Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لعبة أردوغان الأخيرة

هل سيقوض الديمقراطية التركية كي يبقى في السلطة؟

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مجتمعاً مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، موسكو، ربيع 2020 (تويتر)

بدا الرئيس التركي رجب طيب أردوغان على امتداد الأشهر القليلة الماضية، يائساً بشكل متزايد، إذ صعّد إجراءاته القمعية ضد منتقديه وخصومه السياسيين، وكان آخرهم ميتن جوركان، وهو عضو مؤسس لـ"حزب الديمقراطية والتقدم" المعارض، وقد اعتُقِل في نوفمبر (تشرين ثاني) بتهمة التجسس. كذلك هدد أردوغان بطرد دبلوماسيين من الولايات المتحدة وبعض الدول الحليفة لتركيا في حلف "ناتو". وفي الوقت الذي تراجعت شعبيته في الداخل تراجعاً سريعاً، انكبّ أردوغان على تجربة متهورة من أجل خفض أسعار الفائدة وسط تضخم مرتفع فعلاً، وقد دفعت تلك السياسة البلاد إلى وضع اقتصادي مضطرب. وفي هذه الأثناء، يواجه الرئيس معارضة أشد جرأة، ومتحدة بصورة متزايدة، باتت تشكل للمرة الأولى تهديداً مباشراً على حكمه.

لقد حدث التحول بصورة دراماتيكية، إذ بدا أردوغان كأنه لا يقهر، خلال الشطر الأكبر من العقدين الماضيين. وخلالهما، شغل أولاً منصب رئيس الوزراء بين 2003 و2014، وثانياً، كان رئيساً للدولة في 2014. ونظراً إلى أنه حقق ازدهاراً للطبقات المتوسطة في تركيا، فقد مضى بحزبه، "العدالة والتنمية" من نصر إلى آخر في ما يزيد على 12 انتخاباً جرت على مستوى البلاد. وقد نجا من حروب دارت على مرمى حجر منه، ومحاولة انقلابية في 2016. وإذ صوّر نفسه كسلطان جديد، فقد اكتسب أردوغان [صلاحيات تخوّله] سيطرة شاملة على القضاء والإعلام والشرطة وغيرها من مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، حتى حينما يبطش من دون رحمة بخصومه السياسيين.

بيد أن شعبوية أردوغان الاستبدادية فقدت سحرها في الأعوام الأخيرة. وصارت حكومته تعاني جنون الارتياب بشكل متزايد منذ محاولة الانقلاب، إذ لم تكتفِ بملاحقة مدبري الانقلاب العسكري المشبوه فيهم، بل لاحقت أيضاً أعضاء المعارضة الديمقراطية، واعتقلت في وقت تالٍ على الانقلاب، عشرات الالآف من الناس، وطردت ما يزيد على 150 ألف من الأكاديميين والصحافيين وآخرين من وظائفهم، وذلك لمجرد الشك في وجود صلة لهم بالانقلاب أو وقوفهم في وجه أردوغان. وأدى استعداده المتزايد للتدخل في الانتخابات، بما في ذلك محاولة فاشلة لعكس نتيجة انتخابات عمدة إسطنبول في 2019، إلى تحفيز المعارضة.

والآن، مع تآكل الدعم الذي يحظى به تآكلاً حاداً، صار زعيم الديمقراطية الأقدم والاقتصاد الأضخم بين إيطاليا والهند، على موعد مع ساعة الحساب، فخلال 18 شهراً ستُجري تركيا انتخابات رئاسية من المرجح جداً أن يخسرها أردوغان. وبسبب إرثه الطويل من الفساد وإساءة استعمال السلطة، سيكون من الممكن تماماً مقاضاته في حال خلعه. ويبدو من الواضح أن أردوغان سيحاول قصارى جهده للبقاء في منصبه، بما في ذلك تقويض تصويت عادل، أو تجاهل النتيجة، أو حتى تدبير تمرد على طريقة 6 يناير [الهجوم على مبنى الكابيتول في واشنطن]. بالتالي، إن التحدي الملحّ الذي يواجه البلاد، هو كيفية تنظيم نقل السلطة من دون أن يشكل ذلك تهديداً لأسس الديمقراطية التركية نفسها، بطريقة قد تؤدي إلى إرسال موجات اهتزازية تزعزع الاستقرار خارج البلاد، وتصل تداعياتها إلى أوروبا والشرق الأوسط.

ديمقراطية جرى حرف مسارها

حين وصل أردوغان إلى السلطة في 2003، كان موضع ترحيب بوصفه مصلحاً سيبني المؤسسات الديمقراطية في البلاد ويقوّيها. وفي أول الأمر، بدا أنه مع حزبه "العدالة والتنمية"، ينفذان ما وعدا به. فقد حسّن طرق الحصول على خدمات كالرعاية الصحية، كذلك نجح في خفض نسبة البطالة وتحقيق نمو اقتصادي قوي على امتداد عشرة أعوام. وفي ظل حكم أردوغان، صارت تركيا للمرة الأولى مجتمعاً تُشكّل الطبقة الوسطى غالبية فيه. وإذ وسّع نطاق بعض الحريات، فقد بدا لافتاً أنه أعطى بعض حقوق الأقليات اللغوية لأكراد تركيا.

لفترة من الزمن، جعلت هذه السياسات أردوغان زعيماً شعبياً في الوطن والخارج. وعلى الصعيد المحلي، بنى قاعدة من الأنصار المولعين به، ممن جاءت غالبيتهم من الشرائح المحافظة وأبناء الريف والعاملين وناخبي الطبقة المتوسطة الدنيا الذين صوتوا على نحو موثوق لمصلحة "حزب العدالة والتنمية" في انتخابات إثر أخرى. وفي غضون ذلك، نُظِر إلى حكومته في الولايات المتحدة وأوروبا على أنها نموذج للديمقراطية الليبرالية الإسلامية، و[إلى تركيا] على أنها بلاد فكّرت بشكل جدي في مسألة منحها عضوية الاتحاد الأوروبي.  

إعطاء أردوغان نفسه مزيداً من السلطة، أدى بشكل غير متعمد إلى تقوية المعارضة

لكن لم يطُل الوقت حتى بدأ أردوغان يُظهر نزعات أكثر استبدادية بكثير. ففي 2008، أطلق العنان للقضية التي تُسمّى بـ"إرغينكون"، وهي تحقيق واسع النطاق وغير حاسم إلى حد بعيد، حول "الدولة العميقة" في تركيا. وجرى توجيه اتهامات إلى ما يزيد على 140 شخصاً بتخطيط انقلاب ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطياً. في الحقيقة، سرعان ما اتضح أن  أردوغان يحاول اجتثاث العلمانيين الذين سيطروا على مؤسسات الدولة فترة طويلة. ونهض أردوغان بتلك المحاولة بمساعدة رجل الدين فتح الله غولن، وهو زعيم "حركة غولن" وحليف أردوغان في ذلك الوقت، وقد تمتع بولاء أتباع في الشرطة ووسائل الإعلام والجهاز القضائي ممن ساعدوا في عملية تلفيق الأدلة لاستهداف معارضي أردوغان الديمقراطيين.

ولجأ أردوغان خلال العقد الثاني من حكمه إلى طرق تكتيكية أشد قسوة في الحفاظ على السلطة. ففي 2013، استعمل القوة في إطار اتخاذ إجراءات صارمة ضد احتجاجات "ساحة جيزي"، التي شارك فيها ملايين المتظاهرين المناهضين للحكومة ممن نزلوا إلى شوارع إسطنبول ومدن تركية أخرى. وفي أعقاب تلك الاحتجاجات، عمدت الحكومة إلى تشديد القبضة على المجتمع المدني، وتضييق فضاء النشاط السياسي. وبعد ذلك، استغل أردوغان حالة طوارئ مديدة فُرضت عقب محاولة الانقلاب في 2016، من أجل مزيد من الكبح لتهديدات متصورة لحكمه. وأطلق حملة انتقام شاملة ضد حلفائه السابقين في "حركة غولن". فسرّح الالآف من أعضائها المزعومين وكذلك من عُرف عنهم ولاءهم لغولن، من مناصبهم الحكومية، وزج بهم في السجون. وقد انضم إليهم عدد متزايد من الاشتراكيين والديمقراطيين الاشتراكيين والعلويين (طائفة مسلمة ليبرالية)، والليبراليين واليساريين والقوميين الأكراد والأتراك وأصحاب المواقف الوسطية، وحتى بعض المحافظين ممن عارضوا شعبوية أردوغان الشرسة.

في هذه الأثناء، بدأ أردوغان التنكر لعلاقات تركيا التي استمرت طويلاً مع أوروبا والولايات المتحدة. ففي 2013، ألقى باللوم على الرئيس باراك أوباما بسبب اللواء عبد الفتاح السيسي في مصر [إشارة إلى إقصاء الرئيس الإسلاموي محمـد مرسي الوثيق الصلة بأردوغان]، وأخذ يصطف بشكل متزايد إلى جانب القوى السياسية الإسلامية في الشرق الأوسط، خصوصاً جماعة "الإخوان المسلمين". ومع أن أردوغان والرئيس الروسي فلاديمير بوتين كانا على طرفي نقيض في الحرب الأهلية السورية، فقد توصّلا إلى وفاق بينهما في نهاية المطاف. وبعدما مدّ بوتين يده إلى أردوغان مباشرة  في أعقاب انقلاب 2016، وافق على السماح لتركيا بملاحقة "وحدات حماية الشعب الكردي" السورية التي اعتمدت عليها الولايات المتحدة في محاربة "تنظيم الدولة الإسلامية" (داعش). والتزم أردوغان شراء نظام الصواريخ الدفاعية "إس 400"، الروسية الصنع. ومع حلول 2020، واجه الرئيس التركي عقوبات أميركية قاسية بسبب اتفاقه الدفاعي مع موسكو، حتى إن التحالف الذي دام سبعة عقود بين واشنطن وأنقرة، بدأ يتعرض لأكبر أزماته في الذاكرة الحديثة.

تعديل السلطان

استطاع أردوغان الاستفادة من انقسام المعارضة بينما عمل طوال أعوام عدة على تعزيز شعبويته الاستبدادية. فقد باتت الفصائل الستة تقريباً التي تتحداه بانتظام في صناديق الاقتراع، وتمتد مروحتها بين القوميين الأتراك والقوميين الأكراد، وكذلك بين العلمانيين ودعاة الإسلام السياسي، باتت تشعر بمقدار من الكراهية المتبادلة [بين بعضها بعضاً] بشكل يفوق معارضتها المشتركة لحكم "حزب التنمية والعدالة". وقد عَنَت هذه الانقسامات أن باستطاعة حزب أردوغان الفوز بالانتخابات بسهولة، على غرار ما فعل على الدوام خلال الأعوام الـ15 الأولى من حكمه.

في المقابل، ارتكب أردوغان غلطة مصيرية في 2017. فقد نجح في تحقيق اختراق دستوري أدى إلى تحويل النظام السياسي في تركيا من ديمقراطية برلمانية إلى نظام رئاسي تنفيذي. وإضافة إلى إلغاء منصب رئيس الوزراء، هيّأ ذلك التعديل المجال أمام أردوغان لفرض مزيد من السيطرة المباشرة على الجهاز البيروقراطي في الدولة، وكذلك أضعف بشكل كبير صلاحيات السلطة التشريعية. وهكذا، توّج أردوغان نفسه عملياً كسلطان جديد في تركيا، إذ صار في الوقت ذاته رئيساً للدولة ورئيساً للحكومة ورئيساً للحزب الحاكم ورئيساً للشرطة (التي تُعتبر قوة وطنية في تركيا).

مع ذلك، فيما أعطى الإصلاح الدستوري أردوغان مزيداً من السلطة، فإنه أدى بشكل غير متعمد إلى تقوية  المعارضة، إذ كانت الانتخابات تُجرى بموجب النظام البرلماني بين الأحزاب كلها في وقت واحد، ما أعطى "حزب العدالة والتنمية" أفضلية طبيعية على منافسيه المتعددين كلهم. لكن النظام الرئاسي الجديد يتطلب إجراء جولة الإعادة بين المرشحين الأساسيين. ويعني هذا أنه بات بوسع أبرز مرشح للمعارضة حالياً أن يحشد تحالفاً واسعاً معادياً لأردوغان، تحت راية واحدة.

وحاضراً، تعتمد كتلة المعارضة على تحالف بين فصيلين أساسيين، هما الفصيل العلماني "حزب الشعب الجمهوري" اليساري، والفصيل الوسطي "حزب الخير" القومي التركي. وأيّد "حزب الشعوب الديمقراطي" الليبرالي الموالي للكرد هذا التحالف بشكل غير رسمي. وكذلك دعمه عدد من القوى الأخرى الأصغر حجماً، الوسطية واليمينية، بما في ذلك "حزب السعادة" وهو حزب إسلامي سياسي يعارض "حزب العدالة والتنمية" بسبب فساد الأخير، إضافة إلى أسباب أخرى. في المقابل، تختلف هذه الأحزاب عن بعضها بعضاً على الصعيد السياسي بشكل كبير من حيث مواقفها حيال قضايا عدة، إلا أنها موحّدة بشكل متزايد في رغبتها بإلحاق هزيمة بأردوغان.

في غضون ذلك، تتداعى قاعدة حزب أردوغان "الحرية والعدالة". وكذلك هبطت نسبة الدعم الذي كان من نصيب الكتلة الشعبوية الحاكمة التي تضم "العدالة والتنمية" و"حزب الحركة القومية" الأصغر منه، وهو حليف أردوغان منذ 2018، هبطت إلى ما يتراوح بين 30 في المئة و40 في المئة في استطلاعات الرأي، بعدما بلغت 52 في المئة في الانتخابات الرئاسية عام 2018. واندفع بعض أنصار "التنمية والعدالة" السابقين إلى الالتحاق بـ"حزب الحركة القومية"، فيما ذهب آخرون إلى أحزاب معارضة تأسست أخيراً على غرار "حزب الديمقراطية والتقدم" الذي يقوده علي بابا جان، وزير الاقتصاد الأسبق. ويعني هذا أنه صار يتعين على أردوغان حالياً أن يعتمد على أقلية من أجل قمع الغالبية، ويصبح ذلك أكثر صعوبة بشكل متزايد بسبب نظام جولات الإعادة الجديد.

قصة مدينتين

إلى جانب النظام الانتخابي الرئاسي الجديد، يُعتبر الاقتصاد أكبر مواطن الضعف لدى أردوغان. فقد غرق الاقتصاد التركي خلال 2018، في أزمة ركود اقتصادي هي الأولى منذ وصوله إلى السلطة. وأدى التراجع الاقتصادي في الأعوام التالية إلى تآكل الدعم لـ"حزب العدالة والتنمية" في أهم مدينتين تركيتين، أي إسطنبول وأنقرة، عاصمة البلاد.

وفي 2019، فاز أكرم إمام أوغلو، مرشح "حزب الشعب الجمهوري" بانتخابات عمدة إسطنبول، مبيّناً للمرة الأولى أن المعارضة تستطيع هزيمة "حزب العدالة والتنمية" في انتخابات بين مرشحين اثنين. بيد أن الانتخابات أظهرت أيضاً المدى الذي كان أردوغان مستعداً للذهاب إليه من أجل المحافظة على هيمنة حزبه. فحين خسر مرشحه [في انتخابات عمدة إسطنبول]، ادّعى الرئيس أن مخالفات حصلت في [عمل] هيئات الانتخابات التي أشرفت على التصويت، وفرض إجراء انتخابات جديدة. (لقد أخَّر جهاز الرقابة الوطني التابع للهيئات المشرفة على الانتخابات، المصادقة النهائية على النتيجة طيلة أسابيع عدة، بانتظار إشارة من الرئيس، وبعدما أعلن أردوغان في مايو (أيار) أن تصويتاً جديداً صار ضرورياً، تدخّل الجهاز ودعا إلى إعادة الانتخابات في الشهر التالي). وعلى الرغم من ذلك، لم ينطلِ الأمر على الناخبين. ففي حين هزم إمام أوغلو مرشح أردوغان في الانتخابات الأولية بفارق ضئيل بلغ 13 ألف صوت، فإن مرشح "حزب الشعب الجمهوري" فاز في الانتخابات الثانية التي أُجريت بعد ثلاثة أشهر بفارق هائل بلغ 800 ألف صوت.

إن تلك النتيجة، والفوز الثاني [في انتخابات عمدة العاصمة] الذي حققه مرشح "حزب الشعب الجمهوري" منصور يافاس في أنقرة في مارس (آذار) 2019، دمّرا عملياً صورة أردوغان الذي لا يقهر. وطبقاً لاستطلاعات الرأي الحالية، فإن أيّاً من عمدتي إسطنبول وأنقرة، كلاهما من "حزب الشعب الجمهوري"، وكذلك ميرال أكشينار، زعيمة "حزب الخير" القومي، سيتمكن من الانتصار على أردوغان في منافسة رئاسية ثنائية. ويناور هؤلاء الثلاثة حالياً من أجل نيل القيادة الشاملة للمعارضة [والفوز بترشيح فصائلها في الانتخابات الرئاسية]، غير أنني عَلِمتُ في زيارة أخيرة إلى تركيا أن كلاً من هؤلاء سيدعم المرشح المنافس لأردوغان في الجولة الثانية.

في سياق متصل، تضع الأرقام التي تمخّضت عنها استطلاعات الرأي هذه أردوغان في وضع لا يحسد عليه. ونظراً إلى أنه من المتوقع وصول التضخم إلى ما يزيد على 20 في المئة في 2022، فإن احتمالات حصول انتقال اقتصادي نحو الأفضل، ضعيفة بشكل متزايد. وفي الوقت الحالي، إن أفضل استراتيجية بالنسبة إلى أردوغان تتمثل في محاولة دق إسفين بين "حزب الخير" والفصائل اليمينية الأخرى من جهة، وشركائهم اليساريين من جهة أخرى. في المقابل، يلتزم زعماء المعارضة الذين يتفكّرون في الانتصارات التي حققوها خلال 2019، البقاء معاً. إذاً، ما لم تحدث تطورات دراماتيكية من قبيل حظر أردوغان أحزاباً معارضة رئيسة وزج قادتها في السجون أو إرجاء الانتخابات إلى أجل غير مسمى، فإن النتيجة الأكثر ترجيحاً بالنسبة إلى أردوغان في 2023، هي الهزيمة النكراء التي سيحاول هو وأنصاره كل ما في وسعهم، كي يمنعوا وقوعها.

أردوغان مقابل الناخبين

إذا استمرت الحالة الراهنة، يتّجه أردوغان إلى التصادم مع الناخبين، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى تداعيات عميقة بالنسبة إلى مستقبل تركيا. ثمة طريقتان مرجحتان في حصول هذا التصادم. في الأولى، يخسر أردوغان الانتخابات لكنه يزعم على الفور حصول عمليات تزوير واسعة. وبعد ذلك، سيكرر ما فعله في إسطنبول 2019، ويسعى إلى إلغاء النتيجة، ما سيدفع البلاد إلى مواجهة أزمة جديدة.

وعلى غرار ما حصل في الولايات المتحدة 2020، فإن هجوماً من هذا النوع على النظام الانتخابي الوطني سيكون غير مسبوق. على الرغم من ذلك، يبدو هذا خياراً معقولاً بالنسبة إلى أردوغان، نظراً إلى أنه أبدى استعداده فعلياً لتقويض المؤسسات الديمقراطية في تركيا، وبسبب طبيعة دائرته الداخلية الراهنة وتصميمه على التشبث بالسلطة. لقد أصبح أردوغان معزولاً بشكل متزايد في عملية صناعة قراراته، مع وجود زمرة معيّنة في القصر الرئاسي تخدم مصالحها، وتمكنت إلى حد كبير من إقصاء كل الأذرع الاحترافية للحكومة والشبكة السياسية الواسعة التي اعتمد عليها ذات مرة. ودفع مستشارو القصر أولئك، أردوغان إلى إلغاء نتائج انتخابات إسطنبول. وإذا تعرّض الرئيس للإذلال من جديد، سيكون بوسعهم أن يفعلوا ثانية الشيء ذاته على المستوى الوطني. وبفضل قواعد اللعبة التي اتبعها في 2019، يستطيع أردوغان أن ينشر الروايات الكاذبة عن "التزوير وعدم الشرعية"، ومن ثم يمارس الضغط على المحاكم والهيئات الانتخابية بغية دعم مزاعمه وضمان صحتها.

وفي ذلك الوقت، سيواجه أردوغان احتجاجاً شعبياً عارماً، إذ سينزل مئات الالآف من أنصار المعارضة كي يملأوا شوارع المدن التركية الرئيسة. لكن سيكون بوسعه أن ينشر الشرطة الوطنية، وهي قوة حديثة مسلحة تسليحاً جيداً، تضم ما يزيد على 300 ألف عنصر وتأتمر بأوامر أردوغان مباشرة، الأمر الذي سيعجّل بشن حملة هدفها فرض النظام. وسيحظر التظاهرات بشكل فوري، ويعتقل جميع المنظمين الرئيسين للاحتجاجات، ويغلق مواقع التواصل الاجتماعي، كذلك سيعلن على الأرجح حظر التجول، ثم من المحتمل أن يفرض حالة الطوارئ، مثلما فعل بعد محاولة الانقلاب في 2016. وعلى نحو مماثل، تستطيع المجموعات الموالية لأردوغان أن تنفّذ أعمال عنف أيضاً من تلقاء نفسها ضد المحتجين، مع دعم ضمني من قبل الشرطة. وفعلياً، لقد حدثت موجة مقلقة من أعمال العنف ضد قادة المعارضة وصنّاع الرأي في الأعوام التي تلت الانتقال إلى النظام الرئاسي، من بينها الهجوم على زعيم الحزب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو من قبل مجموعة من الرعاع المؤيدين لأردوغان في أبريل (نيسان) 2019، وذلك قبل إعادة الانتخابات [لمنصب العمدة] في إسطنبول. بالتالي، فمن شأن انتصار شرطة أردوغان أن ينهي الديمقراطية في تركيا.

في المقابل، لا يشكّل التحرك من أجل إلغاء النتائج الطريقة الوحيدة التي يمكن لأردوغان أن يقوّض الانتخابات بها. ثمة احتمال ثانٍ يتمثل في محاولته مع مستشاريه التلاعب بالأصوات بشكل مسبق. وإذا فعلوا ذلك، فمن المرجح جداً أنهم سيفشلون. وفي هذا المجال، إن تجربة [انتخابات عمدة] إسطنبول 2019 معبرة تماماً. فحينما ألغى أردوغان الاقتراع الأول، نظمت المعارضة حملة بارعة لـ"حماية التصويت" في الانتخابات التي أُعيد إجراؤها. واعتمدت على حوالى 100 ألف متطوع لمراقبة صناديق الاقتراع وتوثيق عدد الأصوات عن طريق الهواتف الذكية، حتى إنهم [المتطوعون] قضوا الليل كله في النوم على صناديق الاقتراع من أجل منع محاولات التزوير. (يُسمح للمواطنيين في تركيا بموجب القانون بمراقبة عمليات فرز الأصوات). وهكذا، سيوثّق أي جهد يبذله أردوغان للتدخل بانتخابات 2023، ما سيثير رد فعل شعبي فوري، سيشمل حتى كثيرين من أولئك الذين صوّتوا له.

إذاً، ستكون النتيجة الأكثر ترجيحاً، إما احتجاجات هائلة، سيجري فيها مرة أخرى، للأسف، جرّ الشرطة والمعارضة إلى التسابق في السيطرة على شوارع تركيا، أو سيكون النصر حليف المعارضة، إذا كُشف في وقت مبكر عن تدخل ما، ثم نجحت عملية حماية التصويت. في المقابل، ربما يبقى  أردوغان والقوى التي تأتمر بأمره، رافضَين للنتيجة. وحينها، سيكون هناك سؤال صعب حول كيفية ضمان انتقال السلطة على نحو آمن وسلس، من دون زعزعة استقرار تركيا، إذا ظل أردوغان وأنصاره يرفضون الاعتراف بالنتيجة.

خيار العفو

نظراً إلى أن الاحتمال الأرجح يتمثّل في زعزعة الاستقرار من خلال تدخل أردوغان وداعميه في الانتخابات الرئاسية، فإن الاستراتيجية الأفضل بالنسبة إلى المعارضة تتمثل في السعي إلى صفقة كبيرة معه، كي يغادر منصبه طوعاً. وفي الحقيقة، تتمتع المعارضة بنفوذ كبير في مجال محدد بعينه. فإضافة إلى خسارته السلطة، يواجه أردوغان على الأرجح احتمال الملاحقة الجنائية، وذلك بسبب الفساد ومصرع العشرات من الأشخاص على أيدي الشرطة ومعاناة كثيرين ممن أساءت إليهم حكومته. ولربما كان بعض أعضاء عائلته قد تورط أيضاً في فضائح فساد، فسيكون ممكناً توجيه تهم إليهم. ثمة احتمال حقيقي بأن يقضي أردوغان أعوامه الأخيرة معتقلاً في سجن تركي أو في المنفى، إذا خسر الانتخابات. بالتالي، قد تستطيع المعارضة أن تقنعه بالتنحي مقابل عفو عنه يشمل عائلته، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى انتقال سلس للسلطة.

يستطيع داعمو أردوغان تنفيذ تمرد على طريقة 6 يناير

سيكون إبرام هذه الصفقة الكبيرة صعباً، إذ سيتردد عدد من مجموعات المعارضة اليسارية في تأييد [منح أردوغان] عفو من أي نوع من الأنواع. كذلك قد يأبى أردوغان نفسه أن يأخذ غصن الزيتون، بصرف النظر عن مدى صرامة شروط الصفقة. وكذلك يرفض عدد من مؤيديه الاعتراف بالذنب والحوار مع المعارضة. وأخيراً، ظهرت إحدى الـ"مايمات" [المايم محتوى رقمي مركّز يتبنّاه عدد كبير من الناس] التي تحظى بالرواج على منصات وسائل التواصل الاجتماعي وتضم صورة سليمان صويلو، وزير الداخلية في حكومة أردوغان والرئيس الفعلي للشرطة، حاملاً بندقية آلية ويصرخ "تعالوا لتأخذوننا إلى المحكمة!"، ما يعني أن قادة "حزب التنمية والعدالة" سيردّون على هزيمة انتخابية بتمرد مسلح، مشابه لذلك الذي شهدته الولايات المتحدة في 6 يناير 2021.

في سياق متصل، هناك بديل يتمثل في اعتماد القوات المسلحة التركية، التي تعتبر تقليدياً أكثر مؤسسات الدولة جدارة بالاحترام، كجهة ضامنة لصفقة بين أردوغان والمعارضة. لكن، نظراً إلى سجل تدخل العسكر في تركيا [بالحكم]، بما في ذلك انقلاب 1980 الوحشي، فقد لا تبدو دعوة الجنرلات لخوض غمار العملية السياسية، فكرة جيدة. في المقابل، باعتبار أن القوات المسلحة التركية تستند إلى التجنيد، فإنها إحدى المؤسسات القليلة المتبقية في البلاد التي يعمل فيها الأتراك المعارضون لأردوغان والموالون له جنباً إلى جنب، بمن فيهم النساء اللواتي يخدمن في سلك الضباط. وقد تبنّت القيادة العسكرية في الأعوام الأخيرة سياسة الحياد في ما يتعلق بالسياسة الداخلية للبلاد، ما يجعلها واحدة من الأذرع القليلة المتبقية للدولة التي تحافظ على هوية غير حزبية إلى حد بعيد. كذلك يمكن لحلفاء تركيا، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، أن يساعدوا أيضاً في دعم انتقال السلطة بشكل سريع، والتهديد بفرض عقوبات على جميع الأفراد الذين يسعون إلى تقويضه. إن نجاح استراتيجية من هذا النوع غير مضمون، خصوصاً إذا أُغرِيت القوات المسلحة بتنصيب نفسها في موقع الزعامة السياسية للبلاد. بيد أن هذا الأمر قد يشكل الخيار الأفضل المتاح في منع انهيار فوري للديمقراطية التركية على نطاق واسع.

بوصفي مراقب عن كثب لمسيرة أردوغان المهنية، فقد أصبحتُ مقتنعاً بشدة بوجود حدود للولاية [الرئاسية]. فلو غادر أردوغان المشهد بعد العقد الأول من تولّيه السلطة، أثناء تمتعه بسجل قوي في النمو الاقتصادي والدعم الشعبي الواسع، لكان اليوم يعتبر من أكثر قادة تركيا نجاحاً. إلا أن سعيه في الأعوام الأخيرة إلى حيازة سلطة مطلقة، مضى به وبتركيا في اتجاه أشد خطورة بكثير. وإذا لم توضع استراتيجية فاعلة موضع التطبيق الآن، تهدف إلى جعله ينسحب من المشهد، فلربما ينتهي به المطاف ليكون الزعيم التركي الذي "قد يقول ما يخطر في باله" [على طريقة ترمب]، ثم يدّعي أن الانتخابات قد سرقت، وينشر الفوضى في بلاده وبين مواطنيها.

 

سونر كاغابتاي هو زميل متقدم في "معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى"، ومؤلف كتاب بعنوان "سلطان في الخريف، أردوغان يواجه قوى تركيا التي يستحيل احتواؤها"

 

فورين أفيرز

يناير (كانون الثاني)/ فبراير (شباط) 2022

المزيد من تحلیل