Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صامويل هنتنغتون اقترح تقسيم أوكرانيا بين هويتين

"صراع حضارات" أم صراع ثقافات وقوميات... وماذا عن طغيان مفهوم السوق والمصالح؟

الصراع الدائم في لوحة لنبيل العلي (صفحة الرسام على فيسبوك)

قد يكون من المبكر استخلاص العبر والتوصيات من الأبحاث التي تناولت جائحة كورونا، وما خلفته على جميع الصعد في العالم أجمع، ولكن الحرب التي تخوضها اليوم روسيا الاتحادية ضد جمهورية أوكرانيا، وأخبار الدمار وصوره والفظائع التي ترتكب بحق الإنسان هناك، نساء وأطفالاً وشيوخاً، وتهجير الملايين الأربعة أو الخمسة بحسب بعض المصادر إلى بلاد الجوار، مثل بولونيا ورومانيا ولاتفيا ومولدوفا وغيرها، يحمل المثقفين والفلاسفة والفنانين وعلماء الاجتماع والسياسة وغيرهم على معاودة النظر في كل العوامل التي يمكن أن تؤدي إلى حرب عالمية ثالثة، على ما بات يكرره المعلقون والمحللون عبر المنابر الإعلامية في العالم، تضع نقطة الخاتمة لبشرية إثر حرب نووية ماحقة ساحقة.

هل يمكن القول إن تلك الحرب إن هي إلا تمظهر لصراعٍ بين حضارتين إنسانيتين، هما الحضارة الأوروبية والأميركية الغربية (الولايات المتحدة الأميركية) والحضارة الروسية ممثلة بروسيا الاتحادية ومن يدعمها؟ 

المفهوم الإشكالي

في كتابه الإشكالي "صراع الحضارات، إعادة صنع النظام العالمي" قال صامويل هنتنغتون بأن انقساماً حاصلاً بين الشعوب والأنظمة في الزمن اللاحق بانهيار الاتحاد السوفياتي أوائل التسعينيات من القرن الـ 20 سيؤدي إلى صراع بين الحضارات، لا سيما بين الحضارة الغربية ذات النظام الرأسمالي الحر، إلا أن أفدح ما قاله يكمن في نقاط آتية:

- أن الصراع العنيف (الحروب) بين الدول ما بعد انتهاء الحرب الباردة وانهيار الاتحاد السوفياتي يحتمه الاختلاف الحضاري، باعتبار "الحضارة أعلى تجمع ثقافي من البشر، وأعرض مستوى من الهوية الثقافية" (ص:71)

- أن الدين يشكل العلامة الأميز في الحضارة السالف وصفها، وبالتالي فإن الحرب بنظره محتملة الوقوع، إذ يكمن الاختلاف الديني والمذهبي (باكستان/ الهند، إيران/ السعودية، لبنان: مسيحييه/ مسلميه، السودان: الجنوب/ الشمال، الكروات/ البوسنيين) وهكذا دواليك.  

- أن ما يقصر عنه الدين، حين يكون مشتركاً بين جماعتين، تعوض عنه الهوية القومية، واللغة الدالة على الانتماء القومي، كما هو حاصل بين الروس والأوكران.

وبناء عليه يقترح هنتنغتون منذ العام 1996، عام صدور الكتاب من جامعة أوكسفورد تقسيم أوكرانيا إلى اثنتين، "روسيا الأوكرانية الشرقية الأرثوذكسية، وأوكرانيا الغربية المنتمية إلى الكنيسة الشرقية" (ص:62).

وهكذا وجدت الإنسانية نفسها فجأة، من منظار هنتنغتون بالطبع، بعد اندثار الاتحاد السوفياتي وتقهقر الأحزاب والنقابات والاتحادات ذات الرؤية الاشتراكية والشيوعية، والتي ترى إلى المجتمعات والأنظمة السياسية على أنها تمثل مصالح طبقة البروليتاريا، أو البورجوازية الوطنية، والتي تعادي بدورها طبقة الرأسماليين والنظام الحر وغيرها من التصنيفات، وجدت البشرية نفسها إزاء انقساماتها التي غادرتها في أوروبا، أقله لأربعة قرون خلت.بيد أن مزاعم هنتنغتون الكثيرة في كتابه الواسع الانتشار والمترجم إلى أغلب اللغات الحية والمتداولة في العالم، وإن وجدت لها من يأخذها على محمل الجد والحقيقة ويعمل بها، فإنها أثارت ردوداً لا تكاد تحصى، وألصق بها من المثالب ما أزال عنها صفة الصدقية والشمول والراهنية.

ثماني حضارات

أول المزاعم التي تصدى لها المفكرون العرب، بعد الغربيين، اعتبار هنتنغتون أن ثمة ثماني حضارات هي الحضارة الصينية والهندية واليابانية والإسلامية واليونانية والإفريقية والغربية (أوروبا، أميركا الشمالية، والجنوبية اللاتينية)، والشرقية (تركيا، روسيا، إيران، أرمينيا، العراق، سوريا، لبنان، فلسطين). وفي الردود عليه أن الحضارات الجاري تعدادها وإن تكن وليدة بيئتها وزمانها وتاريخ إنسانها في تطويع الطبيعة وابتكار الأساليب المختلفة للعيش والتخاطب وتدوين المعارف المكتشفة، وتأريخ الصراعات مع شعوب مجاورة وأخرى بعيدة، فإن مقولة تصنيف البشرية من قبل هنتنغتون باعتبارها "قبائل ذات سمات مشتركة"، فإنها تنحو إلى التضامن والتكامل في ما بينها، وإعانة بعضها على البقاء نظير ما شهدنا في جائحة كورونا، ونظير ما يتهدد بعض البلدان من مجاعة مؤكدة بسبب فقدان القمح من أسواقها، إثر الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، وعجز الأخيرة عن تصدير ما مجموعه 55 مليون طن من القمح عبر مرافئها المحاصرة والمدمرة.

وإن صحت بعض الوقائع الدالة على الصراع بين الدول ذات الإرث السياسي المشترك بما فيه من نزاعات قديمة وثارات وجراح لم تندمل بعد، أو هي ذات انتماءات دينية مختلفة، مما أورده هنتنغتون فإنه لمن قبيل الجنون وانعدام المسؤولية اعتبار الخلاف الديني بين الشعوب دعوة مستدامة إلى الصراع الدامي في ما بينها، ولنا أن نتصور نشوء النزاعات بين أتباع اللغات المختلفة في العالم، ولا سيما الذين يتساكنون الأرض نفسها والوطن نفسه، ويتقاسمون التاريخ ذاته، ويقيمون في ما بينهم أوثق العلاقات وأشدها ترابطاً. وبناء عليه، لا يسعنا سوى اعتبار هذه الحضارات الفاعلة اليوم، بحسب هنتنغتون حضارة واحدة "بموجاتها الحداثية المتلاحقة وثوراتها التقنية الفائقة" على حد تعبير المفكر علي حرب.

ثورات العصر 

ذلك أننا نحن البشر أنى كنا "في كاليفورنيا أو في هونغ كونغ وفي باريس أو في طوكيو دبي أو ماليزيا، فنحن إزاء حضارة واحدة يفيد منها كل الناس ويسهمون في صناعتها"، ويورد حرب مثالاً ساطعاً على ذلك، وهو ما تقوم به الصين من استثمارها ثورات العصر الرقمي بحواسيبه الإلكترونية وآلاته الذكية وبرامجه الرقمية". (ص:83) ولنا أن نعتبر من تجربتين مضى عليهما عقدان من الزمن، وهما "القاعدة" التي استهدفت مركز التجارة العالمي يوم الـ 11 من (سبتمبر) أيلول العام 2001، و"داعش" التي عاثت فساداً وخراباً وقتلاً في كل من العراق وسوريا، ومدى التضامن الأهلي والرسمي الذي أبداه المجتمع في كلا البلدين، معطوفاً على التضامن الدولي من القوى العظمى في سبيل ردع هذه الظاهرة المتطرفة ودفع الأذى عن الناس، أياً كان انتماؤهم ولغتهم وقوميتهم ودينهم.

ثم إن ادعاء هنتنغتون بأولية الغرب، وقيادته ركب التمدن، على مقصد جرجي زيدان، أواخر القرن الـ 19، وإيثارنا اللفظة على التحضر والحضارة، وقيامه مثالاً يحتذى لسائر الحضارات، فيه مغالطات كثيرة وقدر عال من الابتسار والغرضية البائنة، إذ يتغافل المذكور عن حربين عالميتين كان الغرب منطلقهما، لا الهند ولا البلدان العربية التي كانت لا تزال قيد التمدن، وأن عشرات ملايين من الأرواح أزهقت فيهما من أجل تمتين السلطات الاستعمارية لهذه البلدان في العالم، وأن الانقسامات القومية والسياسية ثم المصلحية بين هذه الدول لم تكن أبداً لتستحق الاقتداء، في حين تنهض تجربة المهاتما غاندي في الهند، التي كانت مستعمرة من قبل الإنجليز، مثالاً يحتذى في احترام الكائن البشري، سواء أكان ظالماً أو مظلوماً، وبناء شخصيته وتحقيق فرادته وانفتاحه على الدنيا وكائناتها، من دون أن يتخلى عن حقوقه المشروعة في الغذاء والسكن وحرية الرأي والكرامة الوطنية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولو عددنا مظاهر الصدام بمنشئها الغربي الذي يزعم هنتنغتون تصدره مشهد التمدن، لوجدناها ماثلة في بروز الأنظمة الشمولية مثل النازية والفاشية أو الستالينية واللينينية، والتي كانت سبباً لاندلاع الحروب والمنازعات على امتداد ثلاثة عقود كاملة، من القرن الـ 20 (1914-1945)، وكانت قد سبقتها حروب ومنازعات، على امتداد القرن الـ 19 بين الإمارات والجمهوريات والإمبراطوريات، إلى أن بزغ فجر الدول المستقلة ذات السيادة، والقائمة على حدودها المعترف بها.

وإذاً فالمثال الغربي (الأوروبي والأميركي) وإن يكن سباقاً إلى تحقيق شروط التمدن والتقدم العلمي والنمو الاقتصادي صناعة وزراعة وعلوماً واختراعات، فإنه يظل محتاجاً إلى تصويب وتقويم ليس وفقاً لهذه المعايير الحداثية وحسب، بل بناء على معيار ما يمكن تقديمه للآخرين، ونكاد نقول مع الباحث والمؤرخ خالد زيادة إنه "لم يعد لأوروبا ما تقدمه للعرب"، وربما للأمم الأخرى.

في مقابل مفهوم صراع الحضارات العائد إلى هنتنغتون، أخذت تتنامى العديد من المبادرات البديلة مثل اقتراح الرئيس الإيراني محمد خاتمي المتمثل بحوار الحضارات العام 2001، أي في عز الردود العنيفة على هجمات 11 سبتمبر (أيلول) في العام نفسه، ومثل ذلك مبادرة رئيس الوزراء الإسباني والتركي من أجل تأسيس "تحالف الحضارات" وغيرها من المبادرات البناءة.

وإن صح أن بوادر انتصار الرأسمالية والنظام الحر في ما آل اليه صراع الحضارات، على زعم هنتنغتون، فإن معيار المصالح الاقتصادية بين الدول المتصارعة وقيد الصراع، وقيد التعاون والتحالف، ربما يكون الغائب الأكبر عن نظره، والمصالح اليوم هي قوت الشعوب غداً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة