Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"فويتسيك" بوخنر ينقل عوالم البائسين من تقشف المسرح إلى بهاء الأوبرا

من حادثة حقيقية إلى مسرحية لم تكتمل فتحت للحداثة أبواباً مجددة

من تقديم لـ"فويتسيك" (موقع المسرحية)

عندما رحل الكاتب الألماني جورج بوخنر عام 1837 كان في الـ23 من عمره. أي في زمن يبدأ فيه المبدعون حياتهم الإبداعية. صحيح أن بوخنر لم يكُن موتسارت جديداً حين مات، لكنه مع هذا خلف وراءه ما لا يقل عن خمسة كتب من تأليفه وعملين ضخمين من ترجمته، ناهيك عن سيرة حياة حافلة بالنضال والمنفى والمشاكسة. وهو لئن كان قد ترجم عن الفرنسية مسرحيتين كبيرتين لفيكتور هوغو، هما "لوكريسيا بورجيا" و"ماري تيودور"، فلا شك أن المسرحيتين اللتين كتبهما بنفسه تُعتبران اليوم من أروع ما كتب في ذلك الزمن ولا تزال المسارح تتدافع لتقديمهما، بل يتدافع السينمائيون الكبار لأفلمتهما. وهكذا مثلاً نجد البولندي الكبير أندريه فايدا يقتبس "موت دانتون" المسرحية التي كتبها بوخنر عام 1835، فيما حقق الألماني فرنر هرتزوغ في اقتباس من مسرحيته الكبيرة الأخرى "فويتسيك" (1837) واحداً من أهم أفلامه. ولن نسترسل طبعاً في هذه اللائحة لأن موضوعنا هو بالتحديد هذه المسرحية الأخيرة التي كانت آخر ما كتبه بوخنر قبل رحيله.

مسرحية استثنائية

ففي نهاية الأمر، "فويتسيك" مسرحية استثنائية على صعد عدة. ولعل أهم هذه الصعد كونها المسرحية التي فتحت الطريق بعد ثلاثة أرباع القرن من تقديمها في فرانكفورت للمرة الأولى (1850) لنوع جديد من الأوبرا، نوع يبتعد عن تلك الفخامة الذي كانت تملأ الأوبرات لتقدم أوبرا متقشفة في موضوعها وأزيائها وديكوراتها، تتناسب مع تجديدات حداثة القرن العشرين، بخاصة مع اللون الجديد من الفن الأوبرالي الذي كان لا بد له من أن يسود في فيينا ونتاجها الموسيقي الذي جاء به كبار موسيقيي التيار الاثني عشري، لا سيما منهم آلبن بيرغ الذي أتت أوبراه "فويتسيك" لتقف إلى جانب "توأمها" "لولو" فاتحة لعصور جديدة بعدما كانت المسرحية ذاتها، وبعد رحيل مؤلفها بأعوام، قد أحدثت تجديداً شديد الطليعية في فن المسرح، تحديداً في مجال النهل من الواقع.

انطلاقاً من حادثة حقيقية

فالحقيقة أن جورج بوخنر اقتبس مسرحيته من حادثة حقيقية جرت أوائل القرن التاسع عشر في لايبزيغ، حين اتُّهم الجندي يوهان فويتسيك الذي كان يعمل حلاقاً وصانع باروكات، بقتل عشيقته أرملة الجراح دكتور ويست بطعنة خنجر. ولئن كان السرياليون سيهتمون بالحادثة والمسرحية التي اقتبسها بوخنر عنها، في القرن التالي، فإن برتولد بريخت لن يقلّ اهتماماً بها عنهم. لكن بوخنر سبقهم جميعاً على أية حال وكتب تلك المسرحية التي تُعتبر دائماً فاتحة الحداثة في الأدب الألماني الحديث حتى إن كان بوخنر قد تركها من دون نهاية، بل حتى من دون عنوان، هو الذي اشتغل عليها انطلاقاً من أوراق وقصاصات جمعها أخوه لودفيغ الذي وجد النص المسرحي بين أوراق أخيه الراحل. فنشره ليقوم عدد من المخرجين لاحقاً باستكماله كما يحلو له، ما اعتبر نوعاً من أدب مفتوح قيد الاستكمال على هوى مستكمليه.

عندما تدخل آلبن برغ

كانت أول علاقة لآلبن برغ بمسرحية بوخنر عام 1914، حين شاهدها تمثل على المسرح في فيينا. وهو كان في ذلك الحين في الـ29 من عمره ولا يزال يتتلمذ على يدي شوينبرغ الذي راح يطالبه بأن يقدم على تلحين عمل كبير، بعد أن ألّف  مقطوعات أوركسترالية عدة، ولحّن عدداً لا بأس به من الليدر (الأغنيات) لكبار شعراء ذلك الزمن. من فوره، إذاً، أدرك آلبن برغ أن هذا هو النص الذي كان ينتظره منذ زمن وأن هذه المسرحية تتجاوب تماماً وما لديه من رغبات تجديدية بالموسيقى، مع البقاء في إطار البعد الاجتماعي. ولكن سرعة اتخاذه القرار، لم تتواكب مع دينامية ملموسة في التنفيذ. ذلك أن أوبرا "فويتسيك" لم تقدّم للمرة الأولى، متكاملة إلا خلال الشهر الأخير من عام 1925، وفي برلين وليس في فيينا. غير أن أجزاء منها كانت، على أية حال، قد قدّمت قبل ذلك، أي حتى قبل أن يكمل برغ تلحينها الذي استغرقه سنوات عدة، لا تحسب ضمنها طبعاً السنوات التي خاض خلالها الحرب العالمية الأولى مجنداً، ما يعني أنه بدأ في تلحينها فعلياً عام 1918.

على خطى ماهلر

من ناحية مبدئية، لا بد من الإشارة إلى أن آلبن برغ، حين لحّن مسرحية بوخنر، استخدم النص كما هو، من ناحية الأحداث وعلاقات الشخصيات. أما التغيير الأساسي الذي أحدثه، على غرار معظم الذين اشتغلوا على المسرحية قبله، فكان في الحوارات الجديدة التي كتبها بنفسه، مستنداً فيها إلى النص الأصلي، ولكن مع تعديلات تناسب قوالبه الموسيقية. غير أن الأمر الأهم، يبقى في هذه الموسيقى، فأتى التجديد الأساسي الذي أحدثه، من أسلوب الموسيقى الاثني عشرية في تمازج خلاق مع أسلوب كان صاغه ماهلر أستاذه في ذلك الحين، لا سيما بالنسبة إلى تلحين "الليدر"، الذي كان يُسمّى بـ"الرومانسية الجديدة"، فالموسيقى التي وضعها ابن فيينا، المعاصر لاندفاعة حركة التحليل النفسي، ما كان يمكنها إلا أن تكون موسيقى مرتبطة، في ألحانها وحتى في إيقاعاتها، بالبعد الجواني النفسي للشخصيات. وكان هذا الأمر بدعة في ذلك الحين، إذ راح كل لحن يبدو معبراً وبشكل صارخ عن الشخص الذي يغنيه أو يواكب اللحن تصرفاً من تصرفاته، ما يعني أن آلبن برغ، حاول هنا أن يوجد مزيجاً خلاقاً بين الانطباعية والتعبيرية، نتج منه شيء جديد تماماً، لم يخطئ الذين بصدده وصفوا أوبرا "فويتسيك" بأنها مفتتحة الحداثة الموسيقية الأوبرالية في القرن العشرين، بخاصة أن أحداث العمل تدور داخل ثكنة عسكرية، ومن حول المجند الفقير فويتسيك، الذي يُضطهد من كل جانب بسبب فقره، إلى درجة أن زوجته لا تلبث أن تتخذ لنفسها عشيقاً داخل الثكنة هو قارع الطبل، ما يثير من حول الجندي البائس الأقاويل والشائعات ويدفعه إلى أقصى درجات الغضب، بعدما كان أول الأمر قد تقبّل مصيره نصف جاهل له/ نصف غاضٍ الطرف عنه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

...وتبدلت الأمور

قبل "فويتسيك"، لم يكُن من المعتاد أن تدور أحداث أوبرا، من حول مثل هذا الموضوع في وسط بيئة بائسة مثل هذه البيئة، إذ نعرف أن الأوبرات، ومنذ مونتفردي حتى فاغنر وفردي، تدور، أحداثاً، في عوالم فخمة أو أسطورية، في عوالم غير عوالم البشر، ناهيك عن أن حياة الفقير وبؤسه، وخياناته أو الخيانات التي يتعرّض لها، لم تكُن، في أحسن الأحوال، إلا مواضيع لمسرحيات كوميدية. مع "فويتسيك" تبدّلت الأمور، تماماً كما تبدّلت وظيفة الموسيقى، لتصبح هذه جزءاً عضوياً من الموضوع. ومن هنا، لم يكُن غريباً أن يسرف آلبن برغ إسرافاً كبيراً في استخدام الأوركسترا كما في التوزيع، بل حتى في المجاورة بين ألحان إفرادية وأخرى إيقاعية صاخبة، تبعاً لمعنى المشهد والموقع الذي تحتله، في سياق العمل ككل، الشخصيات التي نشاهدها على الخشبة.

فن لأزمنة جديدة

كل هذه التجديدات كان من شأنها في ظروف عادية أن تشكل صدمة سلبية لهواة هذا النوع من المسرح الاستعراضي، بل كذلك للذين يعرفون المسرحية في أصلها العادي. ولكن لأن الظروف لم تكُن عادية، إذ إن أواسط عشرينيات القرن الماضي، كانت زمناً متوتراً، لا تزال ماثلة فيه، في ألمانيا والبلدان الجرمانية بشكل عام، آثار هزيمة الحرب العالمية الأولى وكوارثها. وكذلك لأن زمن "الجماهير" كان قد بدأ بالفعل وسيفتح مجالات واسعة لفلاسفة من أمثال فالتر بنجامين لتحليل أنواع الفن وتجديداته في الزمن الجماهيري الجديد، كان من المنطقي أن تحقق "فويتسيك" بحسّها البؤسوي وصدمتها الشكلية، ذلك النجاح الذي جعل منها واحدة من الأوبرات الحديثة الأكثر تقديماً في شتى أنحاء العالم، معيدة إلى واجهة الحياة الثقافية في كل مرة، ذكرى جورج بوخنر (1813 – 1837)، إذ اعتبرت حداثة العمل نابعة من حداثته المبكرة جداً بل حتى من ثقافته الواسعة التي جعلته، حتى في عمل متقشف من هذا النحو، يملأ الحوارات باقتباسات تعبيرية من الكتاب المقدس كما من "فاوست غوته" و"هاملت شكسبير"، ما جعل كثراً يتساءلون من أين أتى ابن العشرين سنة بكل تلك الثقافة، بل كيف تمكّن شاب بالكاد خرج من المراهقة أن يحوّل "مصير جندي بائس ونصف أهبل"، بحسب تعبير راينر ماريا ريلكه في رسالة بعث بها إلى صديقته ماري دي لا تور، "إلى صورة لمصير الإنسانية وسط لعبة الخير والشر والحق والواجب".

المزيد من ثقافة