Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

جفاف الوحول السورية

كل هذه "الكيانات الكبرى" داخل البلاد وصلت تقريباً إلى أقصى انفلاتها

مع إطلاق إدارة بوش الحرب على الإرهاب في أفغانستان وبعدها اجتياح العراق وجد النظام السوري نفسه في وضع خطر (أ ف ب)

منذ انتهاء الحرب الباردة مرت سوريا بمرحلتين، الأولى كانت استمراراً لحكم البعث العربي الاشتراكي بشكل عام منذ الستينيات، وهي المرحلة الأطول والأعلى، ومن ثم الثانية التي بدأت مع انفجار الثورة في سوريا عام 2011، وتبعتها حرب مدمرة لأكثر من عقد لا تزال خطوط تماسها قائمة حتى اليوم.

المرحلة الأولى كانت صعوداً إلى القوة الإقليمية، والثانية كانت سقوطاً في الوحول الداخلية والإقليمية، لكن المرحلة الآتية قد تشهد جفافاً لهذه الوحول والانتقال إلى مرحلة جديدة من نوع آخر، والأسئلة تطرح حول طبيعة "الجفاف" الآتي.

مرحلة الحرب الباردة 1970- 1991

لقد طبع حزب البعث وعقيدته الثقافة السياسية للبلاد بشكل عميق، كما حصل في دول عربية أخرى سيطرت عليها أحزاب عروبية يسارية راديكالية لعقود مثل العراق واليمن الجنوبي ومصر وليبيا والجزائر والسودان، لكن النخبة الحاكمة منذ انقلاب حافظ الأسد في 1970 جبلت الدولة السورية باتجاه استراتيجي خاص تميز بحلفين، الأول كان علاقة عميقة مع الاتحاد السوفياتي حتى سقوطه في 1991، والثاني كان علاقة تاريخية شبه عضوية مع إيران انطلقت في 1979 ولم تنقطع، لذا فبين صعود الأسد وانهيار السوفيات وصل النظام إلى ذروة قوته، ما بين حمايته من قبل موسكو وطهران واحتلاله للبنان وعدم المس به من قبل أميركا والغرب، ووصل النظام إلى أكبر دور له عندما دعي من قبل واشنطن للمشاركة في الحملة ضد صدام حسين بين خريف 1990 وشتاء 1991.

التسعينيات الذهبية

وصل النظام إلى ذروة قوته خلال التسعينيات وبعد انتهاء الحرب الباردة، وحقق حافظ الأسد معظم أحلامه بإحكام السيطرة على بيروت وتوثيق العلاقة الاستراتيجية مع إيران والاستفادة من موقف أميركي متساهل مع دمشق، ودفع إسرائيل إلى الوراء في جنوب لبنان وتخفيف حدة التوتر العربي ضد نظامه وإضعاف خصمه البعثي صدام حسين.

وجاءت الذروة مع انسحاب إسرائيل الكامل من جنوب لبنان في مايو (أيار) 2000 قبل وفاة الرئيس السوري الحذق بعد شهر من الانتصار النهائي في لبنان، وشكل تسلم ابنه بشار للسلطة في الشام استمراراً "للمشروع المنتصر"، لكن مسيرة النظام بدأت تتغير بعد سنة وبعد ضربات 11 سبتمبر (أيلول).

سوريا تهتز بعد 11 سبتمبر

مع إطلاق إدارة بوش الحرب على الإرهاب في أفغانستان وبعدها اجتياح العراق، وجد النظام نفسه في وضع خطر مع تمركز الجيش الأميركي في طول وعرض العراق، ووجدت إيران نفسها محاصرة بين القوات الأميركية والأطلسية في أفغانستان وقوات التحالف في العراق، فأطلق "المحور" عمليات إرهابية ضد الأميركيين في العراق مما دفع واشنطن إلى الحصول على القرار (1559) من مجلس الأمن والضغط على الأسد للانسحاب من لبنان في أبريل (نيسان) 2005.

فاجأت أول هزة النظام مع خسارته للجمهورية اللبنانية بأكملها، مما أضعف السلطة في دمشق نفسها لكن النظام استمر على قيد الحياة بمساعدة إيران، وحصل على جرعة جديدة من الأمل بعد إعلان إدارة أوباما مبادرتها في 2009 للتوصل إلى "اتفاق ما" مع خامنئي.

الثورة

الزلزال الذي حول سوريا الحديثة إلى ساحات حرب وغيرها ربما إلى الأبد، تفجر عبر ثورة شعبية عارمة في مارس (آذار) 2011 من العاصمة إلى مختلف المناطق، فدخلت البلاد في عواصف لم تعرفها منذ تأسيسها في الأربعينيات،

وانتشرت التظاهرات العارمة في المدن الكبرى فقمعها النظام بقساوة، إذ إن السماح لها بالتوسع أو إسقاط السلطة لم يكن ممكناً في التركيبة القائمة، فهي طائفية بين أنصار الأسد العلويين وحلفائهم ومعظم السنّة وسائر المعارضين على مدى عقود، فالقمع الماضي الطويل وخوف النظام من الأخذ بالثأر من قبل المعارضة لم يسمح بانتقال للسلطة خلال عقد كامل، وقد لا يسمح بذلك أبداً، فدخلت سوريا في الوحول الدائمة بين نظام بعثي مدعوم إيرانياً يرفض التراجع والاستقالة، ومعارضة واسعة ترفض التنازلات السياسية ولا تقبل بأقل من التغيير الشامل في السلطة.

الحرب

لكن الثورة ما لبثت أن تحولت إلى حرب عسكرية جارفة ودموية وشاملة على كل الأراضي السورية، إذ سرعان ما تسلحت المعارضات المختلفة ودخلت أتون الحرب الميدانية بهدف السيطرة على الأرض، فبدأت كاشتباكات بين قوات السلطة ووحدات منشقة عن الجيش أطلقت على نفسها اسم "الجيش السوري الحر"، وانطلقت ميليشيات إسلاموية لتسيطر على مناطق، وانتشرت مجموعات تكفيرية مثل "القاعدة" وفروعها.

وفي الشمال الشرقي (الحسكة) أقامت القوات الكردية مع عشائر عربية وأقليات مسيحية منطقة ذاتية واسعة، ومنذ أول شهور الحرب تدخلت قوات "الحرس الثوري" و"حزب الله" بكثافة لمساندة النظام والسيطرة على مناطق في سوريا لمصلحة طهران، وفي العام 2014 غزا تنظيم "داعش" جزءاً كبيراً من سوريا، وتدخلت روسيا في منطقة الساحل منذ 2015 مستعملة طيرانها بكثافة دفاعاً عن مناطق النظام، وكذلك تقدمت القوات التركية من الشمال لتسيطر على شريط حدودي، وتدخلت الولايات المتحدة في الشرق ضد "داعش" الذي تقهقر وخسر معظم أراضي "خلافته".

حروب متعددة استمرت لأكثر من عقد، حيث انحسرت بعض القوى وتمددت أخرى وانقرض بعضها، فإن الخريطة الجيو-سياسية لم ترجع إلى زمن "الجمهورية العربية السورية" تحت الحكم البعثي بقيادة الأسد من دون منازع، وبكلام آخر اشتدت الوحول عمقاً في الأراضي السورية، وفشلت كل المبادرات الدبلوماسية وتبخرت الحلول الشاملة وتوزعت البلاد إلى رقع من الأراضي تحت سلطة محلية بحماية خارجية، وأصبحت أجواء سوريا ممرات لأسلحة الطيران وصواريخ القوى الإقليمية والدولية، وبات السؤال الكبير هو ماذا سيحصل لهذه الوحول؟ من سيغرق فيها؟ من سيهرب منها؟ من سيمكث فيها؟

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الجفاف الآتي

نظرية براغماتية تبدو قائمة بالنسبة إليّ وهي "جفاف الوحول"، حيث هي داخل سوريا، أي بمعنى أن القوى الأساس التي استمرت على الأراضي السورية منذ سنوات يبدو أنها باقية في مكانها، أو على الأقل في مناطق معينة وبنفوذ معين حتى إشعار آخر، أي أن الوحل المتحرك يبدو وكأنه جف حيث هو وتجمد، وأصبح أصلب مما كان خلال العقد الماضي، وأن تغيير موازين القوى بات أصعب ولو لم يكن مستحيلاً، فالقوى الدولية من أميركا إلى روسيا رسمت حدود وجودها في الشرق والغرب، والقوى الإقليمية أيضاً (إيران وتركيا وإسرائيل) رسمت أطر تحركها في الداخل السوري، وبقيت الأطراف الداخلية تتموقع بناء على قدرتها الذاتية ودعم القوى الخارجية، وما يتضح تدريجاً هي الخريطة الجيو-سياسية التي تعكس تجفيف وحل الحروب المتحركة وحلول "الستاتيكو الحامي" كما يلي:

روسيا.. على الرغم من حرب أوكرانيا فموسكو مصممة على إبقاء وجودها العسكري وقواعدها في سوريا، خصوصاً على الساحل، بهدف تمركز أسطولها في البحر وحماية أقرب حليف لها في الشرق الأوسط، الدولة السورية الحالية، أي الدفاع عن مناطق النظام وإذا أمكن "توسيعها".

إيران.. النظام الإيراني أيضاً يبغي ليس فقط "البقاء" في سوريا، بل التوسع قدر الإمكان داخل الأراضي السورية ودعم سلطة الأسد ضد "الأعداء المشتركين" بمساعدة "حزب الله" من لبنان وسائر الميليشيات الخمينية في الشرق الأوسط، لتأمين الجسر الاستراتيجي بين إيران والمتوسط، والأهم إقامة جبهة صاروخية متقدمة لضرب إسرائيل في الغرب والأسطول السادس في البحر، والتحالف العربي من جنوب سوريا إذا لزم الأمر.

تركيا.. أنقره تريد الإبقاء على شريط أمني عسكري على طول الحدود السورية وبعمق يسمح لها بتنفيذ هدفين، الأول حماية الميليشيات الإخوانية في الشمال وإقامة رقعة تسيطر عليها القوى المسلحة الإسلاموية التي باتت العنصر الأساس في "المعارضة ضد الأسد"، والهدف الثاني هو تفكيك "قوات سوريا الديمقراطية" في الشمال والشرق.

نظام الأسد.. يسعى إلى البقاء في مناطق سيطرته والتوسع باتجاه المناطق الأخرى، خصوصاً الشرق والجنوب، واسترجاع "سوريا الأسد" على الرغم من صعوبة عودتها كما كانت قبل 2011، كما يأمل النظام بأن تتم إعادة احتوائه من قبل الغرب بعد توقيع الاتفاق النووي.

منطقة الأكراد.. تضم عرباً وأقليات تسعى إلى المحافظة على أراضيها وإقامة مناطق شبه مستقلة كما الوضع في شمال العراق، وهي تستفيد من المظلة الأميركية ما دامت قائمة في شرق سوريا.

الولايات المتحدة.. واشنطن لا تريد مزيداً من الانخراط في "الحروب السورية" لكنها تحافظ على مواقعها المحدودة في شرق البلاد حتى تتضح الحال بالنسبة إلى الاتفاق النووي مع إيران، والمحافظة على العلاقات مع التحالف العربي.

إسرائيل.. ليس لديها رقعة سيطرة داخل سوريا عدا الجولان الذي ضمته منذ سنوات، والهدف الإسرائيلي الحالي هو التصدي للتقدم الإيراني في سوريا لكن من دون تحرك على الأرض. وإسرائيل تتكل على طيرانها و"درونها" وأحياناً قواتها الخاصة لمواجهة الماكينة الإيرانية، وإذا انسحبت أميركا من سوريا فستجد إسرائيل نفسها أمام تدخلات جوية أوسع في طول وعرض الجمهورية السورية.

كل هذه "الكيانات" الكبرى داخل سوريا قد وصلت تقريباً إلى أقصى انفلاتها حتى ظهور مرحلة أخرى حاسمة، ومن هنا يبدو أن الوحول باتت على طريق "النشفان"، أي الدخول في حقبة "الستاتيكو الثقيل" حتى تنجلي الغيوم السوداء بين اللاعبين العالميين.

اقرأ المزيد

المزيد من آراء