Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

المشهد الأوكراني من موسكو: الأبواب مشرعة على الحرب والتسوية

روسيا تلوح بورقة "الاعتراف" بالجمهوريتين الانفصاليتين وتفتح أبوابها للاجئين وبوتين يستدعي الاحتياط

الرئيسان الروسي والبيلاروسي يراقبان التدريبات العسكرية من الكرملين (أ.ف.ب)

الآن فقط، تقترب روسيا وما حولها من مناطق، من "أجواء الحرب"، وليس من "قرار غزو أوكرانيا" الذي طالما قاده حلف "الناتو" منذ نوفمبر (تشرين الثاني) من العام الماضي. ما يتوالى من أحداث وتطورات يقول، إن هناك من يدفع بالمنطقة وما حولها إلى قرار "الحرب"، وكأنما كتأكيد لمصداقية ما قاله المسرحي السوفياتي الكبير قسطنطين ستانيسلافسكي حول، أن "البندقية إذا ظهرت ضمن ديكورات المسرحية، فإن ذلك يعني أنه لا بد من استعمالها قبيل إسدال ستار الفصل الأخير من المسرحية". ولذا وعلى ضوء تدفق أطنان الأسلحة والمعدات، وما معها من قوات وخبراء ومستشارين عسكريين، على أوكرانيا خلال الأشهر القليلة الماضية، يصير من المتوقع تزايد احتمالات استخدام السلاح المتدفق، إلى المناطق الحدودية المتاخمة للمناطق "الانفصالية" في جنوب شرقي أوكرانيا.

فجأة وبقرار من "الدوائر الغربية" تجمدت الأرض في المناطق الحدودية بين روسيا وأوكرانيا وصارت أكثر مناسبة عن ذي قبل في حالتها التي كانت عليها في 16 فبراير (شباط) الذي سبق وحدده الرئيس الأميركي جو بايدن موعداً للغزو الروسي لأوكرانيا. أصبحت الأجواء مناسبة بموجب تقديرات "سي أن أن" التي عزت عدم بدء الغزو الروسي للأراضي الأوكرانية "إلى عدم ذوبان الثلوج وتصلب الأرض"، لما نراه صدى الأحداث في الإعلام الروسي اليوم من تزايد سخونة الموقف واندلاع القصف المتبادل بين القوات الأوكرانية و"ميليشيات" الجمهوريتين الانفصاليتين في منطقة الدونباس.

وفي الوقت الذي يستقي فيه العالم معلوماته من مصادر غربية في معظمها، نتوقف عند ما يصدر عن الجانب الروسي من بيانات وتصريحات تقول بضرورة متابعة التحركات ليس فقط داخل الأراضي الروسية شرق الحدود مع أوكرانيا، بل وأيضاً وبالدرجة الأولى في الغرب منها، حيث وبحسبما تقول المصادر الروسية، تقوم القوات النظامية الأوكرانية، بقصف مساكن المدنيين، ورياض الأطفال تمهيداً لمحاولة استعادة هاتين الجمهوريتين بالقوة المسلحة. وفي هذا الصدد تواصل وسائل الإعلام الروسية متابعتها لما تصفه بالاستفزازات ضد "الجمهوريتين" غير المعترف بهما، ما دفع سلطات "الجمهوريتين" إلى سرعة اتخاذ ما يلزم من إجراءات لحماية المدنيين ومعظمهم من المواطنين الأوكرانيين ممن يحملون الجنسية الروسية بموجب ما كانت موسكو اتخذته بهذا الشأن من قرارات خلال السنوات القليلة الماضية. وفي إطار التغطية الميدانية ومنها ما تبثه على الهواء مباشرة، أشارت قناة "روسيا اليوم" الناطقة بالعربية إلى عمليات إجلاء مواطني الجمهوريتين، في وقت مواكب لما نقلته وكالة أنباء "تاس" حول أن الرئيس فلاديمير بوتين وقع مرسوماً باستدعاء الاحتياطي للتدريب العسكري في عام 2022. ومن اللافت أن القرار الصادر عن الرئيس بوتين بهذا الشأن تضمن الإشارة إلى أن القرار "روتيني دوري"، شأن ما صدر مثله من قرارات في أبريل (نيسان) من العام الماضي، وينص على أن "الاحتياطيين من الذين جرى تسريحهم من الخدمة مدعوين إلى التجمع للتدريبات العسكرية الدورية السنوية في القوات المسلحة، وقوات الحرس الوطني، وأجهزة أمن الدولة، وجهاز الأمن الفيدرالي".

وفيما يبدو أنه تعليق على ما تردده المصادر الرسمية في العديد من البلدان الغربية، حول أن قرار استدعاء الاحتياط الروسي خطوة على طريق الاستعدادات لـ"غزو روسي وشيك"، قال سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية، بعدم صحة هذه التفسيرات مشيراً إلى "أن روسيا تتحقق من معلومات حول تجنيد مرتزقة من كوسوفو وألبانيا والبوسنة والهرسك لإرسالهم إلى أوكرانيا للمشاركة في الحرب هناك". وعاد عميد الدبلوماسية الروسية إلى تفنيد ودحض كل ما صدر ويصدر من بيانات وتصريحات حول "الغزو الروسي الوشيك" الذي تروج له الدوائر الغربية منذ خريف العام الماضي، وبلغت حد إعلان السادس عشر من فبراير (شباط) الماضي موعداً مقرراً لهذا الغزو.

مساعي تهدئة فاشلة

كانت المنطقة جنحت خلال الأيام الأخيرة صوب التهدئة، على وقع ما أسفرت عنه من نتائج، زيارات عدد من كبار المسؤولين الغربيين لكل من موسكو وكييف في إطار وساطة "معلنة"، ومنهم الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والمستشار الألماني أولاف شولتز. وقد زاد من مصداقية ما جرى نشره من تصريحات رسمية، ومنها ما تعلق بوعد الرئيس الأوكراني زيلينسكي الذي كان قطعه على نفسه خلال استقباله المستشار الألماني شولتز الذي تولي نقله إلى الرئيس بوتين خلال مباحثاتهما في الكرملين، الأسبوع الماضي، حول موافقته على تنفيذ اتفاقيات مينسك، وهو ما دعمه ووزير دفاعه ألكسي ريزنيكوف، بتصريحات حول عدم صحة التوقعات حول الغزو الروسي الوشيك، ومناشدة الدول الغربية التوقف عن إجلاء دبلوماسييها ونقل سفاراتها إلى مدينة لفوف غرب أوكرانيا. ويذكر أن موسكو حرصت بعد توقيع اتفاقيات مينسك على رفع هذه الاتفاقيات إلى مجلس الأمن الدولي لدعمها وتثبيتها بموجب قرار صادر عن المجلس وكأنما، تحسباً لما نشهده اليوم من تراجع ونكوص عن تنفيذ الجانب الأوكراني لبنود هذه الاتفاقيات تحت رعاية غربية، بحسبما أعلن الرئيس الأوكراني زيلينسكي خلال اليومين الماضيين.

وإدراكاً من جانبها لأن الأزمة الأوكرانية، قضية ثانوية تأتي تالية من حيث درجة الأهمية والخطورة للمسألة الرئيسة التي تتعلق بعلاقات روسيا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، فقد حرصت العاصمة الروسية على تبني العلانية طريقاً إلى تفسير ما سبق وتقدمت به من مطالب أمنية. وفي هذا الإطار قالت وزارة الخارجية الروسية إنها سلمت جون ساليفان السفير الأميركي في موسكو ردها "كتابياً" تضمن تفاصيل موقفها مما سبق وأرسله الجانب الأميركي من مقترحات حول ملف الضمانات الأمنية التي يحتدم حولها الجدل بين العاصمتين منذ نهاية العام الماضي. وقالت الخارجية الروسية في وثيقتها الأخيرة: "نؤكد أن الجانب الأميركي لم يقدم رداً بناء على المكونات الأساسية لمشروع الاتفاق مع الولايات المتحدة، الذي أعده الطرف الروسي، بشأن الضمانات الأمنية". وأوضحت الخارجية الروسية أن "الحديث يدور عن التخلي عن استمرار توسع الناتو، وسحب ما يسمى صيغة بوخارست، التي تقول إن أوكرانيا وجورجيا ستصبحان عضوين في الناتو، وعدم إنشاء قواعد عسكرية في أراضي الدول التي كانت تدخل سابقاً ضمن الاتحاد السوفياتي... هذه البنود لها أهمية أساسية بالنسبة إلى الاتحاد الروسي".

أبواب مشرعة على شتى الاحتمالات

وتقول الشواهد، إن كثيراً من مفردات الأوضاع الراهنة تشي بتعقد الأوضاع إلى الحد الذي صارت فيه الأبواب مشرعة على شتى الاحتمالات ومنها خيار المواجهة العسكرية الذي يظل هناك من يحاول الدفع به إلى صدارة المشهد السياسي. وفي هذا الإطار يتوقف المراقبون عند الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي الذي أعرب عن رغبة في خوض الانتخابات الرئاسية المقبلة والفوز بولاية ثانية. ويقول هؤلاء بافتقاد زيلينسكي للخبرة السياسية وهو الذي قضى معظم سنوات عمره ممثلاً كوميدياً.

غير أن الأهم وبحسب تقديرات مراقبين كثيرين، يظل في إطار ما كشفت عنه الوثيقة الروسية التي بعثت بها روسيا إلى الإدارة الأميركية رداً على اقتراحاتها بشأن المطالب الأمنية الروسية، من قلق تجاه ما وصفته بالأنشطة العسكرية المتصاعدة للولايات المتحدة والغرب على مقربة مباشرة من الحدود الروسية، ورفض روسيا لما تعلنه واشنطن والدوائر الغربية من تهديدات بالمزيد من العقوبات. وهو ما سجلته من مفردات تتسم بكثير من الحسم والتشدد تقول، إن "عدم استعداد الغرب للتفاوض سيجبرنا على الرد بما في ذلك عبر إجراءات عسكرية تقنية"، وإن أكدت في الوقت نفسه أنه لا خطط لديها لغزو أوكرانيا ويجب إجبارها على تطبيق اتفاقات مينسك إلى جانب "وقف توريدات الأسلحة إلى أوكرانيا وسحب كل المستشارين والمدربين الغربيين من البلاد وتخلي دول الناتو عن أي تدريبات عسكرية مشتركة مع القوات المسلحة الأوكرانية وسحب كل الأسلحة التي تم توريدها سابقاً لكييف إلى خارج الأراضي الأوكرانية". وخلصت الوثيقة الروسية إلى أن روسيا تنتظر من الغرب مقترحات ملموسة حول التثبيت القانوني لتخلي الناتو عن مواصلة التوسع شرقاً، مؤكدة "أن مقترحاتها حول الضمانات الأمنية تأتي في حزمة واحدة ويجب النظر فيها من دون الفصل بين مكوناتها". إلى جانب ما أضافته حول أن "الحديث يدور قبل كل شيء عن إنشاء أساس مستقر لهيكل الأمن بشكل اتفاق ينص على تخلي الناتو عن اتخاذ أي إجراءات لاحقة تضر أمن روسيا. هذا الأمر لا يزال ضرورة مطلقة ثابتة بالنسبة إلينا". وذلك إلى جانب تحذيراتها التي أوجزتها في قولها: "إنه وفي ظروف غياب مثل هذه القاعدة المتينة لن تكون الإجراءات المترابطة للسيطرة على الأسلحة وخفض المخاطر العسكرية، التي تضمن ضبط النفس والقابلة للتنبؤ في الأنشطة العسكرية في اتجاهات منفردة، ثابتة على المدى الطويل حتى في حال التمكن من التوصل إليها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

روسيا وعضوية "الناتو"

وتفسيراً لما يتردد حول الأسباب التي تدعو موسكو إلى التصعيد والتهديد بغزو أوكرانيا كما تقول المصادر الغربية، يمكن العودة إلى تاريخ الأمس القريب وما شهده من محاولات التقارب بين روسيا والناتو منذ تسعينيات القرن الماضي. وسبق لروسيا أن طرحت الانضمام إلى الناتو شريطة الاستناد في ذلك إلى مبادئ التكافؤ والمساواة ومشاركتها في اتخاذ القرار وهو ما رفضته الولايات المتحدة. ولعل ذلك وما أعقبه من خروج الولايات المتحدة من عدد من اتفاقيات الحد من التسلح في مطلع القرن الجاري، كان وراء ما أفصح عنه الرئيس بوتين في خطابه في ميونيخ في مؤتمر الأمن الأوروبي في مثل هذا الوقت من عام 2007، من اعتراضات ضد معايير عالم القطب الواحد وما تلا ذلك من تحركات وما اتخذه من قرارات أعادت روسيا إلى الموقع أكبر على خريطة السياسة العالمية. وجاءت الأحداث الأخيرة بما شهدته من محاولات الاستمرار في محاولات الحد من تطور روسيا وعودتها إلى سابق مواقعها في صدارة المشهد السياسي الدولي، وتقويض مواقعها تمهيداً لتحقيق "الحلم المؤجل" المتمثل في المواجهة مع الصين، لتفرض على روسيا ورئيسها التقدم بما أفصح عنه من مطالب أمنية.

ورغماً عن كل ذلك فإن هناك وفي إطار "مختلف الاحتمالات"، ما يشير ضمناً إلى إمكانية التهدئة والعودة إلى الإبقاء بالأوضاع الراهنة على ما هي عليه، اعتباراً من أنها تناسب كل الأطراف. وثمة من يقول، إن الأوضاع الراهنة تناسب الغرب من حيث كونها عنصراً فعالاً في سياساتها بشأن الإبقاء على روسيا على حافة التوتر الدائم، بما يحول دون تفرغها للتنمية والتطور، والمضي على طريق دعم قدراتها العسكرية والاستمرار في جهودها الرامية إلى "لملمة" ما بقي من أطراف الفضاء السوفياتي السابق. كما أن هناك ما يشير أيضاً إلى أن الأوضاع الراهنة، دون ما يتعلق منها بالتلويح بخطر الحرب و"الغزو الروسي الوشيك"، تناسب روسيا أيضاً في إطار تجميد الأوضاع في جنوب شرقي أوكرانيا، على غرار ما تشهده المنطقة من استمرار انفصال جمهوريتي "أبخازيا" و"أوسيتيا الجنوبية" عن جورجيا من جانب واحد منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي. ومن المعروف أن روسيا اعترفت وعدد محدود من حلفائها باستقلال هاتين الجمهوريتين وعقدت معهما كثيراً من اتفاقيات التعاون ومنها ما يتعلق بالتعاون العسكري، وإقامة قواعد عسكرية في أراضيهما. وذلك ما يظل في صدارة احتمالات ما يمكن تحقيقه على الصعيد العملي مع كل من جمهوريتي "دونيتسك"، و"لوغانسك" في جنوب شرقي أوكرانيا، في إطار ما سبق وأشار إليه الرئيس بوتين لدى استقباله المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز في الكرملين الأسبوع الماضي، تعليقاً على قرار مجلس الدوما ورسالته بشأن ضرورة الاعتراف بالجمهوريتين.

ويبقى السؤال: ماذا بعد؟

وإذا كان الرئيس بوتين بادر بالرد على هذا السؤال في حضور المستشار الألماني شولتز بقوله، إن ذلك "سوف يكون بمقتضي الخطة"، فإن هناك من يقول إن الخطة وبحسب تصريحات بوتين أيضاً، "تتوقف أيضاً على الظروف الموضوعية"، وهو قول فضفاض يحتمل مختلف التأويلات. ومن هذه التأويلات ما يمكن أن يعيد إلى الأذهان أوضاع ما بعد أزمة الكاريبي في عام 1962 الذي كادت تدفع العالم إلى حرب نووية كونية بين القوتين العظميين. ويذكر المراقبون ما أعقب ذلك من جنوح نحو التهدئة والاتفاق، أفضى بالعالم إلى ما توصل إليه على مدى سنوات طوال بما شهدته من متغيرات وتطورات حتى تاريخ نهاية الحرب الباردة في ديسمبر (كانون الأول) عام 1989.

ولعل كل ذلك يمكن أن يكون موضوعاً لمباحثات سيرغي لافروف وزير الخارجية الروسية مع نظيره الأميركي أنتوني بلينكن خلال الأيام القليلة المقبلة بحسب إعلان ما توصلت إليه العاصمتان موسكو وواشنطن من اتفاق بهذا الشأن. وحتى ذلك الحين تظل الأجواء مثقلة بغيوم الحرب، والتوتر الناجم عن استمرار تبادل القصف والمواجهة المسلحة على الخطوط الفاصلة بين الأراضي الأوكرانية والجمهوريتين "الانفصاليتين" غير المعترف بهما في جنوب شرقي أوكرانيا، في توقيت تظل فيه ورقة اعتراف موسكو بالجمهوريتين في صدارة القرارات المحتملة "تلبية لإرادة الشارع الروسي" بحسب ما اتخذه مجلس الدوما من قرار بعث به إلى الرئيس بوتين "للنظر والتنفيذ"، وهو ما سبق وأشار إليه بوتين لدى لقائه مع المستشار الالماني أولاف شولتز!

المزيد من متابعات