Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل جوليان أسانج سجين سياسي؟

إذا كانت جريمته الحقيقية هي إزعاج أصحاب النفوذ وإهانتهم، فالجواب هو نعم... وبينما يقبع في بلمارش في عيد الميلاد هذا العام، تتساءل ماري ديجيفسكي عن سبب احتجاز رجل إدانته الوحيدة هي انتهاك شروط الكفالة، في سجن من الفئة (أ) تحت حراسة أمنية مشددة.

نداء جنيف: (من اليسار) عضو البرلمان السويسري كارلو سوماروغا ونيلز ميلزر وأنطوان فاي وستيلا موريس وهم يقفون إلى جانب تماثيل سنودن وأسانج ومانينغ (غيتي)

قبل أن تصدر المحكمة العليا في المملكة المتحدة قرارها بإمكانية ترحيل جوليان أسانج إلى الولايات المتحدة بفترة قصيرة، كنت في "نادي فرونت لاين" في لندن وكنت أستمع إلى اثنين من أكثر المدافعين عنه إقناعاً وهما يشرحان قضيته. ولما بلغت جلسة المناقشة مرحلتها الأخيرة، أدركت فجأة أنني كنت هنا من قبل [أن الأمر مألوف].

ولا أقصد بكلامي "نادي فرونت لاين"، ملتقى الصحافيين بالقرب من بادينغتون حيث ترددت مرات عدة، بل أقصد مزيج اللوحات العارية لغرفة الاجتماعات الكائنة في الطابق العلوي والتركيبة "البديلة" تماماً لجمهور الحاضرين والحماسة الهادئة للمتحدثين أثناء وصفهما لعالم سريالي قلما بدت فيه الإجراءات القانونية على ما هي عليه حقيقة.

في الإجمال، ذكرتني المناسبة بالتجمعات التي كانت تنظم في الاتحاد السوفياتي المنحل حالياً لدعم السجناء السياسيين والمنشقين، إذ كانت الشخصية الأساسية، في هذه الحالة، أسانج، غائبة بشكل ثابت - ولأسباب واضحة تمام الوضوح. فالمؤسس والمحرر السابق لموقع "ويكيليكس" المتخصص في كشف الفضائح والأسرار، كان ولا يزال سجيناً في الجانب الآخر من لندن، ينتظر المرحلة الأخيرة من معركته لتجنّب تسليمه إلى الولايات المتحدة.

ولا شك في أن ثمة أوجه تباين بين هذه المناسبة والتجمعات أيام الاتحاد السوفياتي. فالجلسة في "فرونت لاين" كانت مفتوحة ومعلنة ولا أعتقد أن أحداً عرّض نفسه للخطر لمجرد وجوده فيها، كما أنها لم تُقم في شقق خاصة عند نهاية خطوط المترو كما في الحقبة السوفياتية المندثرة، إنما في إحدى غرف النادي القريبة في بادينغتون. وفي أثنائها، كانت رفوف المتاجر المتاخمة مليئة بالسلع على خلاف ما كانت عليه رفوف المتاجر السوفياتية إبان ثمانينيات القرن العشرين.

ومع ذلك، كان الشعور ذاته بالمخاطرة يعتري الحاضرين، لكأنهم أقلية تحاول التصدي لسلطة تعسفية- ومع مضي الجلسة قدماً – فرض شعور الاحتجاز ضمن واقع تختلف فيه المفاهيم القانونية وغير القانونية نفسه. بعبارة أخرى، كنا في عالم شبيه إلى حد كبير بما عهده المنشقون والمدافعون عنهم في الحقبة السوفياتية.

وترأس الجلسة في "فرونت لاين" مؤسس النادي، السيد فوغان سميث الذي كان في شبابه مراسلاً حربياً مستقلاً لا يخاف والذي يعرف أسانج منذ أكثر من 10 أعوام. ففي عام 2010، منح سميث الملاذ لأسانج أولاً في النادي، ثم في منزله الريفي بعد النجاح الكبير الذي حققه موقع "ويكيليكس" بكشفه المستور عن مقتل مدنيين على يد القوات الأميركية في العراق وتسريبه وثائق دبلوماسية أثارت غضب عدد من الحكومات.

كذلك، ساعد سميث في تقديم الضمانات لأسانج لما أُفرج عنه بكفالة في انتظار استئناف حكم تسليمه إلى السويد بتهم الاعتداء الجنسي. وبحسب كل الروايات، كان أسانج ضيفاً صعباً - وكان على سميث أن يتنازل عن حصة (الأسد) من مبلغ الكفالة البالغ 300 ألف جنيه استرليني عقب فرار أسانج إلى سفارة الإكوادور بعد 18 شهراً وانتهاكه شروط الكفالة.

وإلى جانب سميث، جلست على المنبر ستيلا موريس، محامية أسانج سابقاً وخطيبته وأم ولديه اللذين أبصرا النور سراً أثناء فترة اختبائه في سفارة الإكوادور حالياً، وريبيكا فنسنت، مديرة الحملات الدولية في منظمة "مراسلون بلا حدود" غير الربحية التي تدافع عن حرية المعلومات في جميع أنحاء العالم. ويشير العدد الضئيل نسبياً من الحاضرين، شخصياً وعبر الإنترنت، إلى تحوّل أسانج على مر السنين من شخصية مشهورة - وقضية عصرية – إلى شخصية مغمورة يكاد لا يأبه لأمرها سوى سميث وموريس وفنسنت الذين لم يتخلوا عنه يوماً.

وبالنسبة إلى موريس تحديداً، فقد استعرضت أدلة وبراهين مقنعة تتعلق بقضية أسانج، بما في ذلك العبثية المتمثلة في وضع ناشر مسالم بشكل واضح في بلمارش - وهو سجن مشدد أمنياً ومخصص للإرهابيين المدانين – كما فجرت قنبلة مدوية لما كشفت عن تقدمها وأسانج بطلب إذن من إدارة السجن للزواج. في البداية، رفضت الإدارة طلبهما في ما بدا رداً انتقامياً بلا مبرر، لكنها سرعان ما غيرت رأيها. وعندما ستقرأون هذا المقال، سيكون الثنائي على الأرجح قد تزوج.

إذاً، هذا هو السياق المؤاتي - وربما الوقت المؤاتي للاعتراف. لم أكُن يوماً على القدر المتوقع أو المطلوب من الحماسة في دعمي لأسانج. فبالعودة إلى عام 2010 وفيما كانت "ويكيليكس" تكشف الحقائق المحرجة الواحدة تلو الأخرى – محرجة بالنسبة إلى القوى الموجودة على جانبي المحيط الأطلسي – احتفت به وكالات الأنباء الرئيسة التي وحدت جهودها لنشر المواد المسربة، واحتضنه نقاد المؤسسة منذ فترة طويلة، من ضمنهم عدد من نشطاء الأخوية الثقافية، مثل فانيسا وكورين ريدغريف.

ويرجع السبب في ذلك جزئياً إلى تناغم أول سبق صحافي كبير له في 2010 مع الأجندة المناهضة للحرب في العراق وحرص اليسار المتشدد على تبنّيه. وكان السبق إياه عبارة عن مقطع فيديو سري لغارة جوية أميركية أودت بحياة صحافيين من "رويترز" في 12 يوليو (تموز) 2007 - بعدما ظن الطيارون بأن كاميراتهما أسلحة، ولقطات لجنود أميركيين يطلقون النار على شاحنة تقل أسرة توقفت لالتقاط الجثث.

وأعقب ذلك السبق في تموز، تسريب نحو 100 ألف وثيقة عن الحرب في أفغانستان، من حوادث "نيران صديقة" ومقتل مدنيين، إلى وسائل الإعلام الدولية. وبعدها بثلاثة أشهر، أميط اللثام عن 400 ألف وثيقة من حرب العراق: فيض من معلومات متفرقة شملت ولكنها لم تقتصر على استخدام التعذيب. وبعد شهر من ذلك، نشرت "نيويورك تايمز" و"غارديان" وسواهما من المنافذ الأوروبية برقيات دبلوماسية أميركية مختارة - من بين مئات الآلاف التي أوردها موقع "ويكيليكس" على صفحاته وتضمنت ملاحظات محرجة لم يكُن من المفترض أن ترى النور بشأن شخصيات دولية وسياسة أميركا الحقيقية.

وشكّل هذا الكم الهائل من الوثائق المسربة انتهاكاً صارخاً لأمن المعلومات في الولايات المتحدة، حيث فتح أمام الرأي العام العالمي نافذة نادرة على النسخة الحقيقية للحرب والدبلوماسية [واقع حال عالم الحرب والدبلوماسية]، لتكون له بديلاً عن النسخة المنقحة وغير المكتملة التي يشغلونه بها عادةً، واعتبرته وزارة الدفاع الأميركية "أكبر تسريب للوثائق السرية في التاريخ".

ومع هذا كله، لم تبلغ الحماسة إزاء أسانج وعمله مرحلة العالمية بأي شكل من الأشكال، ولا حتى في أوساط المهتمين بحرية التعبير، ومردّ ذلك إلى عاملين، أولهما بسيط مفاده بأن جزءًا كبيراً من الوثائق لم يفتح آفاقاً جديدة واكتفى بالتأكيد على الحقائق المعروفة وإضفاء المصداقية عليها. وثانيهما، حجم البيانات الهائل: فعلى الرغم من اختيار المواد المنشورة وتقييمها بعناية، كان من الصعب على غير الملمّ رؤية الصورة الكاملة.

ولكن هذا لم يكُن السبب الوحيد لعدم إيلاء ذلك العمل الصحافي الضخم الاهتمام الذي يستحقه. ولعل السبب الآخر هو الطريقة التي اعتمدتها الحكومات استجابةً للإدراك غير المحمود بـ"خروج" أسرارها "إلى العلن" فجأةً والتي أرادت من خلالها التقليل من أهمية الإفشاءات التي باتت على كل شفة ولسان. وطوّرت الحكومة البريطانية هذه الطريقة أو هذا النهج حتى وصلت إلى حد الكمال بعد ثلاثة أعوام، موعد الكشف عن معلومات أكثر تدميراً عن التعاون الاستخباراتي بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة، سرّبها إدوارد سنودن من ملفات "وكالة الأمن القومي" الأميركية.   

وسبب ثالث يتصل بهذا، وهو أن بعض الصحافيين - وأنا منهم – توجّسوا من التسريب الشامل ظاهرياً لمعلومات فائقة السرية: فمن لحظة انكشافها وصاعداً، كيف ستدار العلاقات بين الدول، إذا ما اضطر الدبلوماسيون الافتراض أن رسائلهم قد تصبح علنية فيما لا تزال "قيد النقاش"؟ النتيجة غير المقصودة بالطبع، مزيد من التكتم، لا مزيد من الانفتاح، مع لجوء الأوساط الصحافية إلى مصطلحات من قبيل مناقشات "غير رسمية" ومناقشات "خلفية فقط".

لكن علاوة على الاعتبارات المتعلقة بحرية المعلومات، كانت شخصية جوليان أسانج نفسه موضع ريبة. ليس الأمر أن دوافعه كانت مشبوهة في غياب مؤشرات وأدلة على عمله لصالح قوة معادية، كل ما هناك أنه، وفيما كان ينعم بسمعته المتنامية كرائد رؤيوي وجريء، كان يتصرف بأسلوب مهين ومتغطرس لا يتماشى أبداً مع صورة المناضل الباسل من أجل الحقيقة. وثمة تقارير تحدثت عن سلوكياته في منزل فوغان سميث و"المحبين" اليساريين الذين التفوا حوله ذلك الوقت وكانوا عائقاً أكثر منهم عوناً.

وبفضل كل تلك الأمور مجتمعة، كان من السهل – ربما أسهل مما ينبغي – عدم اعتبار أسانج غريب الأطوار بعض الشيء والاستخفاف بما كان يفعله. زد على ذلك أنه لم يكُن هناك سبب للاعتقاد بأنه كان تحت تهديد القانون أو أي تهديد آخر. كان مواطناً أسترالياً يعيش في أمان ظاهري في المملكة المتحدة. كان من الممكن أن يبوح بأسرار المملكة لو أن للمملكة أسراراً، لا سيما أن هذه الأخيرة لا تملك قانوناً يمكن أن يُتَّهم بموجبه، وحتى لو وجد، فإن النظام القديم والموثوق به للدفاع عن المصلحة العامة ما كان سيتركه وكان سيهبّ لنجدته.

ومن الناحية القانونية أيضاً، ثمة فارق كبير بين شخص يفشي أسراراً هو ملزم تعاقدياً الحفاظ عليها وآخر يتسلّم أسراراً وينشرها على الملأ، على نحو ما فعلت "واشنطن بوست" عام 1971 بأوراق البنتاغون التي تنطوي على حقائق مزعجة عن حرب فيتنام. وكانت النتيجة أن حوكمت الصحيفة على نشرها المعلومات العامة التي تلقّتها والتي لم تسرقها أو تحرّض على تسريبها.

ولا يخفى على أحد أن "ويكيليكس" تتخذ من السويد مقراً رئيساً لها، والسويد هي إحدى أكثر الدول صلابة وموثوقية لجهة الدفاع عن حرية الإعلام. لكن، للأسف، لم تسلم الافتراضات بشأنها وبشأن المملكة المتحدة من التشكيك – وهذا جزء من السبب الذي دفعني إلى الحضور لـ"نادي فرونت لاين" في تلك الليلة، بعد مضي 11 عاماً على اقتحام أسانج المشهد الإعلامي اللندني للمرة الأولى.

وبصرف النظر عن الاعتبارات الإنسانية المحيطة حالياً بأسانج والمتمثلة بخطيبته وابنيه الصغيرين، أليس من الخطأ الفادح أن يقضي شخص أثم فقط لانتهاك شروط كفالته، وقتاً طويلاً في السجن أسوةً ببعض المجرمين الخطيرين؟ وإذا كانت جريمته الحقيقية هي إزعاج أصحاب النفوذ وإهانتهم، أولا يجوز اعتباره بالتالي سجيناً سياسياً؟

لحسن الحظ أن شخصاً مؤهلاً تأهيلاً جيداً لتقديم الإجابات طرح هذين السؤالين – ولا بد من أن استنتاجاته ستكون مزعجة لأي شخص لديه أدنى اهتمام، سواء مهني أو خلافه، بالشرعية وحرية التعبير – لكن اهتمامه زاد الآن بعدما خسر أسانج استئنافه الأخير ضد حكم تسليمه إلى الولايات المتحدة.

وهذا الشخص هو المحامي السويسري ومقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بالتعذيب نيلز ميلزر. ولكن لا تخيفكم الإشارة إلى التعذيب، ففيما يزعم البعض أن معاملة أسانج تصل إلى حد التعذيب (النفسي)، يأبى آخرون تصديق ذلك. ولكن هذا ليس الموضوع هنا، إنما الموضوع استفادة ميلزر من خبرته كمحامٍ مخضرم متخصص في النظم القانونية الدولية وحقوق الإنسان، لتحليل مصير أسانج واستعراض ما توصل إليه من نتائج في كتاب من 300 صفحة تقريباً، مقرر نشره مطلع العام المقبل.

ويحمل الكتاب عنواناً فرعياً هو "قصة اضطهاد"، إضافة إلى عنوانه الرئيس "محاكمة جوليان أسانج" (فيرسو، فبراير (شباط) 2022) – ومن شأن هذا العنوان الفرعي أن يوضح اندفاع ميلزر ورؤيته. لكن ما سيجعل مضمون الرواية أكثر إقناعاً من أي رواية أخرى هو اعترافه بأنه انطلق من الموقف المتشكك ذاته إلى حد ما، مثله مثل كثيرين وأنا منهم.

وفي شرحه أصول الكتاب، يقول ميلزر إنه عندما اتصل به محامو أسانج للمرة الأولى عبر بريد إلكتروني بعنوان "جوليان أسانج يطلب حمايتك"، لم يكُن ينوي قبول القضية. "أوليس المقصود مؤسس ’ويكيليكس‘، المخترق الغامض ذو الشعر الأبيض والسترة الجلدية الذي كان يختبئ في السفارة على خلفية مزاعم بالاغتصاب؟ أسانج؟ لا، لن أدع هذا الرجل يتلاعب بي. كما أنه لدي أشياء أكثر أهمية أقوم بها: علي الاعتناء بضحايا التعذيب الحقيقيين".

وهذا ما كان. بعد ذلك، عاد ميلزر إلى الانكباب على التقرير الذي كان بين يديه عن "التغلب على الإجحاف وخداع الذات في قضايا الفساد الرسمي". وبحسب كلامه، فإنه لم يدرك "المفارقة اللافتة في هذا الوضع" إلا بعد بضعة أشهر.

وهنا، يوضح ميلزر أن المقررين الخاصين يعيّنون من قبل الدول الأعضاء الـ47 في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بصورة مباشرة، ويُتوقع منهم تأدية مهماتهم "بأقصى قدر من الاستقلالية". وفي ما يخصه، فهو يعمل خارج مكتب مفوض حقوق الإنسان في جنيف ويتلقى في الأسبوع الواحد 50 طلباً بغرض النظر فيها. بيد أنه لا يختار منها سوى قلة قليلة ليمثلها أمام الدول والسلطات القضائية فحسب، مع إمكانية اقتراح توصيات لا تكون ملزمة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خلاصة القول بكل أسف إن عدم مساءلة مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان وعدم التعويض على ضحاياهم ليسا حكراً على الدول المشهورة في تجاوزاتها. "عندما يتعلق الأمر بحماية مصالح السياسة الاقتصادية والأمنية ’الأساسية‘ ظاهرياً، حتى الديمقراطيات الناضجة التي تفخر بتقاليدها القديمة في سيادة القانون تبدأ فجأة بالتفريط بحقوق الإنسان"، على حد تعبير ميلزر.

وفي الأشهر التي تلت ذلك، بدأ ميلزر يشكك في صحة الافتراضات "التي صبغت تفكيره سنوات طويلة واعتقد بموجبها" أن أسانج هو "المغتصب الجبان الذي يرفض تسليم نفسه للسلطات السويدية، المخترق والجاسوس الذي يختبئ في السفارة الإكوادورية هرباً من العدالة، الخائن والنذل والنرجسي الذي لا يرحم".

لذا عندما حاول محامو أسانج الاتصال به مجدداً في ربيع 2019، أبدى اهتماماً أكبر بالقضية وألقى نظرة فاحصة على الوثائق التي أرفقوها بالبريد الإلكتروني، وفي مقدمتها تفاصيل دعوى الاغتصاب المرفوعة ضده في السويد وتقرير طبي – أعدّه طبيب من خارج معكسر أسانج – أكد فيه تعرّض هذا الأخير إلى عوامل عدة "أعقبتها مخاطر جسدية ونفسية خطيرة، بما في ذلك الانتحار".

بالمختصر المفيد، أثارت وثائق محامي أسانج قلق ميلزر ودفعته إلى "التشكيك بثقته الزائدة ويقينه الأعمى اللذين قَبِل من خلالهما رواية غير مثبتة واعتبارها حقيقة لا يرقى إليها الشك"، فقرر "التعمق أكثر في القضية وتكوين رأي خاص بي – يرتكز على الحقائق المؤكدة ولا يقيم وزناً للشائعات".

وما اكتشفه حينها يشكل بقية الكتاب ويضيف إلى القضية الأكثر إلحاحاً بنظري للدفاع عن أسانج ولائحة الاتهامات المؤثرة ضد سياسيين وأجهزة أمنية وسلطات قضائية في ثلاث دول - السويد والولايات المتحدة والمملكة المتحدة - التي تعتبر نفسها نموذجاً مثالياً للاستقامة، بالاستناد إلى مجالات جدلية ثلاثة.

أولها، هو تحقيق ميلزر المفصل في اتهامات الاعتداء الجنسي والاغتصاب التي وجهتها امرأتان في ستوكهولم وكانت السبب في مطالبة السلطات السويدية بريطانيا، بتسليمها أسانج. ولم يتوقف ميلزر عند هذا الحد، بل ذهب إلى أبعد من ذلك وادعى أن أسانج هو ضحية مكيدة مدبرة والعملية القانونية غير نزيهة - إذ استمرت في "مغالطة تحريك المرمى" من دون سبب وجيه ومن دون أي مراعاة لمصلحة المرأتين المعنيتين.

وفي السياق ذاته، يشير ميلزر إلى أن أسانج وضع نفسه تحت تصرف الشرطة السويدية، لكن قيل له إن بإمكانه المغادرة. وفور وصوله إلى المملكة المتحدة، طُلب منه العودة إلى السويد، وهذا ما أفضى إلى اعتقاله وسجنه لفترة وجيزة، فإطلاق سراحه بكفالة. ويضيف أنه قد أتيحت للسلطات السويدية مراراً فرصة الحضور إلى المملكة المتحدة لاستجواب أسانج، لكنها رفضت - حتى انقضى وقت إحدى التهمتين ووصلت الثانية إلى مرحلة متقدمة جداً.

وبحسب رواية ميلزر، فإن السلطات السويدية كانت تتعمد إطالة الإجراءات، الأمر الذي استغله منتقدو أسانج (ليس فقط في السويد) لتوجيه تهم جنسية ضده – باعتبارها من أكثر التهم ضرراً بسمعة الرجل في العصر الحديث – تستمر معه أطول فترة ممكنة. وإن كان على مخاوف أسانج من التسليم، فكانت أقرب إلى الوهم منه إلى الواقع الذي تحدثت عنه وسائل الإعلام وآمن به ميلزر في يوم من الأيام.

وهو ما يقودنا إلى الزاوية الأميركية. ما فتئ أسانج ومحاموه يجادلون بأنه لم يكُن يواجه تهماً جنسية في السويد كما كان يخشى، كل ما في الأمر أن الولايات المتحدة ضغطت على السويد كي تسلّمها أسانج لتحاكمه - ليس بالتهمة التافهة التي عوّلت عليها من قبل لإصدار مذكرة توقيف أولى بحقه، إنما بتهم تجسس كاملة، تحت ذريعة فشله في مساعدة تشيلسي مانينغ (آنذاك برادلي)، محللة استخبارات الجيش الأميركي التي سلّمت مجموعة المواد السرية إلى "ويكيليكس"، في كسر رمز الولوج إلى أحد الحواسيب.

وكان هناك رأي سائد على نطاق واسع لم يكذبه ميلزر في البداية، ومؤداه أن أسانج بالغ في كلامه عن التهديدات الأميركية بتسليمه، في محاولة لتفادي المثول أمام القضاء في السويد. بعبارة أخرى، لم يكُن أسانج معتدياً جنسياً مزعوماً فحسب، بل كان جباناً أيضاً. وبعد النظر في جمود نظام المساومة على الطعن في الولايات المتحدة والإضافة المتأخرة لـ17 تهمة بالتجسس إلى لائحة اتهام أسانج الأميركية، يستنتج ميلزر أن خوفه المبكر من تسليمه إلى الولايات المتحدة لم يكُن حقيقياً فحسب، بل كان مبرراً تماماً كذلك.

وفي الاستنتاجات التي أصبحت الآن وثيقة الصلة بالموضوع، وجد ميلزر أن أسانج قد يمثل أمام محكمة التجسس الخاصة ويُحتجز في ظروف سجن قاسية - "خاصة" - ويواجه هيئة محلفين تزدحم بأشخاص يتعاطفون مع الأجهزة الأمنية.

وفي ضوء ذلك، يرى ميلزر أن سلوك أسانج – وبالتحديد، رحلته إلى سفارة الإكوادور - أقل استهجاناً وأكثر قابلية للاستيعاب مما كان يسوّق له أحياناً كثيرة، مبرئاً إياه من أحد أكثر الاتهامات المدمرة التي نُسبت إليه: أن تسريبات "ويكيليكس" كبدت خسائر في الأرواح. فبرأي ميلزر، بذل أسانج جهوداً جبارة لضمان حذف أسماء كل من قد يتعرضون للخطر، لكن معالجة المعلومات لم تكُن مهمته وحده والأشخاص الآخرون لم يكونوا على قدر كبير من الحذر.

وأخيراً، نصل إلى المملكة المتحدة، حيث يجد ميلزر أن السلطات البريطانية – على الرغم من مناداتها بضرورة التمسك بسيادة القانون - استغلت نظامها القضائي، المفترض أنه مستقل، لإبقاء أسانج طي النسيان. وهذا يفسر، وفق ميلزر، تعاقب الطلبات والطعون واختيار سجن بلمارش - في المنطقة الشرقية من لندن - مكان احتجازه.

وفي الملاحظات التي كتبها قبل رفض استئناف أسانج حكم تسليمه، خلص ميلزر إلى أنه، سواء انتهى الأمر بأسانج أمام محكمة أميركية أو لا، ستكون الولايات المتحدة قد انتقمت منه بطريقة ما وضيّعت عليه أكثر من عقد من حياته وهو يتخبط بين الأنظمة القضائية المختلفة، آخرها الإجراءات القضائية المعقدة في المملكة المتحدة.

يظهر أن ميلزر ومعه أنصار أسانج، يتفقون أو بالأحرى يؤمنون بأن تلك الإجراءات قد استُغلت ضده. وإن كنتم تظنون بأن النظام القضائي البريطاني لا يعمل بهذه الطريقة، لربما حان الوقت لتعيدوا التفكير في ذلك. ولو بدت لكم هذه النقطة تافهة في معرض معضلات أسانج، تذكروا أن ثمة قضايا أخرى تقف وراءها يد خفية مماثلة تحركها.

نذكر من بين هذه القضايا على سبيل المثال، قضية التحرش الجنسي التي مسّت أليكس سالموند، حامل راية القومية الاسكتلندية في خضم معركة الاستقلال عن بريطانيا العظمى وانتهت لصالحه بحكم نهائي بالبراءة. فهل كان ظهور الاتهامات في حينه وليد الصدفة؟ وهل إرسال كريغ موراي - دبلوماسي سابق وعميل صعب المراس وناشط قوي من أجل حرية وسائل الإعلام – إلى السجن بتهمة ازدراء المحكمة في قضية سالموند وليد الصدفة أيضاً؟ وهل كانت تلك هي جريمته أم كانت تصدّيه للطوابير المتجمهرة أمام المحكمة المعنية بقضية أسانج لتسجيل الإجراءات التي لولاه لما كانت رأت النور؟

الحقيقة أننا لن نعرف أبداً. لكن أصداء البلاد في الوقت الحاضر والطريقة التي تعامل بها المعارضة السياسية في المجتمعات غير الحرة لا يمكن تجاهلها. وبرأيي، أوجه التشابه بين أسانج والمنشقين في الحقبة السوفياتية – والمنشق في الثقافة الروسية هو "كل شخص يفكر بطريقة مختلفة" - واضحة المعالم [بائنة]. حسناً، هم، كانوا مثله، صعبي المراس وعنيدين ومحفزين، لكن كان عليهم أن يكونوا محرجين لمتابعة قضيتهم. وكما هي الحال مع أسانج وسالموند اليوم، لم تكُن السلطات متيقظة لأي نقاط ضعف شخصية يمكن استغلالها لتقويض قضية هؤلاء.

وفي رسالتهما الختامية في "نادي فرونت لاين"، شددت ستيلا موريس وريبيكا فنسنت على أن مصداقية جوليان أسانج لم تكُن على المحك، بل القضية التي يمثلها: حق الشعوب في معرفة ما تنوي عليه حكوماتها، حتى عندما أو بخاصة عندما، تحرص الحكومات على إبقاء هذه النوايا سراً عنها. وهذه الخلاصة هي ذاتها التي توصل إليها المقرر الخاص للأمم المتحدة نيلز ميلزر، وحشد ثروة من التفاصيل والأدلة القانونية ليدعمها ويحوّلها إلى قضية.

ومع اقتراب حلول عيد الميلاد هذا العام، لا يزال أسانج في بلمارش وتعود قضيته مجدداً إلى محكمة ويستمنستر الابتدائية، وفق جدول زمني تختاره المحكمة ووسط احتمالات أعلى بتسليمه. وتصرّ موريس على أنهم سيستأنفون لدى المحكمة العليا البريطانية، لكن ليس هناك ما يضمن حدوث ذلك، ويخشى البعض من أن يجد أسانج نفسه على متن طائرة خارج المملكة المتحدة تحت غطاء عطلة عيد الميلاد الطويلة.

لكن إذا وصلت قضيته إلى المحكمة العليا، فقد تصبح اختباراً حقيقياً لاستقلال القضاء في بريطانيا. وعلى المستوى العملي، لن يكون هذا الأمر على قدر يذكر من الأهمية. فبحلول ذلك الوقت، سيكون جوليان أسانج قد حُرم من حريته لعشرات السنين أو أكثر - "حكم" طويل يفوق حكم عدد من المجرمين العتاة. وهذه طريقة غريبة لدعم حكم القانون في أي بلد من البلدان. ومن ثم، ليس هناك سجناء سياسيين في المملكة المتحدة، أليس كذلك؟ إذاً قصة أسانج هي قصة اضطهاد بالفعل.

© The Independent

المزيد من تقارير