Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

موتسارت يدعو إلى قبول الآخر والتسامح معه في "خطف في السرايا"

تواطؤ بين الإمبراطور والموسيقي غايته العودة إلى دور إنساني للفن

وولفغانغ آماديوس موتسارت (غيتي)

تقول الحكاية إن إمبراطور النمسا جوزيف الثاني ظل مستغرقاً في صمته إنما مع نظرات إعجاب تفضح رأيه الإيجابي فيما يشاهده من تجارب على أداء واحدة جديدة من أوبرات الموسيقي الشاب موتسارت، حتى كانت الخاتمة حين خفض الموسيقي عصاه التي كان يحركها قبلاً موجهاً الأوركسترا والمغنين والتفت ناحية الإمبراطور مستطلعاً رأيه، فقال هذا الأخير بكل بساطة: "لقد لاحظت يا عزيزي موتسارت أنك أكثرت من الجمل الموسيقية في هذا العمل. بالتحديد هناك نوطات أكثر من اللازم كما يبدو لي". وهنا حين فتح الموسيقي فمه كي يبرر عمله ويشرح وجهة نظره للإمبراطور صرفه هذا بحركة لطيفة من يده متمتماً: "لكنه عملك ولا أريد أن أجادلك فيه!". ولسوف يقدم موتسارت ذلك العمل دون أن يعدل فيه وقد أدرك أن الإمبراطور راض في نهاية الأمر وأنه لم يبد تلك الملاحظة إلا ليقطع الطريق على مستشاريه الذين فهم من فوره أن هناك أموراً كثيرة في الأوبرا المعنية لم ترقهم ولسوف يستخدمون كثرة التعابير الموسيقية حجة ليهاجموها!

تجديد فني و"انقلاب" سياسي

كانت الأوبرا يومها "خطف في السرايا" التي تم التعارف على أي حال بتسميتها "مغناة" بدلاً من أوبرا لأنها كانت تحمل كثيراً من التجديدات التي تخرجها عن التصنيف الأوبرالي. ولا يجهل أحد أن بعض تلك التجديدات لا سيما الفنية منها كانت إما برضى الإمبراطور أو بتحفيز خفي منه، بينما لا شك أن التجديدات الأخرى، لا سيما "السياسية" كانت من إضافات موتسارت الذي كانت قد بدأت تظهر عليه في ذلك الحين نزعات تسامح سياسي تحت تأثير ارتباطاته بالماسونيين. ومن هنا ما سيبديه الإمبراطور من رضى غامض وخفي على خاتمة المغناة التي تتألف بخاصة من نشيد يحيي الباشا التركي سليم على عكس ما كان يفعل معظم الفنون الاستشراقية عبر أعمال كان همها أن تؤبلس ليس فقط الأتراك بل كل "الآخرين"؛ ولم يكن هذا ليروق لإمبراطور مثل جوزيف الثاني كان يؤمن بالتسامح والاعتراف بالآخر ككائن بشري، معتبراً أن في مقدور الفن أن يلعب دوراً في التقريب بين الشعوب حتى ولو فرقت السياسات بينها. ولعل من المفيد أن نفتح هلالين لنذكر هنا أن "خطف في السرايا" ذات الموضوع والأجواء التركية، بل حتى الاستعارات الموسيقية التركية كما سنرى بعد سطور، إنما كتبت وقدمت في مسرح "بورغثياتر" في فيينا 16 يوليو (تموز) 1782 في وقت كانت لا تزال ماثلة فيه صورة الهزيمة التركية الكبيرة التي وضعت حداً لطموحات العثمانيين في أوروبا، ما عنى يومها أن أوبرا موتسارت كانت بالأحرى، وفي خاتمتها على الأقل، دعوة لفتح صفحة جديدة في علاقة الشرق بالغرب.

استشراق إيحابي

كتب موتسارت "خطف في السرايا" في زمن كان الاستشراق في المجالات الأدبية والفنية قد بدأ يعم أوروبا ليصل لاحقاً إلى مبدعي التنوير من أمثال فولتير وديدرو ومونتيسكيو مروراً بكبير المبدعين الألمان غوته الذي غرق في الاستشراق إلى حد مدهش. كان المبدعون والمثقفون يتطلعون بشكل عام إلى اكتشاف شرق إبداعي يحل مكان الصورة "الحربجية" للشرق والتي كان العثمانيون قد استعادوا بها أزمان الحملات الصليبية معكوسة. ومن هنا حين أتيحت لموتسارت الفرصة ليدلي بدلوه في هذا المجال، التقطها بسرعة وقد فهم بذكائه الحاد أن الإمبراطور لن يتردد دون الوقوف في صفه. ولقد كان من آيات ذلك أن الإمبراطور طلب من الموسيقي أن تكون الأوبرا الجديدة التي يشتغل عليها مغناة باللغة الألمانية في زمن كان مستشارو القصر يفضلون دائماً مواصلة تقاليد تجعل الأوبرات إيطالية اللغة. وكان للموقف الإمبراطوري في هذا السياق دلالة بالغة الأهمية على غير صعيد، هو الذي بدا من الواضح منذ ذلك الطلب أنه يناصر موتسارت في وجه المستشارين. صحيح أن الموسيقي قدم من دون أن يعلن ذلك، عدداً من التنازلات الشكلية كنوع من مسايرة ما للقديم، لكنه كان يتطلع إلى مكان آخر تماماً. فهو، مثلاً، لئن كان قد أدخل ألحاناً إيطالية وصاغ الحبكة كلها على نمط "الكوميديا ديل آرتي" التهريجية الإيطالية وحافظ على أسلوب الفودفيل المعتاد، فإنه كان في الحقيقة ينظر في اتجاه أكثر أهمية كما سنرى.

من القراصنة إلى الباشا

تدور أحداث هذه "المغناة" ذات الفصول الثلاثة في قصر الوزير التركي واسع النفوذ خليل باشا في إسطنبول وتتمحور حول حدث أساسي ستفتتح المغناة بعد حدوثه ويتمثل في اختطاف قراصنة أتراك ولحساب خليل بيه المدعوم بجنوده الإنكشاريين، للحسناء كوستانزا خطيبة الفارس الإسباني بيلمونتي ووصيفتها بلوندي. وها هو بيلمونتي يسعى الآن وقد عرف كيف يتسلل إلى قصر الوزير التركي لإنقاذ خطيبته التي يقوم بحراستها رئيس "خصيان" خليل باشا المدعو أوسمين الذي يطمع إذا ارتبط سيده بكوستانزا أن تكون بلوندي من نصيبه هو. ويمكن لبيلمونتي أن يعتمد في مسعاه على وصيف سابق له هو برديللو الذي إذ كان قد خطف مع الحِسان وتحول إلى خادم في القصر، وبلوندي هي على أي حال، خطيبته ويريد بدوره أن ينقذها من براثن أوسمين. وهكذا إذ يرتب بلمونتي وبرديللو دخول الفارس الإسباني إلى حرم القصر بوصفه مهندساً معمارياً قادماً من إسبانيا لغايات هندسية، يصبح من السهل التحرك لوضع خطة تمكن العاشقين من إنقاذ حبيبتيهما، رغم حراسة أوسمين المشددة وإحاطته نفسه بالجنود الإنكشارية القساة الغلاظ.

انكشاف الخطة

وهكذا ننتقل في الفصل الثاني إلى البدء في تنفيذ الخطة التي، وكما الحال مع كل الفودفيلات المسلية من هذا النوع، تقوم على لعبة خداع محكمة يرسمها بيلمونتي ووصيفه لتفادي مجابهة عسكرية غير متكافئة. وهكذا ذات مساء يدعو برديللو أوسمان إلى احتساء الشراب بغية تنويمه، فينام هذا بالفعل ويجتمع بلمونتي وبرديللو بالفتاتين محاولين استكمال الخطة بعدما تيقنا من أنهما لا تزالان على العهد. ولكن في الفصل الثالث، وإذ يستتر الأمير ووصيفه بظلام الحديقة للفرار مع الفتاتين يتأخرا قليلاً ما يتيح لأوسمين أن يفيق فيفعل ويدرك ما يحدث ويبدأ بدق أجراس الإنذار في كافة أرجاء القصر وتكون النتيجة أن يقبض الحرس على الأربعة. وهنا تبدأ كوستانزا بالتوسل إلى خليل باشا أن يعفو عنهم. لكن بلمونتي لحمقه يقول للوزير العثماني إن أباه هو كبير المسؤولين الإسبان وحاكم وهران ويمكنه أن يدفع مبلغاً طائلاً مقابل إطلاق سراحهم جميعاً. والحقيقة أن بيلمونتي لم يكن موفقاً في ذلك التصريح لأن الأب المذكور كان في الماضي من أعدى أعداء خليل بيه. وبالتالي كان ذلك حافزاً يدفع هذا الأخير إلى تعذيب المتطفل وقتله بدلاً من انتظار من يفتديه. غير أنه في "قلبة مسرحية" أبدع موتسارت في الاشتغال عليها، يعود من مهلة تفكير غرق فيها للحظات وقد قرر أن يكون إنساناً كريماً وأن يغمر الجميع بعفوه تاركاً لكل واحد منهم أن يقرر مصيره بنفسه، على عكس ما كان والد بيلمونتي قد فعل معه في الماضي. وبهذا تنتهي المغناة على مشهد يختلط فيه غناء بيلمونتي وكوستانزا وبلوندي وبرديللو وهم يمجدون الإخاء والطيبة الإنسانيين، بأناشيد جنود الإنكشارية وهم يمتدحون تسامح خليل باشا وأخلاقه الحميدة في نوع من تناغم خلاق من الواضح أن مشروع وولفغانغ آماديوس موتسارت (1756 – 1791) كان كله قائماً على الوصول إليه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

نحو تبدل في الذهنيات

من الواضح هنا أن هذه المغناة التي صاغها ونفذها موتسارت على نص شعري كتبه الشاعر غوتليب ستيفاني، أتت لتخفي خلف شكلها التهريجي رسائل سياسية وإنسانية ولدها نوع من التواطؤ الخفي وإنما الخلاق بين الموسيقي والإمبراطور ما فتح المجال واسعاً أمام تبدل سيكون بادي الأهمية في كثير من الذهنيات الأوروبية، بخاصة أن القطع الموسيقية الأجمل كما رأى النقاد يومها أتت لتنهل من موسيقى تركية كانت معروفة وبخاصة من نشيد "مارش الإنكشارية" الذي تحول هنا إلى أنشودة للتلاقي بين البشر بعدما كان معتبراً نوعاً من الإرهاب العسكري قبل ذلك!

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة