Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ألمانيا الجديدة

كيف يغير عدوان بوتين برلين

خضعت ألمانيا في غضون أسبوع إلى عملية تحول دراماتيكية، لتتخلى عن سياستها الخارجية المترددة والمسالمة، وتلتزم رفع الإنفاق الدفاعي بشكل كبير. إذ حفزت صدمة الغزو الذي نفذه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لأوكرانيا، برلين على إرسال آلاف الأسلحة المضادة للدبابات والمضادة للطائرات إلى كييف. وبعد فوات الأوان، قفزت البلاد التي تعرضت لانتقادات من قِبَل حلفائها لأنها لم تفعل سوى القليل، لتحتل صدارة المجموعة الأوروبية وتؤدي دوراً قيادياً على صعيد الأمن الأوروبي. وتسعى ألمانيا حالياً إلى عزل روسيا ومعاقبتها بعد عقود من [محاولة] استرضائها واحتوائها. ويضاف إلى ذلك أن ألمانيا ستسعى جاهدة للوصول إلى الاستقلال في الطاقة عن روسيا من خلال توفير مصادر طاقة محلية جديدة في الوقت الذي تحاول فيه أن تتخلص من الإمدادات الروسية.

ولاحظ أولاف شولتز، المستشار الذي تسلم مهامه أخيراً، في جلسة خاصة عقدها البرلمان يوم الأحد المنصرم، "من الواضح أنه يتعين علينا أن نستثمر أكثر بكثير في أمن بلادنا، من أجل حماية حريتنا وديمقراطيتنا". وعبر خطاب واحد، فتح شولتز الباب أمام حقبة تغيير هائل في بلاد شعرت دوماً بالارتياح حيال وضع استمر على امتداد ثلاثة عقود. وذكرت أنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية، أنه "ربما في هذا اليوم، تدير ألمانيا ظهرها لشكل خاص وفريد من أشكال ضبط النفس في السياستين الخارجية والأمنية". إن الإرث البغيض للعدوان العسكري الألماني خلال القرن العشرين قد أفرز عقلية نظرت دوماً إلى الحوار والتعددية على أنهما أداتان أساسيتان، وفي كثير من الأحيان، أداتان وحيدتان، في السياسة الخارجية. وثمة جرعة غير صحية من الخوف من الذات في صميم التشكيك الألماني حيال القوة الصلبة. كذلك تمثلت الغاية من التحالفات في احتواء الآخرين تماماً بمقدار سعيها إلى تقييد الألمان الذين لم يخافوا شيئاً أكثر من إغراء متجدد بالانخراط في نزعة أحادية مسلحة.

قوبل الإعلان عن هذا التبدل للسياسة الألمانية بمقدار 180 درجة في الاتجاه المعاكس، بالهتاف والتصفيق الحار من قبل أشخاص وأحزاب رئيسة في البرلمان. وأعلن فريدريش ميرز، وهو زعيم المعارضة المحافظة، مخاطباً بوتين مباشرة عن أن "الكيل قد طفح. لقد انتهت اللعبة". 

لم تكن حكومة يسار الوسط الجديدة في برلين إطلاقاً تعتزم التخلي عن نهج السياسة الخارجية الذي اتبعته المستشارة السابقة أنغيلا ميركل الذي اشتمل على موازنة الحاجات الأمنية مع المصالح التجارية، أو الابتعاد عن نفور ألمانيا في فترة ما بعد الحرب [العالمية الثانية] من الصراع العسكري. في المقابل، لقد غير هجوم روسيا على أوكرانيا كل شيء بالنسبة إلى ألمانيا. وذات مرة، كتب المؤرخ فريتز شتيرن الذي نجا من المحرقة النازية حين انتقلت عائلته من ألمانيا في 1938 إلى الولايات المتحدة، عن "الدول الألمانية الخمس" التي عرفها خلال حياته، وهي جمهورية فايمار، الرايخ النازي، ألمانيا الغربية وألمانيا الشرقية في فترة ما بعد الحرب، ثم ألمانيا الموحدة التي ظهرت في أعقاب سقوط جدار برلين. ويشهد العالم حالياً ولادة ألمانيا السادسة، وهي البلاد المستعدة لممارسة القوة العسكرية دفاعاً عن قيمها الديمقراطية الليبرالية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هكذا كانت الأمور

على امتداد الأيام القليلة الأخيرة، سقط عدد من المحرمات السياسية التي استمرت سنوات طويلة، دفعة واحدة. وشكل إيقاف التصديق على أنبوب الغاز الطبيعي الروسي "نورد ستريم 2" الذي استُكمل في سبتمبر (أيلول) 2022، وإرسال أسلحة فتاكة إلى أوكرانيا، مجرد اثنتين من حالات تراجع الحكومة الألمانية في الاتجاه السياسي المعاكس. ويتمثل الشيء الأكثر أهمية من ذلك في أن ألمانيا قد هزتها حقيقة أن القوة الصلبة تشكّل أداة ضرورية في حماية الديمقراطية وردع مستبدي هذه الأيام.

في ذلك الصدد، لقد نَص أحد الموضوعات المتكررة في السياسة الخارجية الألمانية على مدى عقود على أنه لن يكون هناك سلام في القارة إذا جرى استبعاد روسيا. واشتملت هذه العقيدة على فكرة أن الاعتماد الاقتصادي المتبادل سيساعد على استقرار العلاقة. وأدت أيضاً إلى وجود صبر لا نهاية له على الكرملين، حتى في أعقاب خطاب بوتين العداوني في "مؤتمر ميونخ للأمن" في 2007، حينما اتهم الولايات المتحدة بزعزعة الأمن العالمي. واستمر [هذا الصبر] في أعقاب غزوات بوتين جورجيا في 2008، وحتى أوكرانيا في 2014. وعلى الرغم من أن ألمانيا قادت الحملة في أوروبا لفرض عقوبات على روسيا بعدما ضمت الأخيرة شبه جزيرة القرم وتوغلت في إقليم "دونباس" الأوكراني، إلا أن برلين سرعان ما عمدت إلى موازنة هذه التحركات مع عرض بناء "نورد ستريم 1" في 2015.

غيّر هجوم روسيا على أوكرانيا كل شيء بالنسبة إلى ألمانيا

وحتى في مواجهة الضغط من الحلفاء في "الناتو" وقادة أوكرانيا، بدا من غير المعقول أن تُسقط ألمانيا مقاومتها لتسليم الأسلحة [إلى أوكرانيا]. وفي وقت سابق من السنة، أشارت بيربوك في "مؤتمر ميونخ للأمن" الذي عقد خلال فبراير (شباط) الماضي، إلى أن الدروس التي يعلمها التاريخ تفيد بأن تقديم الأسلحة إلى منطقة قتلت فيها القوات الألمانية ملايين المواطنين خلال الحرب العالمية الثانية، قد لا يؤدي إلا إلى مزيد من الذنوب.  

في المقابل، غيرت حرب بوتين العدوانية كل شيء في غضون ساعات. وبات حرمان الأوكرانيين من الأسلحة الدفاعية (على غرار القذائف الصاروخية) يعني تجاهل التمييز بين الجاني والضحية. وربما تكون روسيا قد ساعدت على دحر النازية، إلا أنها الآن في الجهة الخاطئة من التاريخ.

وكذلك أعلنت الحكومة الألمانية في 27 فبراير الماضي، بعبارات قاطعة لا لبس فيها، أنها ستتصدى لبوتين وستدافع بضراوة عن الليبرالية. لربما شكّلت دعوة شولتز إلى اتباع الدبلوماسية الألمانية من دون سذاجة، نوعاً من النقد الذاتي. وأن التفاؤل بإقناع قوى تسعى إلى إعادة النظر في التاريخ [بصورة متخشبة]، بـ"التغيير عبر التجارة" قد ولى كله تقريباً. وبمقدار ما يبقى بوتين ممسكاً بمقاليد الأمور في روسيا، ستكون تلك الأداة في السياسة الخارجية [التغيير عبر التجارة] من مخلفات الماضي. وبدلاً من ذلك، باتت ألمانيا تؤيد بقوة ردع مساعي بوتين من أجل تغيير ميزان القوى في أوروبا.

 تحول باهظ الثمن

سيكون ذلك التغيير مكلفاً، لا سيما بالنسبة لقطاع الطاقة في ألمانيا الذي يعتمد على الاستيراد. في المقابل، وفق ما نقله إلى البرلمان كريستيان ليندنر، وزير المالية الذي ينتمي إلى "الحزب الديمقراطي الحر"، ذي التوجه المحافظ اقتصادياً، سيُنظر إلى هذه التكلفة على أنها "ثمن الحرية". وأعلن شولتز أن ألمانيا لن تبقى معتمدة على الطاقة الروسية. وستبني مينائين من أجل الغاز الطبيعي المسال بشكل فوري، وتبدأ تخزين احتياطات وطنية من الفحم والغاز، وتسعى إلى إبرام مزيد من عقود التسليم الطويلة الأمد في سوق الطاقة الدولية، وتسرّع بشكل أكبر إنتاج الطاقة المتجددة، أي [تحقيق] "حرية الطاقة" وفق تعبير ليندنر. ومن أجل أن تضمن ألمانيا أن لديها ما يكفي من احتياطات الطاقة، فقد يكون من الضروري ترك محطات الطاقة النووية المتبقية تعمل إلى ما بعد 2022، وهو الوقت الذي كان من المقرر إغلاقها فيه كجزء من خروج ألمانيا من الطاقة النووية. سيعتمد كثير من الأشياء على مدى انتقام روسيا بخفض صادراتها من الغاز الطبيعي.

 

وستتخلص ألمانيا الآن من تهمة الاستفادة من الإنفاق الأمني للآخرين. وحينما أعلن شولتز عن استثمار في القوات المسلحة الألمانية يجري دفعة واحدة بـ100 مليار يورو، وعن نيته جعل الإنفاق الدفاعي يتجاوز 2 في المئة من الإنتاج الاقتصادي الإجمالي، وهو الهدف المحدد للدول الأعضاء في حلف "الناتو"، فإنه قد أذهل مجتمع السياسة الخارجية، والبلاد، وحتى عديداً من أعضاء مجموعته البرلمانية ممن لم يكونوا مطلعين على قراره المفاجئ. وأوضح شولتز أن ألمانيا لاتحتاج إلى مجرد طائرات يمكنها أن تطير، وسفن تستطيع أن تبحر، وجنود مجهزين بشكل جيد، بل أيضاً إلى قوات مسلحة حديثة بصورة كاملة. وفي كلمته، طرح المستشار احتمالات اعتُبرت يوماً مثيرة للجدال من قبيل استعمال الطائرات المسيّرة، والمشاركة في أسلحة حلف "الناتو" النووية عبر الإسهام في إجراءاتها. واعتبر شولتز أنه حتى شراء طائرات "أف- 35" الأميركية الصنع قد بات مطروحاً من جديد. وفي الوقت نفسه، التزم شولتز مجدداً بناء طائرة مقاتلة من الجيل السادس، كي تكون "نظام القتال الجوي في المستقبل" الذي تطوره ألمانيا مع فرنسا وإسبانيا. وكذلك أضاف ليندنر وزير المالية، قبل أيام، أن ألمانيا تسعى إلى جعل قواتها المسلحة" واحدة من الأقدر والأقوى والأفضل تجهيزاً في القارة"، وهو تصريح كان من شأنه أن يعود عليه بلقب "الداعي للحرب" قبل أيام قليلة فحسب.

وفي اختيار ملفت للكلمات، تعهد شولتز بـ "الدفاع عن كل متر مربع من أراضي الناتو مع حلفائنا،"، في إشارة إلى الوعد الذي قطعه جو بايدن رئيس الولايات المتحدة على نفسه بالدفاع عن كل شبر من التحالف. ويجدر التركيز بشكل خاص على ذلك التصريح القوي من شولتز، باعتباره تصريحاً صادراً عن بلاد تُظهر استطلاعات الرأي فيها بعض التردد حيال "المادة 5"، وهي بند الدفاع المشترك في اتفاق إنشاء حلف "الناتو"، وتنص على أن أي هجوم مسلح ضد أي من دوله الأعضاء سيعد هجوماً عليها كلها. كم من الفرق يُحدِثه أسبوع واحد.

يخوض الصعاب وهو طري العود

نُظر بادئ الأمر إلى شولتز الذي باشر مهامه في ديسمبر (كانون الأول) على أنه متردد، بل ضعيف، خلال الأسابيع القليلة الأولى من وجوده في هذا المنصب. وقد بثت كلمته والقرارات الأساسية التي اشتملت عليها حياة جديدة في حكومته. ويسد نهجه الحاسم الفجوة بين ألمانيا وحلفائها، ويتيح أيضاً المجال أمام فرص جديدة متعددة على مستوى السياسة الخارجية. وخلال أسبوع، وضعت ألمانيا الشراكة عبر الأطلسي مع الولايات المتحدة على أساس جديد. وفي وقت سابق، رأت الإدارة الأميركية في ألمانيا شريكاً لا يمكن الاستغناء عنه في أوروبا، الأمر الذي يعد أساسياً من أجل الادعاء بأن التحالفات تقوي الولايات المتحدة من دون أن تستنزف مواردها. لكن، لم يصدق الجميع البيت الأبيض. وبقليل من المساعدة من جانب بوتين، تعمل الولايات المتحدة حالياً على إسكات منتقديها، لا سيما في الكونغرس الأميركي، حيث يقود السيناتور [الجمهوري] تيد كروز من ولاية تكساس، كتيبة من المشككين في ألمانيا. وطبقاً لتقارير صحافية مبكرة، فإن الحكومة الفرنسية مبتهجة لأن بوسع ألمانيا الآن أن تصبح الشريك الأمني الجاد الذي سعت [باريس] إليه منذ وقت طويل.   

في المقابل، ستكون لهذا القرار آثاره الأكثر وضوحاً في الشرق من برلين [في الدول الواقعة شرق ألمانيا]. إذ ستتيح لألمانيا إصلاح علاقاتها مع دول البلطيق والحلفاء الآخرين في "الناتو" على الجانب الشرقي، التي كانت قد بدأت تنظر إليها كدولة أنانية وأحياناً ودودة أكثر مما يجب حيال روسيا. وكذلك يبرز أن إرسال وحدات جديدة إلى ليتوانيا، ونشر قوات على التراب السلوفاكي للمرة الأولى، وتوسيع نطاق الحماية الجوية في رومانيا، تشكل كلها مجرد بداية في عملية طويلة ستشهد غالباً إرسال مزيد من القوات الألمانية إلى أوروبا الشرقية. قد يتسارع هذا الاتجاه حين يقرر حلف "الناتو" التخلي عن القانون التأسيسي [للعلاقات والتعاون والأمن المتبادلة بين] "الناتو" وروسيا لسنة 1997، الذي يحد من نشر القوات في الدول الأعضاء في أوروبا الشرقية، وهو تطور يبدو شبه حتمياً.

قد تصبح أوروبا أخيراً مرتاحة حيال قوة ألمانيا العسكرية.

سيحتاج عدد من القرارت التي وصفها شولتز إلى التوضيح، بدءاً من خطة طارئة لمشتريات القوات المسلحة وجاهزيتها. ولا تملك حالياً معظم الوحدات عتادها الخاص، بل تحتاج إلى استجداء المعدات أو استعارتها من تشكيلات أخرى حينما تُكلف تنفيذ مهمة لـ"الناتو" في الخارج. ويجدر ببرنامج للطوارئ أن يحاول تغيير هذا الوضع المحرج للدولة التي تمثل أكبر اقتصاد في أوروبا. وكذلك يجب التخلي عن استراتيجية الأمن القومي التي سبق لحكومة شولتز الشروع في إعدادها، والبدء في صياغة استراتيجية جديدة من الصفر. ويجب إخضاع المفهوم الاستراتيجي الجديد لـ"الناتو"، الذي لا يزال قيد الإعداد أيضاً، إلى التقييم مجدداً، حي يأخذ الموقف الجديد لألمانيا بعين الاعتبار.

 وكخلاصة، برزت ألمانيا جديدة لم يعش ستيرن ليراها أو يضمها إلى مجموعة نماذجه المختلفة، وستستخدم أكبر ميزانية دفاعية في أوروبا حتى الآن. وفي هذه المرة وحدها، تلقى الترحيب وحتى التشجيع من جانب جيرانها المباشرين جميعاً. إذ إن ألمانيا لا تتبدل فحسب، بل إن الانطباع الذي يأخذه الآخرون عنها آخذ في التبدل أيضاً. ففي2011، ذكر رادوسلاف سيكورسكي، وزير دفاع وخارجية بولندي سابق، شيئاً بدا استثنائياً حينئذ، وهو "سأكون على الأرجح أول وزير خارجية بولندي في التاريخ يذكر ذلك، لكن [ذلك مفاده] أنني أخشى القوة الألمانية بشكل أقل من الخمول الألماني الذي بدأت أخشاه." وقد استغرق الأمر 11 عاماً أخرى، إلا أن غزو بوتين لأوكرانيا ربما يمثل اللحظة التي أصبحت فيها أوروبا أخيراً في مرحلة ما بعد الحرب [العالمية الثانية] مرتاحة حيال قوة ألمانيا العسكرية.

 

* سودها ديفيد -ويلب، نائبة مدير مكتب برلين لـ"صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة".

** توماس كلاين-بروكهوف، مدير مكتب برلين لـ"صندوق مارشال الألماني التابع للولايات المتحدة".  

 

فورين آفيرز

مارس (آذار)/ إبريل (نيسان) 2022

المزيد من آراء