتام الخشبة لإعداد المشهد التالي، مما جعل إيقاع العرض مشدوداً وقلل كثيراً من لحظات الإعتام الكامل التي يلجأ إليها بعض المصممين لتغيير المنظر.

إذا كان التجريب مطلوباً وسوقه رائجة الآن بقوة، فإن ذلك لا ينفي حاجتنا إلى عمل كلاسيكي منضبط، فيه من فنون العرض المسرحي وعناصره ما يحقق المتعة الفكرية والبصرية معاً، فلا ميزة لعمل تجريبي على آخر كلاسيكي أو العكس إلا بما يقدمه هذا العمل أو ذاك من رؤية فنية جديدة ومختلفة، وعبر عناصر تتضافر معاً ويكمل بعضها الآخر من أجل التوجه الى الجمهور.

اختار مسرح الشباب الذي يقوده مخرج واع وموهوب (سامح بسيوني) النص المناسب في الوقت المناسب، فما أحوجنا الآن إلى استعادة وتأمل سير الطغاة لنتحسس واقعنا وندرك مصدر الخلل في هذا الواقع، ليس في أفعال الطغاة وحسب، ولكن في أفعال من أوصلهم إلى طغيانهم، حاشية فاسدة ومدلسة، وشعوب مغلوبة مستسلمة لمآسيها في انتظار مخلص لا يأتي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة