خلال الحرب الأهلية الأميركية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، قال أندروز بيرس، الذي قاتل في جيش الاتحاد، وأصيب بجراح، "الحرب كانت طريقة الله لتعليم الأميركيين الجغرافيا".
وخلال حرب لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين، قيل إن واحدة من وظائفها المتعددة بتعدد القوى الداخلية والخارجية المشاركة فيها، هي أن تكون "مدرسة" لتعليم العالم العربي فن السياسات الطائفية والمذهبية وإدارة الصراعات بالعنف ثم التسويات.
بعد الغزو الأميركي للعراق في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، جرى دفع العراقيين إلى التعلم من دروس المدرسة اللبنانية، ثم تفوقوا على لبنان بإنشاء "جامعة" لتعليم المنطقة فن السياسات المذهبية والعرقية والتكيف مع فكرة الفيدرالية، لكن الجامعة الأكبر هي التي أقامتها جمهورية الخميني في إيران لتعليم الممارسة العملية لدولة المذهب الواحد، حيث السلطة لرجال الدين والسلطة المطلقة للمرشد الأعلى "ولي الفقيه"، ثم تعميم الدروس عملياً في العالم العربي لجهة تجييش مكون واحد داخل كل بلد وإنشاء ميليشيات مسلحة تابعة للحرس الثوري في خدمة المشروع الإقليمي الإيراني.
والتفاصيل معبرة جداً. الرئاسات الثلاث موزعة في لبنان على رئيس جمهورية ماروني، ورئيس مجلس نيابي شيعي، ورئيس حكومة سني، وفي العراق على رئيس جمهورية كردي، ورئيس حكومة شيعي، ورئيس مجلس نيابي سني. الوزارات والإدارات في لبنان بالمناصفة بين المسلمين والمسيحيين، وفي العراق لا. حكومات لبنان منذ الطائف، ولا سيما بعد الانسحاب السوري، هي حكومات وفاق وطني تضم كل القوى، فلا يبقى معارض خارجها. وهكذا حكومات العراق، مع حرص على أن يكون عماد الحكومة تمثيل مكونات "البيت الشيعي" كلها بلا استثناء والقوى الأساسية في "البيت الكردي" و"البيت السني".
"حزب الله" في لبنان هو رائد الميليشيات المسلحة التي أسستها طهران كألوية في "فيلق القدس" التابع للحرس الثوري، ثم جاءت ميليشيات "الحشد الشعبي" في العراق، ومعها ميليشيات "فاطميون" و"زينبيون" من أفغانستان والباكستان، وبعدها ميليشيات إضافية في سوريا وتوظيف لميليشيات "أنصار الله"الحوثيين في اليمن. لا شيعي من خارج "الثنائي الشيعي أمل - حزب الله" في حكومات لبنان. ولا حكومة في العراق من دون وحدة "البيت الشيعي" أولاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والمثال طريٌّ أمامنا. قائد "فيلق القدس" الجنرال إسماعيل قاآني يُطيل إقامته في العراق من أجل توحيد "البيت الشيعي"، لكنه يبدو أقل قدرة على التأثير من سلطة الجنرال قاسم سليماني الذي اغتالته الولايات المتحدة. مقتدى الصدر الفائز بأكبر كتلة نيابية مُصرّ على تأليف حكومة "أغلبية وطنية" تضم قوى في "الإطار التنسيقي" الشيعي من دون نوري المالكي وقيس الخزعلي. وحين تفاهم مبدئياً مع "البيت السني" و"البيت الكردي"، فإن فالح الفياض رئيس هيئة "الحشد الشعبي" اتهم السنة والكرد بـ"تمزيق البيت الشيعي بتفاهم قياداتهما مع الصدر". كأن على السنة والكرد انتظار ما يقرره "البيت الشيعي" للانضمام إلى الحكومة كضيوف، لا كشركاء. والمفارقة هي تمسك "الإطار التنسيقي" بأخذ حصته في الحكومة، وإن خرج خاسراً من الانتخابات. فما هي هذه الديمقراطية التي يرفض فيها أي طرف الذهاب إلى المعارضة؟ وهل تسقط السماء على الأرض إذا بقي خارج الحكومة نوري المالكي المسؤول عن هرب الجيش من أمام "داعش" في الموصل؟
المفارقة الأكبر أن الفصائل المسلحة المرتبطة بإيران، والتي تأخذ رواتبها من الخزانة العراقية تقصف بالصواريخ والمسيّرات مطار بغداد والمنطقة الخضراء، حيث السفارة الأميركية والقواعد العراقية التي تضم مستشارين أميركيين، وحتى منزل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي بقصد اغتياله، مُصرّة على المشاركة في الحكومة، وإلا لا حكومة.
وأحدث خطوة في التعلم من المدرسة اللبنانية هي تقليد "الثلث المعطل" الذي استخدمه "حزب الله" مدة عامين ونصف لمنع المجلس النيابي من انتخاب رئيس جمهورية بحجة الحاجة إلى نصاب ثلثي المجلس لبدء جلسة الانتخاب، وتولى منع حضور الثلثين حتى تمكن من فرض التصويت لحليفه العماد ميشال عون رئيساً. وهذه اللعبة التي يريد ممارستها فريق شيعي تابع لإيران تعني استحالة انتخاب رئيس للعراق، بالتالي تسمية رئيس للوزراء، حتى يرضى "الإطار التنسيقي".
لكن، من الصعب، في النهاية، الاستمرار في تحدي الوطنية العراقية والوطنية اللبنانية.