Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

'البريكست' يؤكّد أنّنا لم نتعلّم شيئاً من إنزال النورماندي

ذكريات مختارة من انتصارات الحرب العالمية الثانية تنسج صورةً وهميّة لبريطانيا ومكانتها في العالم اليوم

مؤيدون ومعارضون للخروج من الاتحاد الأوروبي يتظاهرون أمام البرلمان البريطاني في لندن (رويترز)  

أولاً وقبل كلّ شيء، يُمثّل إنزال النورماندي أو ساعة الصفر انتصاراً لعمليات التحضير الدقيقة التي قام بها ضباط البحرية البريطانية، ومهّدت لنجاح نحو 4 آلاف سفينة في المناورة من أجل إنزال 156 ألف جندي مع دباباتهم وعتادهم ومؤونتهم في الترتيب الصحيح والمواقع الصحيحة على طول شريط نورماندي الساحلي المزوّد بدفاعات قويّة. ولم تكن عمليات الهبوط البرمائية العنصر الحاسم الوحيد لكسب تلك المعركة وتحقيق النّصر المنشود، فالقدرة على حشد كلّ هذه القوات بوتيرةٍ أسرع من الجيش الألماني كانت بدورها عنصراً حيوياً وبارزاً.

وتحقّق النصر الناجز في النورماندي بسبب امتلاك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة آنذاك عدداً كبيراً من المقاتلين والأسلحة مقارنةً بأعدائهم من جهة، وبسبب توقّعهما وتذليلهما صعوبات عديدة قد تعترض سبيلهما مع بداية الغزو من جهة أخرى. وفي هذا الخصوص، يقول كوريلي بارنيت في كتابه التاريخي الرائع عن دور البحرية الملكية في الحرب العالمية الثانية وعنوانه "الاشتباك مع العدو عن كثب": "من حيث النطاق والشمول، ومن حيث درجة تعقيد المشاكل التي تمّ حلها وضخامتها، نجحت (مخططات البحرية الملكية) في التغطية على الأداء الشهير لرئاسة الأركان الألمانية من عام 1866 فصاعداً؛ وهي لا تقلّ اليوم عن كونها تحفة فنيّة مشغولة بالكثير من التخطيط والجهد".

خطّط للمعركة الأميرال برترام رامزي الذي كان قد نظّم عملية إخلاء دنكريك وحملة غزو الحلفاء لمنطقة شمال افريقيا عام 1942 وصقلية عام 1943. ويُعتبر الأميرال اليوم شخصية مغمورة، لكنّه في الأمس كان قائداً معروفاً للقوات البريطانية البرية والبحرية والجوية، وفي رصيده أعظم إنجازات الحرب العالمية الثانية.

كان الأميرال واضحاً بشأن هدفه، وقد حذّر مراراً وتكراراً من صنّاع القرارات السياسية والعسكرية الذين أرادوا "الاستحواذ على كل شيء". وكان من أشدّ الرافضين لفكرة غزو جنوب فرنسا والنورماندي في الوقت نفسه، مؤكداً أنّ الغزو ليس هدفاً في حدّ ذاته وأنّ أولوية التخطيط تكمن دائماً في دعم الجيش وتمكينه من كسب المعركة البرية المقبلة في النورماندي. وكتب يقول إن "على القاعدة التوجيهية أن تكون الخطة العملية أولاً والخطة الإدارية لاحقاً". بكلامٍ آخر، من الضروري أن نعرف من البداية ما سيكون عليه شكل النصر. وبعدها فقط، يُمكننا استنباط الآليات التي ستُحقّق لنا هذا النصر.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبمناسبة إحياء الذكرى السنوية الخامسة والسبعين لإنزال النورماندي، تمّ مرة أخرى نبش القصص المملة المعتادة عن الإنجازات الإنكليزية -الأميركية في الماضي والحاضر. وترافقت هذه القصص بخطابات القياديين الوطنيين المجتمعين في بورتسموث، والتي تحدّثوا فيها عن كيفية الدفاع عن الحرية والديمقراطية المهدّدين ضمنياً من ممارسات القادة الشعبويين من واشنطن إلى مانيلا.

فالاحتفال بالانتصارات العسكريّة قلّما يُسلّط الضّوء على الدّروس المُستقاة من التاريخ (ربما غاتيسبرغ هي الاستتثناء على القاعدة). ولكن يجدر النظر في المقاربة التي اعتمدتها بريطانيا إزاء إنزال النورماندي في 6 حزيران (يونيو) 1944 ومقارنتها بلحظة حاسمة أخرى في تاريخ بريطانيا، أي لحظة خروج هذه الأخيرة من الاتحاد الأوروبي في 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2019. فالحدث الأول شهد على عودة الجيش البريطاني إلى أوروبا القارية بعد أربع سنوات، أما الثاني، فسيشهد على انسحاب الدولة السياسي من الاتحاد الأوروبي بعد نصف قرنٍ تقريباً.

صحيح أنّ إنزال النورماندي هو عملية عسكرية وقت الحرب، و بريكست هو عملية سياسية وقت السلم، إلا أنّ هناك نقاطاً مشتركة بينهما، من أبرزها هذه: التعقيد الشديد لما توجّب أو يتوجّب القيام به والأهمية الكبيرة التي تُوليها بريطانيا لأجل إنجاز العمل بالطريقة السليمة. ومهما كانت المعارك البرية في النورماندي وهزيمة الجيش الألماني على الجبهة الغربية معقّدة، فصعوباتها لم تكن كبيرة بقدر الصعوبات الناجمة عن بريكست والتي ستؤثر في كلّ جانب من جوانب الحياة الوطنية.

لكن دعونا الآن ننظر إلى الاختلاف في النهج الذي اتبعته بريطانيا في كلا الحدثين المهمين اللذين تفصل بينهما 75 سنة. فإبان الإنزال، خطّطت بريطانيا لكلّ شاردة وواردة وأخذت في الحسبان كلّ الانتكاسات المحتملة والتطورات غير المتوقعة. أما عند التصويت على انسحابها من الاتحاد الأوروبي عام 2016، فلم يكن لديها أدنى فكرة عمّا سيكون عليه البريكست الناجح وعمّا ستؤول إليه علاقاتها بالاتحاد الأوروبي وسائر دول العالم.

كما أنها لم تُبدِ سوى قدرٍ قليل من الاعتبار لاختلال توازن القوى الإجمالي بينها وبين الدول الأعضاء الأخرى في الاتحاد الأوروبي وعددها 27. ولم تدرك بريطانيا أنه لابد للدول الأوروبية أن تفرض شروطها الخاصة، إذا بقيت متّحدة كما هي الآن. ويبدو هذا التجاهل للحقائق مماثلاً لامتناع مفترض من جانب المخططين البريطانيين في عام 1944 عن تكبّد مشاق احتساب عدد الفيالق الألمانية الرابضة في النورماندي وسرعة وصول الدّعم إليها.

يُمكن القول إنّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أقرب إلى روح حملة غاليبولي عام 1915 منها إلى غزو النورماندي. ففي غاليبولي، افترض البريطانيون بأنّ المعارضة أضعف مما كانت عليه واعتقدوا بشدّة أنّ كل شيء سيكون على ما يرام في تلك الليلة. وهذا النوع من التفكير الرغبوي هو نفسه الذي حرّك عملية الخروج من الاتحاد الاوروبي، بينما كانت الشعارات تسقط أمام الحقائق التي تفنّدها.

لكن في غاليبولي، تلاشت الثقة بالنفس سريعاً مع تساقط الجنود صرعى على الشواطئ وفي الأخاديد الصخرية. أما في حالة بريكست، فبقيت ثقة المشككين في أوروبا على حالها، ولم تتأثر بالانتكاسات المتلاحقة. يُمكن القول إنّ بريكست يُشبه أكثر فأكثر عقيدة دينية لا تُقيم وزناً للتجربة العملية أو تقلل من أهميتها متى ناقضت مبادئها وتعاليمها.

والحقيقة أنّ قدرة البريطانيين على التعلّم من الماضي قد تراجعت منذ إنزال النورماندي. فالأميرال رامزي والمخططون معه تعلّموا الكثير عن مواطن القوة والضعف في قدرتهم على الهبوط على شاطئٍ للأعداء جرّاء الخسائر الكارثية التي تكبدوها أثناء الحملة النرويجية عام 1940 وإنزال دياب عام 1942. واستفادوا أيضاً من دروس علمتهم إياها الاجتياحات الناجحة التي شنّها الحلفاء على شمال افريقيا وصقلية.

وهناك سّبب رئيسي لانقسام بريطانيا بشأن الخروج من الاتحاد الأوروبي وعدم قدرتها على إيجاد حلٍّ له، يتمثل في أنها لم تتعلم سوى القليل من تجاربها. فقد أمضت تيريزا ماي وقتاً طويلاً تعد الشعب البريطاني بتحقيق المهمة شبه المستحيلة، ما أسفر عن انهيار اتفاقها الخاص بالانسحاب، لا لأنه لا يعكس بدقة توازن القوى بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بل لأنه لا يرقى إلى مستوى التوقعات التي رسمتها ماي بنفسها. ويبدو من الواضح أنّ هذا الإخفاق غير قابل للتفسير وغير مقنع بالنسبة إلى الملايين الذين صوّتوا لصالح الخروج من الاتحاد الاوروبي في 23 أيار (مايو)، وكان تصويتهم ذاك تأييدا ضمنياً للخروج من دون اتفاق. وبرأي هؤلاء، فإنّ الإخفاق على مستوى البريكست هو ثمرة ضعف في الإرادة الوطنية أو عدم الأهلية أو الخيانة.

وتواجه بريطانيا اليوم احتمالين يتمثل أولهما في انهيار تدريجي لمشروع بريكست، والثاني في قفزة باتجاه المجهول هي تماماً من نوع المجازفات التي كان الأميرال رامزي ومعاونوه يعلمون جيداً أن عليهم أن يتجنبوها إذا أرادوا لعمليات الإنزال في النورماندي أن تنجح.

تُعدّ المقارنة بين يوم إنزال النورماندي ويوم الانسحاب من الاتحاد الاوروبي أمراً مفيداً نظراً إلى وجود عوامل نجاح مشتركة بين الاثنين، ونعني بها: الأهداف الواضحة والواقعية والوسائل المستخدمة لتحقيق هذه الأهداف، والمعرفة الوثيقة بالظروف الميدانية (العسكرية عام 1944 والسياسية عام 2019)، والتقييم الصّحيح لتوازن القوى.

وينبغي أن يتعلم المشكّكون في الاتحاد الأوروبي الدروس المناسبة من تاريخ بريطانيا الحافل، لأنهم هم الذين يدّعون انهم يستلهمونه دائماً. فهم شجبوا التعامل مع بروكسل وأعضاء الاتحاد الأوروبي لاسيما فرنسا وألمانيا، على اعتبار أنّها دول منافسة تلاعبت بالاتحاد وسخّرته لمصالحها الخاصة ضد مصلحة بريطانيا. لكنّهم في المقابل، قاموا بشيطنة دول أوروبية أخرى باتهامها بالعدائية تجاه بريطانيا. ومع ذلك، تراهم يتفاجأون ويستشيطون غضباً كلّما سعت واحدة من هذه الدول إلى تعزيز مصالحها الفردية والجماعية، على حساب المملكة المتحدة.

انزاحت الستارة أخيراً عن أحد العناصر الأساسية للتفكير الرغبوي والمتناقض للمشككين في أوروبا بما يتصل بالبريكست. فبروكسل من جهة، أخطبوط بيروقراطي ضخم يُحاول بواسطة مجساته الطويلة خنق كلّ جانب من جوانب الحياة البريطانية. وفي نفس الوقت، يعتقد المشككون في أوروبا، أنّ تحرير بريطانيا من براثن هذا الوحش أمر سهل ويمكن أن يتم بمجرد الخروج من الاتحاد الأوروبي، سواء من دون اتفاق أو باتفاق يعجبنا.

ثمة هروب عام من الحقيقة هنا، وهذا الهروب يستمد بأسه من رؤية مشوّهة لتاريخ بريطانيا. إنه لمن السخرية أن يُركّز البريطانيون اليوم على إنجازاتهم الغابرة مكتفين بالحنين إلى الماضي ونسج الأساطير للتعويض عن التدهور الذي لحق بهم من بعدها. وليست عظمة هذا التاريخ الذي كان عظيماُ فعلاً إلى حدٍ ما، هي ما تشدّ البريطانيين إليه؛ فخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، كادت بلادهم أن تكون الدولة الكبرى الوحيدة التي تنجو من التعرض لهزيمة في حرب ما، أو لحرب أهلية أو احتلال أجنبي. ولذلك، لا عجب في أن يحنّ البريطانيون لمثل هذه الأيام.

لكن المعروف عن النّصر أنه معلّم سيء، إذ قد يولّد ثقة زائدة في النفس وشعوراً بالتفوّق الذي لا يستحقه المنتصر. من هنا، يُمكن القول إنّ غياب المراجع التي تُوثّق الدروس المستقاة من التاريخ البريطاني هو أحد أسباب فشل مفاوضات الانسحاب من الاتحاد الاوروبي، بالإضافة طبعاً إلى اعتماد بريطانيا على مدى 400 عام، على البحرية الملكية للدفاع عن أراضيها وعلى التحالفات القارية لتحقيق الانتصارات.

أما الفترات التي قضتها بريطانيا في العزلة فكانت مرحلية. والفترتان الوحيدتان اللتان مكثت فيهما من دون حلفاء هما أولاً مرحلة حرب الاستقلال الأميركية إبان القرن الثامن عشر، وهي المدة القصيرة التي سبقت غزو نابوليون لروسيا عام 1812، وثانياً سنة وحيدة فصلت بين سقوط فرنسا عام 1940 واجتياح هتلر للاتحاد السوفياتي في العام التالي.

وكما كان متوقعاً، لم تُبرز احتفالات السادس من يونيو (حزيران) الماضي حقيقة أن إنزال النورماندي ما كان ليحدث عام 1944 لولا أنّ الجيش الألماني تعرض لخسائر فادحة أثناء محاربته الاتحاد السوفياتي على الجبهة الشرقية.

يُمكن للقصص المتخيلة المحاكة حول الحرب العالمية الثانية أن تكون غير مؤذية بما فيه الكفاية لو لا أنّ العديد من البريطانيين، بمن فيهم أفراد الطبقة السياسية، يرون أن نهاية تلك الحرب كانت اللحظة التي توقف فيها التاريخ.

يبدو أنّ من يعرف الكثير عمّا حدث بين القوات الألمانية- الإيطالية والجيش البريطاني في ليبيا بين 1940 و1943، يجهل حقيقة دور بريطانيا في الحرب التي استعرت في ليبيا عام 2011 وتمخّضت عنها نتائج كارثية لا تزال تداعياتها قائمة إلى اليوم. والأمر سيّان بالنسبة إلى الحرب في كل من العراق وأفغانستان.

وعندما تحوّلت الإجراءات المقترحة لترسيم الحدود مع إيرلندا في أعقاب الانسحاب من الاتحاد الاوروبي إلى مسألة معقّدة في السياسة البريطانية، اشتكى الصحافيون المقيمون في إيرلندا الشمالية من جهل المراسلين القادمين من بريطانيا للخصائص الرئيسية للحرب الوحشية التي اندلعت في ذلك الإقليم على امتداد ما يزيد عن 30 عاماً حتى توقيع اتفاق الجمعة العظيمة عام 1998.

هكذا فإن مشاكل الخروج من الاتحاد الاوروبي قد قلّلت أخيراً من أهمية الفكرة السائدة سابقاً في بريطانيا ومفادها أنّ التاريخ – بمعنى الأحداث القادرة على تحويل حياة الأفراد إلى الأفضل أو الأسوأ – لم يعد أمراً يمكن أن يحصل لشعوب الدول الأخرى فحسب. وإن تذّكُر بعض الانتصارات التي تحققت في أيام الحرب، على شاكلة إنزال النّورماندي، من دون أدنى اهتمام بالطريقة التي تمّ بها إحراز هذه الانتصارات، هو الذي أسهم في نسج صورة خيالية مشوّهة لبريطانيا ومكانتها في العالم اليوم. ويُمكن للنتيجة المحتملة لمشروع الخروج من الاتحاد الأوروبي أن تكون نسخة معكوسة لإنزال النورماندي، وهو أمر قد تترتب عليه خسائر سياسية واقتصادية فادحة شبيهة بخسائر الحرب.

© The Independent

اقرأ المزيد

المزيد من سياسة