الموسيقي الفنلندي يان سيبيليوس (1865-1957) المعتبر واحداً من أشهر المبدعين في بلده وربما كان الوحيد من بينهم الذي حقق شهرة كبيرة خارج هذا البلد، لم يشتغل على أي من أعماله الموسيقية قدر اشتغاله على تلك "القصيدة السيمفونية" المعنونة "أسطورة" أو "إن - ساغا" مع أنها ليست أكثر من مقطوعة ذات حركة واحدة لا يستغرق عزفها في أكثر المناسبات أريحية أكثر من عشرين دقيقة. غير أن هذه الـ"تون - بويم" تعتبر من أشهر أعمال هذا الموسيقي الذي ظل حريصاً على أن يطور فيها ويتحدث عنها، راوياً حولها حكايات سيُدهِش النقاد والمؤرخين مقدار ما بينها من تناقض، خلال فترة من حياته امتدت منذ ولدت فكرتها للمرة الأولى لديه عند نهايات ثمانينيات القرن التاسع عشر حين كان يدرس التأليف الموسيقي في فيينا، وحتى نهاية ثلاثينيات القرن العشرين حين تحدث عنها مطولاً، وقد أضحت منذ زمن بعيد بمثابة "نشيد وطني فنلندي".
موسيقى من دون موضوع
مع ذلك، لئن كانت هذه القطعة لا تحمل أي موضوع ولا تعتبر "عملاً ذا برنامج"، بالتالي من النوع الذي ارتبط بالقصائد السيمفونية، فإن جذور ذلك تعود إلى الفكرة الأساسية التي بنى عليها سيبيليوس في عام 1889 تحديداً جوهر هذا العمل: الفكرة كانت تقوم على كتابة نوع من سباعية، وربما حتى ثمانية تنتهي لأن تنتمي إلى "موسيقى الحجرة" وتقدم من خلال عدد محدود من آلات النفخ والوتريات. ولقد كتبها سيبيليوس الشاب كذلك مقاوماً إغراء أن يحولها إلى عمل أوركسترالي، ولكن لعشر سنوات لا أكثر. فهو بعد ذلك عاد واشتغل عليه أوركسترالياً لمناسبة عرضت له، حين حدث أن أخبره الموسيقي وقائد الأوركسترا الإيطالي فيروتشيو بوزوني أنه في صدد تقديم حفل أوركسترالي ضخم في برلين يكون أي شيء ما عدا موسيقى الحجرة، وبالتالي "ما رأيك في أن تكتب لهذه القطعة الرائعة توزيعاً أوركستراليا؟". كان الأمر مغرياً بالنسبة إلى سيبيليوس، فهو كان يتطلع في ذلك الحين، كما كان يفعل غيره من كبار موسيقيي الشمال الأوروبي، إلى برلين بوصفها مركز الثقل في حياتهم، ومنطلقهم إلى العالم. وكان من نتيجة ذلك أن "اختفت" نوطات التوزيع المحصور لتفرض حضورها نوطات اشتغل عليها لأوركسترا من عشرات العازفين والآلات، هي التي ظلت متفردة في تقديم هذا العمل الذي سيوصف دائماً من قبل المؤرخين بـ"العمل البطولي". ما ترك المجال لعدد كبير من التكهنات الشعبية التي راحت ترسم لـ"الأسطورة" معاني وحكايات ستبدو معها مستمدة من المتن الأسطوري المتداول في التراث الإسكندنافي أحياناً والفنلندي خصوصاً.
حكايات متناقضة
ولعل اللافت هنا هو أن سيبيليوس نفسه راح يغذي تلك التكهنات حيناً وينفيها في أحيان أخرى، ولا سيما في الربع الثاني من القرن العشرين، إذ من دون أن يبدو أن تقدمه في السن هو ما جعل الأمور تختلط عليه راح يتحدث عن هذا العمل بكونه "يترجم بعض الأساطير البطولية المحلية"، لكنه سرعان ما يتوجه في تفسيره ناحية أخرى كأن يؤكد أن جذور هذا العمل تعود إلى نوع من حكايات شعبية آيسلندية. ثم بعد ذلك، يتراجع ليستعيد ما كان يقوله منذ ظهور الصيغة البدئية لهذا العمل، من أنه كتبه كنوع من الموسيقى الخالصة التي تترك للمستمعين تفسيرها على هواهم مطالبة إياهم في معظم الأحيان، بالاستمتاع من دون محاولة التفسير. ولكن، في الحقيقة، إذا كان ذلك قد بدا ممكناً وسهل المنال طوال الفترة التي اتخذ فيها العمل شكل القصيدة السيمفونية الأوركسترالية، أي منذ التقديم البرليني، إذ صار من المتعارف عليه انتماء القطعة إلى التراث الأسطوري البطولي، فإن الأمور تبدلت جذرياً منذ عام 1995 حين اكتشف المنقبون بعد عقود من رحيل سيبيليوس، النوطات الأصلية للعمل المحدود الذي كانته السباعية أو الثمانية، فأعيد تسجيلها وتبين أن سيبيليوس كان محقاً في التفسيرات المتناقضة التي تحدث بها عن عمله. فالتنويط الأول كان يستجيب للجانب من تفسيره الذي تحدث عن موسيقى خالصة لا برنامج لها. أما التوزيع الأوركسترالي الذي بات معتمداً بعد ذلك فيعطي الصدقية لتفسيراتها المضادة للتفسير الأول، إذ إن إدخال آلات وترية وإيقاعية وآلات نفخ من النوع الذي يصعب من دونه الحديث عن "قصيدة سيمفونية" يضع المستمع أمام عمل فيه كثير من ملامح تلحين فاغنر للأساطير الجرمانية.
لحظات بطولية
ففي القصيدة السيمفونية كما باتت معتمدة طوال القرن العشرين تقريباً، لا شك في أن ثمة حكايات ومشاهد وانطباعات تستجر لحظات بطولية ولحظات موت ورقص بدائي وحشي. ما يقرب هذا العمل، محلياً في فنلندا في الأقل، من تلك المحاولات التلحينية التي طاولت أجزاء ومراحل من الأسطورة (الساغا) الشعبية الفنلندية وتحديداً ملحمة "كاليفالا" المعتبرة عادة الملحمة الوطنية بامتياز والمعبرة كمتن أدبي عن جوهر روح الشعب الفنلندي وتاريخه. وهو عمل ارتبط به فن سيبيليوس في مراحل متفرقة من حياته وإنتاجه، بل شكل جوهر هذا الفن، وبفضله اعتبر الرجل بطلاً قومياً و"فنان الشعب الفنلندي" من دون منازع. ولعل هذا الواقع هو ما يدفعنا من دون تردد ما إن نصغي إلى "القصيدة السيمفونية" -وليس طبعاً إلى أي من الصيغتين السباعية والثمانية- إلى التساؤل بشيء من الحيرة عما دفع الفنان الذي أبدع بعض أكثر الألحان المحلية في الشمال الأوروبي شعبية ودينامية في استخدامها حتى كألحان راقصة في الأعراس والمناسبات الاجتماعية، إلى إخفاء نوطات موسيقى الحجرة التي كانها هذا العمل من ناحية، ومن ناحية ثانية، إلى نكران أن لهذه القصيدة السيمفونية موضوعاً أو برنامجاً؟
صوغ الهوية الوطنية
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهما يكن من الأمر، على أي حال، كل هذا التناقض والتضارب يتركنا في النهاية أمام صيغتين وربما أكثر، لعمل فني واحد يمكننا أن نتفاعل مع كل صيغة منها على حدة بصرف النظر عن "تفسيرات" الفنان لعمله. ولعلنا انطلاقاً من هذا النوع من التفاعل يمكننا أن نرصد في الأشكال العديدة التي يتجلى بها هذا العمل، مفاتيح عديدة للتوغل بالفعل في فن واحد من الموسيقيين الأوروبيين الأكثر ارتباطاً بالفنون المحلية في بلده، والأكثر استخداماً للأبعاد الأسطورية والتراث الشعبي في الاشتغال على حداثة موسيقية. ما يضعنا أمام ذلك التوق الأبدي الذي يستشعره أكثر الفنانين صدقاً للربط في فنهم بين الأصالة والمعاصرة، حتى ولو تم ذلك لدوافع خارجة عن وعيهم الإرادي وعن اختياراتهم المدركة. ونعرف أن سيبيليوس كان في عداد أولئك الفنانين الصادقين الذين اشتغلوا، في معظم إنتاجهم، على الربط بين ما تحقق لهم من خلال وعيهم عند احتكاكهم العفوي بالجذور الصلبة لتراث وطنهم، وما نالوه من تفاعل مع الحداثة الموسيقية في أوروبا. وهو ما اعتبر عند بدايات القرن العشرين واحداً من "الرومنطيقيين الذين أسسوا الحداثة المبكرة" في الموسيقى الإسكندنافية عموماً. أما في وطنه الفنلندي، فهو كما أشرنا، يعتبر الفنان الذي عرف أكثر من أي فنان آخر كيف يصوغ الهوية القومية الفنلندية ولا سيما خلال سنوات النضال الطويلة ضد الاحتلال الروسي ثم السوفياتي، عند منعطفات أساسية من التاريخ الفنلندي الحديث.
التصاق بالوطن
ويعتبر الباحثون عادة أن المتن الأساسي الذي جعل لسيبيليوس مكانته الموسيقية على المستويين المحلي والعالمي، هو سيمفونياته السبع، التي تقدم بانتظام وتسجل ولا يخلو من تسجيلاتها تلك أي بيت في هذا البلد. غير أن التعليقات الأكثر حداثة التي تزايدت منذ رحيل الفنان في عام 1957، تضع أحياناً أعمالاً أخرى له تبدو أكثر التصاقاً بفنلندا وتراثها، في مكانة أكثر تقدماً. ومن هذه الأعمال، بصورة خاصة "فنلنديا" و"متتابعة كاليريا"، ناهيك بفالسه الشهير الذي لا تخلو منه مجموعات الفالس العالمية، "الفالس الحزين"، إضافة طبعاً إلى ذلك المتن المميز المعنون "الملحمة الفنلندية الوطنية" التي تضم نحو مئة أغنية وقطعة موسيقية تعزف على البيانو خصوصاً وتتقاطع مع أغاني فولكلورية وملحمية. ومن المعروف اليوم أن "العمل الأوركسترالي" الذي استقرت عليه القطعة التي نتحدث عنها هنا "أسطورة"، بات يشكل جزءاً أساسياً منها.