Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بس يا بحر" لخالد الصديق بين أفضل عشرين فيلما عربيا

قبل نصف قرن فيلم مفاجئ من الكويت يفتتح السينما الأنثروبولوجية العربية

ملصق فيلم "بس يا بحر" (موقع الفيلم)

لعل واحدة من أكثر المفاجآت لفتاً للنظر في ذلك الاستطلاع الذي أجراه مهرجان دبي السينمائي مباشرة قبل أن يتوقف مأسوفاً عليه، وفيه طلب من عدد كبير من السينمائيين والنقاد أن يختاروا تلك الأفلام التي يعتبرونها الأهم والأجمل في تاريخ السينمات العربية، والمفاجأة أن الفيلم الكويتي الذي يبدو منسيّاً بين الحين والآخر والمعتبر دائماً الفيلم الروائي الطويل الكويتي الأول وربما الأخير ذا القيمة حتى يومنا هذا، حلّ في المركز العشرين في ذلك الاستطلاع. والمدهش أنه لم يحلّ في ذلك المركز بسبب كويتيته أو أي شيء من هذا القبيل، بل بفضل قيمته الخاصة النابعة تحديداً من موضوعه والشكل السينمائي الذي قُدّم به. وهذه قيمة لم يتوقف نقاد ومؤرخو السينمات العربية عن تأكيدها في لغة وعبر تحليل نخبويّين منذ ظهور الفيلم عند بداية سبعينيات القرن العشرين، بل أكثر من هذا عند ظهور النقد السينمائي العربي كفاعلية إبداعية.

اختراع سينما ونقدها معاً

والحقيقة أنه لولا ظهور ذلك النقد، لكان من الصعب على "بس يا بحر" أن يُكتشف كعمل إبداعي يسير عكس التيار السائد، حتى في السينما الطليعية العربية. ولا نتحدث هنا لا عن جرأة الفيلم في التصدي لموضوع كان يبدو كالمسكوت عنه في التاريخ العربي الحديث: وبالتحديد الحياة في الخليج قبل ظهور النفط وتراكم الثروات، ولا عن البعد الذاتي تقريباً الذي حاول فيه ذلك المبدع الشاب الذي كانه خالد الصديق حين حقق الفيلم (بالكاد كان عمره 25 سنة أي العمر الذي يحلم فيه المبدع بتحقيق إبداعات كبيرة ضخمة منفلشة، لكن الصديق غاص في فيلم متقشف شديد الصعوبة وهو يعرف سلفاً أن العقل العربي الذي يحمله الجمهور المدعو لمشاهدة الفيلم، لم يبلغ بعد من النضوج بحيث يكون مستعداً لسينما كهذه)، حاول أن يدنو من السينما من خلاله. فـ"بس يا بحر" يتناول زمن ما قبل النفط والثروة في ذلك البلد الخليجي، حين كان الكويتيون كما الكثير من الشعوب الخليجية البحرية لا يزالون يقتاتون من صيد اللؤلؤ في الأعماق القاسية القاتلة بحيث بالكاد ينجو غطاس منهم، كما يدل المعنى العربي المفترض، في نظر بعض الباحثين اللغويين، لكلمة "نوخدة" التي تعني البحار/ الغواص في اللهجات الخليجية. فإذا كان كثر يرون أن الكلمة فارسية الأصل أو ما هو قريب من ذلك، يرى علماء أكثر دقة أنها مركّبة من كلمتين هما "النو" و"أخذه" في نوع من التسليم بأن ممتهن الغوص بحراً إنما نذر نفسه كي يأخذه البحر يوماً...

الموضوع في كلمة

وهذا هو على أية حال موضوع هذا الفيلم وما يحمله العنوان، طالباً من البحر أن يتوقف عن التهام الباحثين وسط عواصفه وأمواجه وأعماقه عن أرزاقهم. والحبكة تتناول حكاية غواص شاب سوف يلتهمه البحر. غير أن هذه الحبكة ليست العنصر الأهم في هذا الفيلم، فلو كانت كذلك لكان في الإمكان التعبير عنه عبر صور قليلة يمكن توقعها منذ البداية. المهم هنا هو البعد الأنثروبولوجي الذي عالج به خالد الصديق موضوعه وحياة بلده: تفاصيل الحياة اليومية التي كان لا يزال يعيشها، إنما في خواتيمها عدد كبير من الكويتيين وغير الكويتيين. تفاصيل شظف العيش الذي لئن بدا من خلال الفيلم نوعاً من الغرائبية بالنسبة إلى الذين يعرفون الخليج نفطاً وثروات، فإنه بالنسبة إلى الخليجيين أنفسهم، وهنا في "بس يا بحر" بالنسبة إلى الكويتيين تحديداً، كان لا يزال جزءًا من الكابوس اليومي. وتفاصيل الموت المترصد بالناس والحظ الذي قد يلوح من خلال لؤلؤة يمكنها أن تقيهم العوز أياماً، كما يمكن لعدم التمكّن من العثور عليها، أن يغرقهم في يأس وجوع لفترة تتجاوز ذلك.

مال شحيح في... الكويت

إذاً كان خالد الصديق، حالة نادرة في تاريخ السينما العربية، أولاً، لأنه كويتي. فالكويت كانت في ذلك الحين، وربما لا تزال، بلداً قد يشاهد أهله السينما كثيراً، لكنها غير معروفة بأية حركة إنتاج سينمائي فيها. وثانياً لأنه وهو في الكويت كان دائماً بحاجة إلى الانتظار سنوات قبل أن يتمكّن من جمع المال اللازم لتحقيق فيلم له. وكان ذلك منذ أكثر من نصف قرن، أي منذ عرض فيلمه الروائي الطويل الأول "بس يا بحر". فكان مفاجأة حقيقية... كان جديداً في السينما العربية ليس لأنه آتٍ من بلد لا يعرف الإنتاج السينمائي، بل لموضوعه والنوع السينمائي الأنثروبولوجي الذي كان حينها جديداً تماماً على السينمات العربية نفسها. يومها فغر كثيرون أفواههم، دهشة وإعجاباً أمام فيلم نبت كالعشبة الشيطانية... من العدم. شاهدوا الفيلم وأحبوه لكنهم قالوا: تجربة لا مستقبل لها!

من الكويت إلى السودان

بعد أعوام، حقق الصديق فيلمه الثاني "عرس الزين"، وعلى الرغم من أن كثيرين لم يروا في الفيلم الجديد، قوة "بس يا بحر"... أدركوا جميعاً أنهم – حقاً – أمام مخرج قدير، مخرج يشكل حالة استثنائية في الحياة السينمائية العربية، بل ربما في الفكر التحليلي العربي بالنظر إلى أن "عرس الزين" جاء بدوره مغلّفاً ببعد أنثروبولوجي حتى إن كان هذا البعد لم يتبدَّ واضحاً هنا وضوحه في الفيلم الأول الذي أتى بالتأكيد أكثر صدقاً وذاتياً. مهما يكُن من أمر، فبعد ذلك بأعوام طويلة، لم يعُد خالد الصديق ذلك السينمائي الذي كان في شبابه المبكر وإن كان قد ظل يحلم حتى سنواته الأخيرة ورحيله قبل سنتين تقريباً من الآن بأن يعود من جديد خالد الصديق، ذلك الشاب الهاوي الناشئ المقبل على السينما بنهم: صار أكثر احترافاً وإدراكاً لأسرار اللعبة,.. لكنه مع هذا، لم يتخلَّ أبداً عن تلك المبادئ التي حكمت دخوله عالم السينما، بل جعلته بالنسبة إلى "بس يا بحر" ندّاً لواحد من أبرع السينمائيين العرب في مجال التصدي للنوع الأنثروبولوجي، السوري عمر أميرالاي الذي سبق الصديق في مبارحته عالمنا، هو الذي دائماً ما صُنّف واحد على الأقل من أفضل أفلامه، "الحياة اليومية في قرية سورية" (1974) كواحد من أقوى أفلام هذا النوع ليحلّ في الاستطلاع الذي ذكرناه أول هذا الكلام في المركز 52، ما لم يمنعه من أن يصبح "توأماً" لفيلم خالد الصديق لا يُذكران إلا سوية، فيُقال إن فيلم الصديق روائي يقدم كفيلم وثائقي، بينما فيلم أميرالاي وثائقي مشغول بلغة روائية. ناهيك عن أن الاثنين معاً يعتبران مؤسسين للسينما الأنثروبولوجية العربية التي سوف تنتج من بعدهما شرائط بديعة لعل من أهمها "الطوق والإسورة" لخيري بشارة وعدد من أفلام المغربية نرجس نجار على المقلب المغربي من الديار العربية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من الهند إلى العالم

ولد خالد الصديق في الكويت، عام 1945... وحين كان في الـ16 من عمره، رحل إلى بومباي في الهند ليتلقّى دراسته، لكنه بدلاً من هذا أمضى وقته في مشاهدة الأفلام السينمائية. عاد إلى الكويت عام 1961، واشتغل في التلفزيون، ثم تجوّل بين إنجلترا والولايات المتحدة وإيطاليا، قبل أن يحقق بدءًا من عام 1969 فيلمه الطويل الأول "بس يا بحر" الذي نال أكثر من جائزة، لعل أبرزها "جائزة اعتبار النقاد والمؤرخين، العرب والأجانب سواء بسواء، واحداً من الأفلام التي صنعت الحداثة السينمائية العربية"، لا مجرد ظاهرة "استثنائية طالعة من بلد خليجي"، كما اعتادت الأمور أن تكون خلال الأعوام الأخيرة وقبل أن تبدأ صناعة السينما الخليجية تنتشر وإن بقدر كبير من الخجل والبطء. وعام 1977، حقق خالد الصديق فيلمه الثاني "عرس الزين" الذي اقتبسه من رواية معروفة للكاتب السوداني الطيب صالح. ومنذ ذلك الحين وحتى رحيله المبكر، بقي الصديق في حال استعداد وترقب دائمين لتحقيق فيلم جديد له كان يفضل دائماً أن يحيطه بالسرية التامة، وأخشى ما نخشاه هو أن تكون تلك السرية قد رافقته إلى مثواه الأخير!.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة