Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

حمى المطالبة بالحكم الذاتي تتفشى بين الأقاليم السودانية

يرى مراقبون أنه يحمل مزايا الاستقلال الإداري عن الحكومة المركزية مع قدر من التنمية فضلاً عن استدامة السلام

يطالب أهالي شرق السودان باستمرار بمنحهم حق تقرير المصير (اندبندنت عربية - حسن حامد)

منذ انفصال جنوب السودان في عام 2011 عبر الاستفتاء على حق تقرير المصير، وفق نصوص "اتفاقية سلام نيفاشا"، باتت عبارتا تقرير المصير والحكم الذاتي تثيران قلق ورعب حكام وسياسيي السودان، إذ تستدعيان تجربة انفصال جنوب السودان المريرة التي ذهبت بنحو ثلث مساحة البلاد بشعبها، مخلفةً جرحاً سياسياً عميقاً، وفصداً وجدانياً غائراً لكلا الشعبين، ما جعل الحديث عن مصطلحي "الحكم الذاتي" و"الاستفتاء" مثاراً لمواجع جرح الجنوب و"افتراقه عن حضن الوطن".

عقدة الانفصال

منذ ذلك الحين وحتى توقيع اتفاق سلام جوبا، بات مصطلح الحكم الذاتي مثل جحر الحية الذي يخشى المرء أن يلدغ منه مرتين، لكن جاء "اتفاق جوبا" ليضع البلاد أمام أكثر من جحر، بإقراره منطقتين للحكم الذاتي في كل من النيل الأزرق وجنوب كردفان ومعها على الدرب ذاته، ولاية غرب كردفان الحالية، وفق تدابير وحدود يقرها مؤتمر مخصص لنظام الحكم، في وقت باتت فيه "دارفور" إقليماً واحداً يجمع ولاياتها الخمس، بحاكم واحد وخمسة ولاة.

لكن ولدواعي تخفيف المخاوف القديمة والعقدة المترسبة من الحكم الذاتي منذ انفصال الجنوب، وضعت المادة (8) من اتفاقية السلام، ونصت على تمتع منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بحكم ذاتي شرط ألا يقود ذلك إلى الانفصال أو المساس بوحدة السودان شعباً وأرضاً.
على النسق ذاته، جاء المرسوم الدستوري المنفذ لبند إقرار الحكم الذاتي لمنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، مشيراً أيضاً إلى منح النظام نفسه لولاية غرب كردفان الحالية، على أن تحدد حدودها مع جنوب كردفان على ضوء مخرجات مؤتمر نظام الحكم في السودان الذي نصت الاتفاقية على عقده. غير أن الأمر لم يقف عند ذلك الحد، إذ سرت في الآونة الأخيرة عدوى وحمى المطالبة بالحكم الذاتي إلى أقاليم أخرى في البلاد وبإلحاح، حتى قبل التطبيق الكامل للتجربتين اللتين أقرهما اتفاق السلام، وتقييمهما.


مزيد من المطالب

وكشف مبارك عباس، رئيس "المجلس الأعلى لكيانات الشمال"، عن مذكرة تقدم بها المجلس في وقت سابق، إلى رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، تؤكد تمسكهم بمطلب منح الحكم الذاتي للإقليم الشمالي.

ودعا عباس خلال الإفطار الرمضاني الذي جرى في منزل عضو مجلس السيادة الانتقالي أبو القاسم برطم، بحضور حشد من القيادات القبلية والشعبية والسياسية، أبناء الإقليم الشمالي إلى الالتفاف والوحدة خلف مطلب الحكم الذاتي من أجل خدمة إنسان الإقليم. وقال "نريد أن نحكم أنفسنا بأنفسنا، ولا نريد أن نتحمل تبعات مشاكل في مناطق أخرى يمولها ويغذيها أشخاص معروفون ولا نعرف لصالح من".

بحسب رئيس مجلس كيانات الشمال، فإن الإقليم الذي يضم ولايتي "الشمالية" و"نهر النيل" يمتلك كل مقومات النجاح والانطلاق من حيث الإمكانات البشرية والمادية المعروفة لدى الجميع وأهمها الذهب، مشدداً على أهمية وحدة كل أهل الشمال ونبذ الخلافات.
و نوّه عباس بأن "إنسان الإقليم ساهم في تطوير كل السودان وبعض الدول العربية، بينما لم يقدم للشمال ما قدم للآخرين. كما أن إنسان الإقليم لديه بصماته الواضحة في كل مدن وقرى السودان التي لا يستطيع أحد أن ينكرها، وقد حان الوقت ليخدم منطقته التي تفتقر إلى الخدمات والطرق ومقومات الحياة على الرغم من توفر الموارد.

وسبق مطلب الشمال بالحكم الذاتي، مطالبة "المجلس الأعلى لنظارات البجا" والعموديات المستقلة، بحق تقرير المصير لشرق السودان ضمن توصيات ما يعرف بـ"مؤتمر السلام والتنمية والعدالة"، من أجل تثبيت الحقوق التاريخية، بنهاية سبتمبر (أيلول) 2020 في مدينة سنكات بشرق السودان، الذي أوصى بذلك على خلفية معاناة الإقليم من الظلم والتهميش خلال الحقب الماضية.
وفيما قال المتحدث باسم "مجلس البجا" في شرق السودان، عبد الله أوبشار وقتها، إن "قرار المطالبة بتقرير المصير لإقليم الشرق جاء رفضاً للتهميش التاريخي"، أوضح رئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، الناظر محمد الأمين ترك، أن "مشكلة الإقليم تكمن في الظلم والمعاناة التي عاشها طوال الفترة منذ استقلال البلاد وحتى الآن".


النجاعة والخطورة

وعلى الرغم من استناد فلسفة ومبررات قرار الحكم الذاتي على نجاعته في تسوية نزاعات إقليمية ووقف الحرب في بعض تجارب الدول الأخرى، بحيث لا يفترض وجود تعارض بين مناطقه والأقاليم الأخرى من منطلق الخصوصية التي يتمتع بها كل منها، فضلاً عن تنوع واختلاف القضايا والمشكلات التي يعانيها كل إقليم، مع توافر القاسم المشترك في وقف الحرب وتحقيق التوازن التنموي، لكن إلى أي مدى تظل المحاذير والمخاوف التي عبر عنها اتفاق السلام نفسه قائمة، وأي فرص للنجاح ينتظر أن يحققها من دون أن تؤثر في وحدة البلاد وتماسكها؟
في السياق، أوضح أستاذ العلوم الإدارية والمختص في الفيدرالية والحكم الإقليمي، الدكتور جلال محمد أحمد، أن "الحكم الذاتي يحمل مزايا الاستقلال الإداري شبه الكامل عن قبضة الحكومة المركزية، وكفالته للمواطنين أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم مع ضمان قدر من الخدمات والتنمية عبر قسمة عادلة للثروة والسلطة، فضلاً عن وقف الحرب واستدامة السلام، غير أن التقاطعات في السلطات والتشريعات بين مكوناته والمركز، قد لا تكفي النصوص لضبطها، وربما تكون ممارسة تلك الاختصاصات هي الحاسمة في نجاحه من عدمه".
لكل ذلك يرى أحمد، أن "الحكم الذاتي ليس جيداً أو سيئاً دائماً، لكنه قد يكون خطيراً جداً بالنظر إلى قربه من النمط الكونفيدرالي من حيث الاستقلال الإداري عن الحكومة المركزية، مع اتساع دائرة السلطات والاختصاصات التشريعية والتنفيذية لأقاليم الحكم الذاتي، حتى في جوانب الأمن والشرطة والتمثيل الخارجي، ولأن الأمر قد لا يرتبط دائماً بالنظرية بل أيضاً بطريقة ممارسة تلك السلطات والصلاحيات، والظروف المحيطة بالمنطقة مع اصطدام الطموحات والآمال الكبيرة بواقع غير مواتٍ لتحقيقها، لذلك من الممكن أن يؤدي الحكم الذاتي بطريقة أو أخرى، إلى الانفصال وربما يحدث ذلك في ظل عدم توفر شروط حسن الجوار للجار الجديد، الذي قد يغادر حاضنته الأم غاضباً".

شروط ومحاذير

ولفت أستاذ الفيدرالية والعلوم الإدارية، إلى أن "النص على عدم المساس بوحدة السودان أرضاً وشعباً كما جاء في اتفاق المنطقتين في جوبا قد لا يكون كافياً لمنع وقوع الانفصال، بخاصة أن تجربة اتفاقية سلام نيفاتشا في عام 2005 كانت قد نصت بوضوح على عمل كل أطراف الاتفاق من أجل جعل الوحدة جاذبة، لكن على الرغم من ذلك انفصل جنوب السودان".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأشار أحمد إلى أن "هناك شعرة رفيعة تفصل بين أنماط الحكم الفيدرالي والإقليمي والذاتي، لذلك هناك مناطق عدة لم تصل بعد من حيث التهيئة البنيوية الإدارية والتشريعية إلى مرحلة الحكم الإقليمي الذاتي، مشيراً إلى أن "وضعية إقليم النيل الأزرق بالنسبة إلى الحكم الذاتي أفضل من جنوب كردفان نظراً إلى طبيعة التركيب الديموغرافي لكل منهما، فالنيل الأزرق أقل حدة من حيث التباين والنزاعات الداخلية وأكثر تماسكاً، مما يدعم فرص نجاح الحكم الإقليمي الذاتي هناك، بينما يظهر التباين القبلي بصورة أكبر في جنوب كردفان".

ورأى المتحدث ذاته "أن لا ضرورة لاستعجال بعض الأقاليم الأخرى في المطالبة بالحكم الذاتي، إذ لا تكفي النظرة إلى موارد الإقليم والرغبة في تحشيدها لصالحه أولاً، لقيام حكم ذاتي دفعة واحدة، لأنه من الممكن أن ينعش ذلك تصدعات وخلافات إثنية نائمة وخامدة منذ زمن بعيد، على خلفية ضعف التوازن التنموي في بعض المناطق داخل الإقليم نفسه. لكن من الممكن أن يكون الحكم الإقليمي كافياً جداً لتحقيق تطلعات أهل الإقليم في توظيف موارده التنموية والبشرية المادية لصالحه، لا سيما في حالتي إقليمي الشمال والشرق في ظل فترة حكم جعفر نميري التي حققت قدراً من التنمية والاستقرار هناك، مع النظر إلى محاذير عدة بخصوص تطبيق الحكم الذاتي في ما يتعلق بامتداد كل إقليم ووضعيته بالنسبة إلى دول الجوار والتداخل الإداري والإثني".

سيولة سياسية

من ناحية أخرى، وصف عضو اللجنة التنفيذية لمؤتمر نظام الحكم في السودان، جبريل حسن، "عدوى انتقال المطالبات بالحكم الذاتي إلى مناطق أخرى"، في ظل إقرار العودة إلى الحكم الفيدرالي الإقليمي، بأنها "تنطلق وتتغذى من واقع حالة السيولة السياسية والتعثر، ما ألقى بظلاله على مجمل السلوك السياسي لتسوده وتتنفذ فيه روح تقديم الذات ومصاف القيادة الافتراضية، بينما تغيب الضوابط المنطقية لمفهوم الحرية السياسية تجاه المتطلبات الوطنية". واعتبر حسن أن "غياب المؤسسات الحزبية السياسية الحقيقية ودورها في تقديم تعريف وتفسير، بل والمبرر المناسب لتلك المطالبات، يكشف إلى أي مدى لم تستصحب معها أهم المبادئ الوطنية المتمثلة في وحدة أرض وشعب السودان، إضافة إلى بروز خطاب الكراهية والجهوية والعنصرية الذي وصل إلى داخل المجتمعات المحلية وأصبحت تقوده قيادات مجتمعية كإحدى طرق وآليات الوصول إلى الحكم من دون النظر إلى الأضرار الناجمة عن ذلك".

 وأردف، "بالعودة إلى توصيف أكثر دقة يمكن القول إن عملية انتقال حمى المطالبات تعتبر في الأساس جزءاً من مسؤولية الدولة في تعريف نظام الحكم، من خلال منهج شامل تقره خطة الدولة وسيادتها التي قد تفضي إلى تجريم هذا السلوك الذي قد يكون مهدداً لوحدة السودان في حال غياب الضوابط السياسية والوطنية والإدارية، بخاصة أن الموضوع كبير وحساس ويتعلق بسؤال جوهري: حول كيف يحكم السودان أولاً؟".


الخلل والإقرار

وعبّر عضو اللجنة التنفيذية لمؤتمر نظام الحكم في السودان عن اعتقاده بأن "هناك خللاً كبيراً قد يرافق مسألة إقرار حق الحكم الذاتي لأقاليم تمتلك حدوداً دولية، لأن من قام بذلك لم يستبطن المخاطر التي قد تترتب على ذلك، بحكم أن المظلة الفيدرالية فوق الحكم الإقليمي قد تسقط تحت سقف السلطات المشتركة وتقود إلى إقرار حكم ذاتي آخر داخل الإقليم نفسه، وبخاصة إذا تخللته أطراف دولية مثل نموذج جبال النوبة".

 وأقرت "اتفاقية جوبا" للسلام الموقعة بين الحكومة الانتقالية والحركات المسلحة في أكتوبر (تشرين الأول) 2020، الحكم الفيدرالي الإقليمي في السودان مع منح منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق حكماً ذاتياً، غير أن المادة (8) من الاتفاقية اشترطت ألا يؤدي ذلك إلى الانفصال وعدم المساس بوحدة شعب السودان وأرضه.

عطفاً على ذلك، أصدر رئيس مجلس السيادة، الفريق عبد الفتاح البرهان مرسوماً دستورياً، حمل الرقم 9 لعام 2021، قضى بتنفيذ ما جاء في الاتفاق، بمنح المناطق المشار إليها حكماً ذاتياً من دون المساس بوحدة البلاد.

المزيد من تقارير