Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"القيصر سلطان" لبوشكين إذ حولها صاحب "شهرزاد" و"عنترة" إلى أوبرا

رمسكي – كورساكوف يضعف مرتبكاً أمام لغة شاعر الروس الأكبر

مشهد من تقديم لـ"قيصر سلطان" (موقع الأوبرا)

خلال العصور الأكثر ازدهاراً لفن الأوبرا الذي كان من ضمن أبعاده الأساسية الجمع بين المسرح بما يتضمنه من شعر والموسيقى بما يفرضه عليه هذا الفن الاستعراضي الشامل من تجديدات متواصلة تكون هي عادة العصب الرئيس لنجاح العمل وخلوده، كان هناك على الدوام تلك المعضلة المستعصية بالنسبة إلى الأولوية التي ينبغي إعطاؤها، أللشعر هي أم للموسيقى؟ وهي معضلة يمكن القول، إن ريتشارد فاغنر كان من أبرز الذين توصلوا إلى حلول معقولة لها من خلال حرصه على أن يكتب أشعار أعماله بنفسه ما أحدث لديه توازناً دقيقاً بين عنصري العمل الأوبرالي الرئيسين. بيد أن ما حققه فاغنر في هذا المجال بقي على الدوام عملاً استثنائياً، لم يُتح لكثر غيره.

بوشكين وطغيانه

ومن هنا مثلاً لا يزال علينا حتى اليوم، حين يتعلق الأمر بأوبرات مقتبسة عن نصوص أو أشعار أو حتى مسرحيات من كتابة شاعر الروس الأكبر، ألكسندر بوشكين، أن نربط العمل بهذا الأخير الذي يطغى اسمه عادة على أسماء مبدعين موسقوا تلك الأعمال، اللهم إلا إذا كان الموسيقي يحمل اسماً براقاً كتشايكوسفكي. لكن هذا الأخير لم يكن بالطبع ملحن العدد الأكبر من الأوبرات ذات الأصول البوشكينية. ومن هنا يتطلب الأمر شيئاً من اللجوء إلى الذاكرة، ما إن يؤتى على ذكر أوبرا ما، ويكون معروفاً أن نصها يعود إلى بوشكين بشكل لا يخفى على أحد، يتطلب الأمر وقتاً قبل التأكد من النسب الموسيقي للعمل، ولعل هذا ينطبق أكثر ما ينطبق على واحدة من الأوبرات الروسية الأقل تداولاً وتقديماً في أزمنتنا هذه، وقد غلب عليها تقديم مسرحي لها، أو بشكل أكثر حضوراً، قراءتها كنص في كتاب. ومع ذلك نعرف أن موسقتها تحمل توقيعاً لا يقل قيمة عن توقيع تشايكوفسكي على أوبرا "يوجين أونيغن" المقتبسة بدورها عن بوشكين: توقيع رمسكي – كورساكوف الذي اشتهر خصوصاً بقصيدتين سيمفونيتين هما دائماً الأشهر في الريبرتوار الاستشراقي: "عنترة" و"شهرزاد".

الشعر يتفوق على الموسيقى

ولعل السبب الرئيس الذي يحكم الأمر هنا، إلى جانب كون النص الروائي – الشعري الذي اقتبست هذه الأوبرا منه، من مؤلفات بوشكين ما يرجح كفة الشعر على كفة الموسيقى، هو أن رمسكي – كورساكوف نفسه حين أقدم في عام 1899 على تلحين أوبراه "قيصر سلطان" بدا من التهيب بحيث وجد نفسه يستعين بأساليب موسيقية مستقاة من سابقين له في التلحين الأوبرالي أبرزهم اينوسنت موسورغسكي، ثم يبدو في توليفته مغرياً لموسيقيين تالين له من أبرزهم سترافنسكي، وكل هذا جعل هذه الأوبرا تبدو وكأنها نوع من أنطولوجيا لتطور الموسيقى الروسية عبر ثلاثة أجيال ضاعت بينها جهود ملحن الأوبرا نفسه، فيما بقي شعر بوشكين وجمال حكايته محلقاً يشغل الذاكرة.

حكايات خادمة بارعة

والحال أن ألكسندر بوشكين (1799 – 1837)، حين كتب هذه الحكاية شعراً قبل عقود من تلحين رمسكي – كورساكوف لأوبراه المقتبسة عنها، لم يكن يفكر في كونها ستتحول إلى تلك الأوبرا التي حققت حين عرضت بعد رحيله بأكثر من ستين سنة نجاحاً كبيراً. كان يريد أن يكتب حكاية تجمع بين المعاني السياسية المبطنة والسرد الحكائي والشعر، وتطور إلى حد ما تلك الحكايات التي كانت تكتب للصغار لكن في لغة لن يضير الكبار أن يقرأوا بها فتكون المتعة مزدوجة. ومن المفيد أن نذكر هنا بالطبع أن بوشكين كتب الحكاية في مرحلة متقدمة من حياته، إذ كان منفياً في مدينة ميخائيلسكوي لا تصحبه بشكل رئيس سوى خادمة عجوز له كان من أهم ميزاتها قدرتها الفائقة على رواية الحكايات، بل الحكايات الأكثر شعبية تزينها بتفاصيل كثيراً ما أشاد بوشكين بقوة توليفات الخادمة فيها. والحقيقة أن من ضمن مزايا حكايات الخادمة أنها كانت تجمع بمهارة تلقائية بين أساطير قديمة مستقاة من شتى المراجع الشفهية، وما يروى في الأمسيات العائلية الشعبية، جامعة كل ذلك في بوتقة كانت تعرف تماماً أنها لو وضعت فيها توابل من ابتكارها سوف تنال إعجاباً شديداً من سيدها الشاب. وكان ذلك ما فعلته في حكاية "قيصر سلطان" التي سارع بوشكين إلى تلقفها محولاً إياها إلى واحدة من أجمل ما كتبه من حكايات.

أمنيات الشقيقات الثلاث

تنطلق الحكاية، في نوع من التوليف بين بعض ملامح "سندريلا" وبعض أجزاء "حكاية موسى" وربما حكاية أوديب أيضاً، من مشهد تتجاذب فيه ثلاث شقيقات أطراف الحديث فتعبر كل واحدة منهن عن أمنياتها في الحياة. فتقول الأولى، إنها تتمنى لو صارت ملكة، أن تقيم مأدبة شديدة الغنى والكرم تدعو إليها الناس أجمعين، فيما تتمنى الثانية، وهي تعمل في الحياكة أصلاً، أن تنسج قطعة هائلة من القماش تغطي بها الكون كله، لو صارت مقدرات الحكم في يدها. أما الثالثة التي سيتبين لنا أنها الأكثر تواضعاً، فتعرب عن تمنيها بأن تنجب للقيصر سلطاناً لو أصبحت زوجته ومليكة فؤاده، ابناً رائع الحسن، يكون فارساً مغواراً يتمتع بكل أخلاق ومزايا الفرسان الكبار. وهنا يظهر القيصر نفسه، ويعلن أنه سيتزوج بالثالثة فيما يعين الأولى طباخة للأمة، والثانية حائكة مقدمة على أي حائكة أخرى.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مؤامرة عائلية

وفيما تكون الملكة الشابة الجديدة حاملاً في ولي العهد الموعود، تندلع الحرب ما يضطر قيصر سلطان إلى خوضها مبتعداً عن عاصمة ملكه وعن قصره. خلال غيابه تنجب الملكة طفلهما الذي يتبين أنه يتمتع بكل ما كانت تتمنى له أمه من صفات ومزايا. غير أن أشد ضروب الغيرة والحسد تستبد بالشقيقتين الشريرتين، ما يدفعهما في مؤامرة دنيئة "تطبخها" الأولى و"تحيكها" الثانية إلى بعث رسول إلى القيصر مع رسالة تنبئه بأن زوجته أختهما قد أنجبت مسخاً مريعاً ومشوهاً. هنا يهيمن الغضب والحزن على القيصر لكنه سرعان ما يتمسك بأهداب الحكمة ويبعث من الجبهة أوامره بأن تبقى الأمور على حالها لحين عودته. بيد أن هذه الأوامر تصل إلى الشقيقتين فتقومان بتزييف الرسالة الملكية بحيث تتحول إلى أمر ملكي ينص على أن تلقى الملكة ومعها وليدها المسخ في البحر للتخلص منهما. صحيح أن هذه "الإرادة القيصرية" تنفذ بالفعل وقد حرصت الشقيقتان على ذلك بسرعة تحسباً من عودة القيصر. غير أن ما يحدث هنا هو أن أعجوبة ما تؤدي إلى إنقاذ الملكة وطفلها تحت رعاية بجعة طيبة تحمل الأم والابن موصلتهما إلى جزيرة مدهشة تتوسطها مدينة مزدهرة وحدائق غناء.

لقاء الأب بابنه

في تلك المدينة، ودائماً تحت رعاية البجعة يقوم السكان بتعيين الأمير الصغير وقد مر وقت على تلك الأحداث، ملكاً على المدينة تحت اسم الأمير غويدون. ثم ذات يوم يتراءى لقيصر سلطان أن يقوم بزيارة تلك المدينة التي سمع كلاماً طيباً عنها وعن أميرها، وذلك رغم ممانعة الأختين الشريرتين اللتين كانتا لا تكفان عن التقاط الأنباء طوال ذلك الوقت. وبالفعل يصل قيصر سلطان إلى المدينة ويتعرف في أميرها على ابنه الذي رآه متطابقاً تماماً مع ما كان قد سمع الأم تتحدث عنه أول الحكاية. وكان قيصر سلطان من السرور والدهشة إزاء هذا الابن بحيث عفا حتى عن خالتي هذا الأخير بعدما كانتا تتوقعان أن يعاقبهما بأقسى العقوبات.

تلكم هي الحكاية التي تحدث النقاد كثيراً عن ضرورة قراءتها بين السطور، والتي حولها رمسكي – كورساكوف إلى تلك الأوبرا التي قد تبدو اليوم منسية بعض الشيء لصالح النص البوشكيني. ولا بد من الإشارة، أخيراً، هنا إلى أن واحداً من أسباب نجاح الأوبرا أول الأمر لسنوات طويلة، وغيابها في وهاد النسيان بعد ذلك، أن ملحنها نيقولا رمسكي – كورساكوف (1844 – 1908)، قد استوحى في بعض أجوائها وتحديداً في مقدمتها الطويلة كما استوحى في الغناء الجماعي الذي تضمنته على شكل كورس يفسر الأحداث، بعض ابتكارات فاغنرية أطربت المستمعين – المشاهدين أول الأمر ثم أضجرتهم بعد ذلك.

المزيد من ثقافة