Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأسس الفكرية التي يتجاهلها الغرب في ذكرى الثورة الإيرانية

تداعياتها السياسية جعلت تطلعات طهران معادية لما وراء حدودها بهدف توسيع النفوذ

الثورة الإيرانية أطاحت الملكية ورسخت النظام الديني تحت قيادة الخميني (أ ف ب)

تحتفل طهران خلال فبراير (شباط) الحالي بمرور نحو 43 سنة على الثورة الإيرانية عام 1979، التي أدت إلى تطورات أخرى أوسع نطاقاً تجاوزت الحدود الإيرانية، وكانت بمثابة إعادة ترتيب جيوسياسية لا تزال قائمة حتى يومنا هذا. ويمكن القول إن الدولة لم تكُن أبداً هدف الثورة، بل على العكس، فقد عملت أجهزة ومؤسسات الدولة الإيرانية على خدمة الثورة، أي إن الهدف النهائي لها لم يكُن تغيير النظام السياسي، بل كان توسيع الثورة. ومن ثم، يُثار التساؤل ما الذي يسيطر على إدراك النخبة الإيرانية المسيطرة على النظام؟ وما نتائج الثورة؟

في يناير (كانون الثاني) 1979، هزت طهران احتجاجات متصاعدة لدعم الخميني، وهدفت الثورة الإيرانية التي نُفّذت تحت شعار الدفاع عن المستضعفين (المظلومين) إلى إعادة هيكلة ليس فقط المجتمع الإيراني والنظام السياسي، ولكن رَمَت أيضاً إلى مد تأثيراتها في جميع أنحاء العالم الإسلامي. وسعت الجمهورية الإسلامية المنشأة حديثاً إلى إنشاء نظام جيوسياسي جديد والشرق الأوسط على أساس شعار "لا الشرق ولا الغرب".

في نظر عدد من الإيرانيين، كان الخميني يؤيد نموذجاً مجتمعياً قائماً على الاسترشاد بالمبادئ الدينية، كما اعتقدوا بأنه سيعيد العدالة الاجتماعية التي تسبب غيابها في معاناة كثيرين خلال حكم الشاه. 

لم تكُن الثورة تهدف في الأصل إلى إنتاج ثيوقراطية إسلامية، وما أصبح "ثورة إسلامية" في إيران لم يبدأ فقط من قبل حركة إسلامية ولكن من قبل تحالف مجموعات المصالح المتحدة ضد الشاه. كان الإسلاميون الموالون للخميني جزءاً من تحالف أوسع يضم ليبراليين علمانيين وقوميين وشيوعيين وماركسيين إسلاميين، وكانت الكراهية المشتركة تجاه الشاه هي العامل المشترك الذي يربط هذه الأيديولوجيات المتنافسة معاً. ومع ذلك، ظهرت مؤشرات استعداد مؤيدي الخميني للذهاب إلى تحقيق طموحاتهم الأيديولوجية على حساب شركائهم في الثورة.

 بمزيج من سفك الدماء، تمكّن الخميني من الاستئثار بالثورة، بعيداً من المنافسين، بل ازدادت حدة الاقتتال الداخلي الذي أعقب رحيل الشاه. وتشير بعض التقديرات إلى إعدام ما لا يقل عن 12 ألف معارض، وتجسّد هذا العنف في ما بعد من خلال "لجنة الموت" سيئة السمعة.

وما أعطى الإسلاميين اليد العليا على المعارضة العلمانية هو وصولهم إلى شبكة واسعة من المساجد والمؤسسات الدينية في جميع أنحاء البلاد على عكس الجماعات العلمانية التي أجبرها الشاه على العمل تحت الأرض، وقد مكّنت تلك الهياكل المنظمة لرجال الدين الخميني وأتباعه من السيطرة على السرد الثوري. كما كان خروج الخميني من المنفى في العراق إلى إحدى ضواحي باريس في أكتوبر (تشرين الأول) 1978 أحد عوامل قيادته للثورة، ما منحه منصة دولية لإثارة الفتنة ضد الشاه، جعلته محرراً للشعب الإيراني في نظر عدد من المراقبين آنذاك.

ومع قيام النظام الإسلامي الجديد، لم يكُن التغيير فقط في النظام السياسي الإيراني بل امتدت التأثيرات إلى داخل الشرق الأوسط وفي تفاعلات دول المنطقة، إذ تغيّر الحلفاء والخصوم في الشرق الأوسط، فكثيراً ما أطلق الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون على كل من إيران وتركيا وإسرائيل "رجال الشرطة الأميركيين" على طول أطراف الدول العربية الغنية بالنفط.

بعد الشاه، تدهورت العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران وتحوّلت الأخيرة من كونها حليفاً أميركياً إلى عقود من عدم الثقة والعداء للولايات المتحدة منذ أزمة الرهائن 1979-1981.

العوامل التاريخية المؤثرة في إدراك النخبة الحاكمة الإيرانية

كان للتحديث القسري وتغريب المجتمع الإيراني أثر في الأحداث المستقبلية التي مرت بها طهران في القرنين التاسع عشر والعشرين، التي ظهرت تأثيراتها في الثورة الإسلامية الإيرانية من خلال عاملين، الأول يمثل المحرض الشديد للثورة في المشاعر المعادية للغرب والرغبة بإزالة التأثير الأجنبي من السياسات الإيرانية، وتمثل الأخير في قضية التحديث وارتباطها بإزالة العلماء من مناصب السلطة والنفوذ.

كثير من العوامل التاريخية تركت تداعيات على الثورة الإسلامية بطهران، إذ تأثرت المنظومة الفكرية والقيمية لكثير من الإصلاحيين الدينيين والعلمانيين، التي كانت مستقاة ومستوحاة من المبادئ التي بلورتها احتجاجات التبغ والثورة الدستورية وحركة مصدق، وامتد التأثير إلى الرغبة بالتخلص من التدخل الأجنبي والسيطرة الأجنبية على موارد البلاد، إضافة إلى تغذية مشاعر معاداة الغرب والاضطهاد والمعاناة لدى الإيرانيين، وإن كانت مشاعر الاضطهاد والثورة على الظلم مرتبطة بشكل أساس بأفكار المذهب الشيعي.

ظهر كل ذلك في إدراك قادة الثورة الإسلامية، فقد كانت التصورات حول استغلال القوى الكبرى لإيران وغيرها من الدول ملهمة لخطابات الإمامين الخميني وخامنئي الثورية، وخطابات الثورة الإسلامية وبعدها، وقد دعت إلى الوحدة الإسلامية في مواجهة الإمبريالية الغربية والسوفياتية. كما ترسخ خطاب الوحدة الإسلامية وإحياء مفهوم "الصحوة الإسلامية" في ما بعد لدى الإمام خامنئي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كل هذا لعب دوراً في تشكيل إدراك النخبة الإيرانية في البلاد، إلى جانب الأزمات التي مرت بها منذ تأسيس النظام الإسلامي، وكان من نتائجها فرض الغرب الحظر والضغط الاقتصادي الدائمين، مثل حظر الأسلحة الذي فرضه أثناء الحرب الإيرانية العراقية، ثم توالت العقوبات الاقتصادية مع الإدارات الأميركية المتتابعة.

تتمحور أبعاد الإدراك الإيراني لقادة النظام الإسلامي في إعطاء أولوية للشعور بالتهديدات والمخاطر من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة. فتحليل خطب وتصريحات أعضاء النخبة الحاكمة يكشف عن إدراك عميق بوجود أخطار خارجية إقليمية ودولية تهدد كيان إيران، وأن هذه الأخطار تسعى إلى إسقاط هذا النظام الذي أنشأته.

لذا وعلى الرغم من مرور أكثر من 20 عاماً على انتهاء الحرب، ذهب المرشد الأعلى علي خامنئي عام 2013 إلى أن تهديد النظام مستمر منذ قيام الولايات المتحدة بتحريض القوميات داخل إيران على الانقلاب على الثورة، ودفع العراق إلى الحرب ضد طهران، ثم فرض العقوبات والحظر، وإثارة وسائل الإعلام العالمية للوقوف في مواجهة النظام الإسلامي.

 ولا يقتصر هذا الإدراك على من يوصفون بالمتشددين، بل حتى المنتمين للتيار الإصلاحي، إذ يعتبر وزير الخارجية السابق محمد جواد ظريف أن إيران تعرّضت دوماً للعقاب نتيجة امتلاك الجرأة للتخلص من الاستبداد الداخلي والهيمنة الأجنبية، مما حرمها من أبسط الوسائل الدفاعية وقيام كثير من الدول العربية بتمويل حرب العراق.

وتجددت التصورات المرتبطة بإسقاط النظام مع تصاعد الاحتجاجات التي شهدتها إيران في 2009 و2017، إذ اعتبر الساسة الإيرانيون أنها مدفوعة من جانب الولايات المتحدة.

أيضاً تشكّل لدى قادة النظام الإسلامي الإيراني الشعور بالاستثنائية، وتطلعات ما وراء الحدود، فالثقافة السياسية الإيرانية تتسم بصفتين رئيستين أثّرتا في إدراك النخبة الإيرانية لطبيعة الدور الإقليمي لبلادهم، الأولى، هي الشعور باستحقاق مكانة فريدة ومميزة بين الأمم، والأخيرة هي كونها ضحية منذ القدم.

ويتجلى الإدراك بالاستثنائية الإيرانية في أفكار عدة، منها أن طهران تنطلق من كونها دولة ذات رسالة دينية سامية، وأنها تسعى إلى تطبيقها في الأرض. وعلى ضوء إدراك النخبة بالتمايز والتفرد والاستثنائية، وارتباطاً بما سبق، تعتقد أنها تمثل نموذجاً ينبغي الاقتداء به ليس فقط وسط العالم الإسلامي بل العالم أجمع، فتبنّت مفهوم النموذج.

حوّلت النخبة إدراكها بالتفرد إلى سلوكيات مرتبطة باعتبارها نموذجاً ثورياً يحتذى، فعملت على تصديره من خلال منظومة قيمية ومعيارية تضمنت وسائل مادية وغيرها لتحقيق أفكار معلنة مثل تصدير الثورة إلى محيطها. وقد ارتبط ذلك التصور بسياسة نشيطة خارج الحدود، عبر آليات ارتبطت بمبادئ نصرة المستضعفين ومقاومة الاستكبار العالمي والاستعمار وإقامة حكومة إسلامية عالمية ومفهوم الصحوة الإسلامية، فضلاً عن تقديم ذاتها باعتبارها تمثل مركز الشيعة في الشرق الأوسط.  

 ويتجلّى الشعور لدى نخبة صنع القرار بإيران في التمايز كذلك بتصويرها كنموذج للمقاومة والديمقراطية، فيتصور المرشد الأعلى أن الهوية الإيرانية تتبع مركزاً متميزاً بين الدول الأخرى كفلسطين والعراق ولبنان، فكلها تتشابه مع النموذج الإيراني في المقاومة.

وفي السياق ذاته، حاولت إيران الاستفادة من الأحداث التي شهدتها المنطقة العربية عام 2011، وحاولت أن تضفي عليها صبغة إسلامية، فخرجت التصريحات الإيرانية سواء من المرشد الأعلى أو قادة الحرس الثوري لتدّعي تأثير الثورة الإيرانية في شعوب المنطقة. والمفارقة زيف الادعاء الإيراني بتأثير ثورته الإسلامية، فقد سبق الاحتجاجات الشعبية العربية عام 2011، انطلاق التظاهرات التي اندلعت في إيران عام 2009 والتي عُرفت باسم "الثورة الخضراء" على خلفية رفض نتائج انتخاب محمود أحمدي نجاد لولاية ثالثة، ومن ثم فقد تكون التظاهرات العربية لعام 2011 هي الأقرب للتأثر باحتجاجات "الثورة الخضراء" التي اندلعت ضد النظام الإيراني، وليست متأثرة بثورة الخميني التي ما زالت تندلع ضدها احتجاجات الإيرانيين في الأعوام الأربعة الماضية لأسباب مختلفة.

لا يمكن بالنظر إلى الاستراتيجية الإيرانية متعددة الأبعاد أن نفصل بين تلك الشعارات التي أطلقتها الثورة الإيرانية منذ اندلاعها وحتى الآن، عن كونها طبّقتها في الدول ذات المصالح الحيوية لها من أجل تحقيق أهدافها، وأن تلك الدول التي ارتبطت بالاستراتيجية الإقليمية لإيران هي في الأساس دول أزمات على غرار لبنان والعراق وسوريا واليمن، وأن الدور الإيراني فيها أفضى إلى تعميق تلك الأزمات وجعلها ممتدة وعصيّة على الحل والتسوية السياسية.  

واستمراراً للشعارات الإيرانية التي تستهدف التوسع خارج الحدود عبر النفوذ والتأثير، مبدأ تصدير الثورة، الذي أصبح يُستخدم بمرادفات أخرى مثل الصحوة الإسلامية ووظفته طهران منهجاً للسياسة الخارجية.

تبلور المفهوم ليصبح جزءاً مهيمناً من السياسة الخارجية الإيرانية، واتصالاً بهذا الهدف، تعقد إيران مؤتمراً سنوياً للصحوة الإسلامية بحضور كثير من الزعماء الدينيين والسياسيين للبلدان ذات الغالبية الإسلامية. وتعتبر النخبة الإيرانية نفسها الوصي الشرعي ليس فقط على المسلمين الشيعة، بل على العالم الإسلامي أجمع.

بشكل عام، يمكن القول إنه بعد 43 عاماً من تأسيس النظام الإيراني، فإن الثورة الإيرانية حوّلت طهران من كونها مجرد إنذار سوء استراتيجي إلى تهديد أيديولوجي وديني، وإلى دولة معادية لدول الجوار بتطلعاتها لما وراء حدودها وبنسج علاقات بالجماعات العرقية داخل المجتمعات الأخرى، وبالتدخل في دول الأزمات. ومع ذلك، يتم تجاهل هذه المواقف الأيديولوجية التي تحرّك السياسة الإيرانية التي تقوم أحياناً على التقية إلى حد كبير في الغرب. وبالفعل، فإن قدرة إيران على وضع نفسها كضحية لمؤامرة غربية قد سمحت لها بقدر كبير من الحرية السياسية والمماطلة، كما شهدنا خلال المفاوضات حول برنامجها النووي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل