من دون أن يطلق على معركة بلاده الجديدة أي اسم، لمح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، إلى تجهيز الجيش والاستخبارات العسكرية لعمل قتالي واسع النطاق في شمال سوريا، بغية إتمام المنطقة الآمنة على الحدود الجنوبية بعمق 30 كيلو متراً.
الهجوم الوشيك يستهدف مناطق خاضعة للنفوذ الكردي، المدعوم من قبل الولايات المتحدة و"قوى التحالف لمحاربة داعش"، حيث تتزايد قوات الحماية الذاتية الكردية قوة ويشتد عودها إثر خضوع مناطق شمال شرقي سوريا لها، بالتوازي مع توجه انفصالي من قبل إدارة الحكم الذاتي، وهو أمر لطالما أقلق أنقرة، التي عدت التنظيمات الكردية "فصائل إرهابية" تهدد أمنها القومي.
وعلى غرار عمليات قتالية هجومية شنها الجيش التركي، مثل "درع الفرات" و"غصن الزيتون" و"نبع السلام" في شمال سوريا، يبدو جلياً إعداد إسطنبول لخطة توسعية تضع لمساتها الأخيرة.
يأتي هذا في أعقاب ترؤس أردوغان لاجتماع حكومي بالمجمع الرئاسي في أنقرة، وأفضى خطابه إلى "قرب اتخاذ خطوات لإنجاز ما تبقى بإنشاء منطقة عازلة" في وقت سيكون القرار جاهزاً خلال اجتماع مجلس الأمن القومي للبلاد يوم الخميس المقبل 26 مايو (أيار).
مخطط المنطقة العازلة
في غضون ذلك، تترقب المجتمعات المحلية على امتداد مناطق نفوذ الجيش التركي، وفصائل المعارضة السورية المدعومة من قبله، أو من نفوذ الإدارة الذاتية الكردية، أي تغيير في خريطة الصراع والانتشار.
ولن يرسم نهر الفرات المخترق لأراضي شمال شرقي البلاد الخصبة بالغلال الغذائية، والموارد النفطية، هيكلة المنطقة المتصارع عليها بين شرق الفرات وغربه، بل ستتجه أنقرة إلى الدفع نحو ترتيب جديد.
ويعتقد مراقبون في الشأن التركي، أن الأمر يرتبط بتموضع القوات التركية، التي بدأت بالتحرك فعلياً، مع تعزيزات تتقاطر إلى مناطق نفوذها من جانب حدودها الجنوبية، أما الداخل التركي ينظر إلى العملية العسكرية المقبلة على أنها مرتبطة بالمعركة الانتخابية في يونيو (حزيران) عام 2023، والحد من التهديد الكردي، والانتهاء من ملف اللاجئين، وهي أوراق رابحة بالنسبة للمرشحين، علاوة على الورقة الاقتصادية كتحسين العملية التركية.
تفجير دائم
من جانبه، يرفض النظام إنشاء هذه المنطقة، ويعد أن هذا الطرح لا يهدف إلى حماية المناطق الحدودية بين البلدين، بل الهدف الأساسي استعماري، وإنشاء بؤرة متفجرة تسمى "المنطقة الآمنة"، بحسب بيان نشر في 20 مايو الحالي.
واعتبرت وزارة الخارجية السورية المنطقة المزمع إنشاؤها "تطهيراً عرقياً وتهديداً لحياتهم ومستقبلهم وممتلكاتهم"، كما تهدد بتفجير دائم للأوضاع بين البلدين المتجاورين، وبموجب القانون الدولي فإن نقل السكان والتطهير العرقي يشكلان ما وصفته "جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية". وعزت الوزارة ذلك لمخطط تركي يهدف إلى إحداث تغيير البنية الديموغرافية، وطرد السكان من أماكن عيشهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الباحث في القانون الدولي من جامعة هارفرد الأميركية، هاروت أكمانيان، يرى في حديث له من نيويورك لـ"اندبندنت عربية"، أن "أي اجتماع أو قرار يحدث من خلال إقصاء سوريا مناف للقانون الدولي، ومناف أيضاً للمنطق، ومحكوم عليه بالفشل.
وقال أكمانيان، "لا يمكن أن نتصور إعادة اللاجئين إلى ديارهم من دون التنسيق والتشاور حول كيفية تنظيم هذه الأمور مع الدولة السورية من حيث الترتيبات اللوجيستية وتسوية أوضاع الملاحقين قضائياً أو أمنياً".
واشنطن تحذر أنقرة
حذرت الولايات المتحدة الثلاثاء تركيا من شن أي عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، مؤكدة أن من شأن مثل هكذا تصعيد أن يعرض للخطر أرواح العسكريين الأميركيين المنتشرين في المنطقة.
وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية نيد برايس للصحافيين، إن الولايات المتحدة "قلقة للغاية" إزاء هذا الإعلان. وأضاف "ندين أي تصعيد، ونؤيد الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة".
وأضاف "نتوقع من تركيا أن تلتزم البيان المشترك الصادر في أكتوبر (تشرين الأول) 2019".
وأكد برايس "نحن ندرك المخاوف الأمنية المشروعة لتركيا على حدودها الجنوبية، لكن أي هجوم جديد سيزيد من تقويض الاستقرار الإقليمي وسيعرض للخطر القوات الأميركية المنضوية في حملة التحالف ضد تنظيم داعش".
على صفيح ساخن
من ناحية أخرى، تتأهب القوات الكردية لمواجهة شديدة الوطيس، في الوقت الذي ينقسم متابعو المشهد هناك حول الرهان على دعم واشنطن ودول التحالف لقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إذ يبادر بعضهم بترجيح تخلي الولايات المتحدة عنهم مقابل مكاسب في الصراع (الأوروبي الأميركي – الروسي) المشتعل في أوكرانيا والقابل للتوسع.
ويجزم الباحث الأكاديمي في العلاقات الدولية، آدم نصير، بتجدد الرؤية للمخطط التركي التوسعي، بعد توقفه من ضغط روسي وأميركي قبل عام، بحيث كانت تتحضر لمعركة شبيهة بالعمليات السابقة.
ويعتقد نصير، أن "تغيير الظروف الدولية أدى إلى إطاحة كل التعهدات والسيناريوهات ومجريات التسويات السياسية، وكذلك العمليات الميدانية"، مضيفاً أن "دخول روسيا في الحرب الأوكرانية قبل ثلاثة أشهر جعل الأمر يتطور بشكل غير مخطط له".
الباحث الأكاديمي أرجع النشاط العسكري التركي إلى "حاجة الولايات المتحدة الأميركية، كدولة تحكم سيطرتها على منافذ البحر الأسود، ولها تأثير لا يستهان به في الحروب المقبلة مع موسكو، التي بدأت تتسع دوائرها لتطاول أوروبا".
بالمقابل، يرى مراقبون أن الواقع الميداني يشي بوقوف الحلفاء إلى جانب القوات الكردية، وهو الأمر الذي جعل القيادات الكردية تصم آذانها عن الحوار المعلن مع دمشق العاصمة، وإجراء تسويات سياسية، تجنباً لكل أطروحات الاجتياح التركي أو التهديدات بتوسيع العمليات، بالتوازي مع أنباء تسري بتحرك روسي لعملية عسكرية شمال غربي سوريا، نحو إدلب وأجزاء من ريفها بهدف محاربة فصائل المعارضة المتشددة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام (النصرة) سابقاً.
منطقة ألغام
المنطقة ذاتها تضج بكثير من الأحداث، وتشابك المصالح الدولية فيها شديدة التعقيد، لكن الرئيس التركي برر في خطابه الأخير إقدامه على هذه الخطوة، بأنه تجنيب لقواته العسكرية على الحدود من الاستهداف المتواصل والهجوم المسلح من قبل التنظيمات الكردية، لا سيما استخدام المهاجمين الأكراد الفخاخ والهجوم المباغت وفق تصريحات له.
على الجانب الآخر، تدرس قوات سوريا الديمقراطية السيناريوهات المحتملة ومستويات التهديدات التركية الفعلية والمتوقعة، وتتبادل المعلومات مع القوى الدولية والضامنة بهذا الشأن، في حين ذكر بيان صحافي لـ"قسد" حول ما يحدث، "أنه لا تغيير استراتيجياً في توزع وانتشار القوى الدولية الضامنة".
وتنظر "قوات سوريا الديمقراطية" إلى تسخين الأجواء، واستعراض قوة تركيا بأنها "تأتي في سياق محاولات ضرب الاستقرار والاستجابة الطبيعية لمحاولات إعادة تنشيط فلول (داعش)"، بحسب ما جاء في البيان.
على الأرض، كان الموقف الروسي سريعاً في رد فعله، عبر إرسال تعزيزات عسكرية ضخمة إلى قاعدتها في عين عيسى، تحوي مدرعات وآليات وناقلات جند ودبابات على طول خطوط التماس.
التحرك الروسي السريع نحو قاعدة موسكو في عين عيسى، أحد أبرز معاقل قوات "قسد" التي تبتعد 55 كيلو متراً، يوحي باقتراب القرار التركي بالتوغل، واستغلال أردغان لتسارع التطورات الدولية وانشغال الدول العظمى بالصراع في أوكرانيا.