Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مأساة الطفولة السورية تتجلى  في مسرحية هنريك إبسن

"عكازة" تاتيانا أبو عسلي تفكك العلاقات الإنسانية في زمن الحرب

مشهد من المسرحية السورية "العكازة" (اندبندنت عربية)

استعادت الفنانة تاتيانا أبو عسلي نص "آيولف الصغير" للكاتب النروجي هنريك إبسن (1828-1906) في مسرحيتها "العكّازة" التي أعدتها وأخرجتها ولعبت فيها دور البطولة، مرجعةً إلى الأذهان دراما المجتمع، والعلاقات الأسرية المضطربة بين الرجل والمرأة التي برع الكاتب العالمي في تحليلها نفسياً، ووضعها كأمثلة عن علاقة الفرد بمجتمعه. وهذا ما نجده في الصيغة السورية من النص الإبسني الذي طوّع العديد من الإشارات لصالح طرح أسئلة قديمة جديدة عن الحب والواجب، والرغبة في الاستحواذ على الآخر وتملكه.

من هنا عملت أبو عسلي على تقديم سياق مختلف للمسرحية التي تقع في ثلاثة فصول، وتناقش مسألة الزواج كما في نصي إبسن "بيت الدمية" و"الأشباح". إلا أن "آيولف الصغير" تفرد مساحة أوسع للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ يعيش كل من طارق (بشار الشيخ) ويارا (تاتيانا أبو عسلي) جفاءً وخمولاً في علاقتهما بعد عشر سنوات من زواجهما، ولديهما طفل يدعى لؤي. وهذا الدور لا يظهر في العكّازة على عكس النص الأصلي، بل يحكى عنه طوال الوقت.

تبدأ الأحداث الفعلية للعرض بعد عودة الزوج من نزهته الطويلة في الجبال، ليخبر زوجته بأن رحلته لم تكن موفّقة، وأنه لم يكتب سطراً واحداً من كتابه "مسؤولية الإنسان" الذي ذهب في طلب الخلوة من أجله. وقد حان الوقت ليتفرغ لابنه الوحيد، وأن يصنع منه معجزة، ويلبي له كل أحلامه. لكن الزوجة تجد في ابنها العاجز عائقاً بينها وبين رغبتها بزوجها، الذي تقدمه الصيغة السورية هنا ككاتب متبطّل، بينما يكون في النص الأصلي مزارعاً ومعلّماً سابقاً. ومع احتدام النقاش بين الزوجين، وفتور رغبة الزوج واضطرام شهوة الزوجة وشوقها إلى رجلها الذي لا يلقى إلا الفتور؛ تتدفق أحداث المسرحية (إنتاج المديرية العامة للمسارح والموسيقى) برتابة تتعقب أسلوب المسرح الواقعي.

عائلة مفككة

نتعرف تباعاً إلى شخصيتي ميلا (رولا طهماز) شقيقة الزوجة، وحسان (حسين محمود) خطيبها، ونكتشف أن علاقة ما حدثت بين طارق وشقيقة زوجته، وأن إثماً كبيراً قد وقع، أو على وشك الوقوع. وبينما ترفض شقيقة الزوجة الاستمرار على هذا المنحى، يصر طارق على صفاء نيته، وميله العارم نحو شقيقة زوجته الشابة، التي لا تزال مشوشة وضائعة بين موافقتها على الاقتران من خطيبها المهندس حسان، والتخلص من كابوس زوج شقيقتها، أو الإذعان لمشاعرها المحرّمة إزاء زوج أختها. لكننا نكتشف أنها كانت ألعوبة في يدي كاتب مبتدئ، وأن كل ما حدث كانت الزوجة على معرفةٍ به.

في هذه الأثناء يقع ما لم يكن في الحسبان، إذ تسقط قذيفة على حديقة منزل الزوجين، وتثار جلبة في الخارج، لنكتشف أن الطفل لؤي قد توفى نتيجة إصابته. وهذا ما يترك المساحة واسعة لتبادل الاتهامات بين الزوجين عن مسؤولية موت الطفل. فالزوج يحيل المسؤولية على "أم غراب" المرأة النازحة من الحرب وأولاد الشوارع، والتي هي في النص الأصلي شخصية زوجة الفأر أو "صائدة الفئران" التي تجذب الفئران نحو البحر عبر العزف لها برفقة كلبها الصغير، فتخلب ألباب أطفال المدينة البحرية. بينما نجد أن الزوجة تصر على أن "أم غراب" التي يحكى عنها ولا تظهر في النسخة السورية، هي ضحية، مثلها مثل عشرات الأطفال النازحين من الحرب، الذين ستجد فيهم الزوجة في نهاية المطاف عزاء لها بعد موت طفلها العاجز، وتقرر تبني أفراد منهم في نوع من التكفير عن تقصيرها إزاء ولدها الراحل.

وإذا كانت الصيغة السورية قد أبدلت حادثة غرق الطفل آيولف في النص الأصلي بحادثة موته بقذيفة هاون، هذا كان موفقاً إلى حدٍ بعيد، لكن تبدو العلاقة الجديدة بين الزوج وشقيقة زوجته، والتي كانت في النص الأصلي بين الزوج وأخته غير الشقيقة، مشوشة وغير واضحة. وهذا ما جعل نية خلق صراع جديد في نص إبسن تواجه مقاومة أدبية، وتمسي نوعاً من مسرح الحكي. في حين كان تغييب شخصية الطفل وصائدة الفئران عن الخشبة مربكاً، وأنقص بعض الشيء من تدفق الأحداث بسلاسة، وبدد الكثير من الوقت لتوضيح طبيعة الصراع الداخلي للشخصيات الأربع.

الإلتفاف على الرقابة

مأزق حاولت مخرجة العرض تجنبه في نوع من الالتفاف على الرقابة، منسحبةً إلى معالجة فنية مغايرة، ومبدلةً تلميحات إبسن عن علاقة السِفاح بين الأخ وأخته غير الشقيقة، والتي تتكشف في النص الأصلي عبر رسائل بخط يدي والدتها، بأنها لم تكن الأخت الشقيقة للسيد ألفريد أولمرز (طارق) لتنتهي بسفرها مع بورغهيم (حسان) مهندس الطرق. ويبدو هذا كنوع من الهروب من حب محرّم، بينما يعود الزوجان للخلاص من إثميهما، ومما أطلقوا عليه صفة العقاب القدري لعدم تحملهما المسؤولية، سواء إزاء وحيدهما، أو حتى إزاء علاقتهما الزوجية الفاترة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مما تقدم نجد حجم المهام الصعبة الملقاة على عاتق إعداد هذا النص، وانتزاعه من بيئته الإسكندنافية الباردة المظلمة إلى ظروف الراهن السوري. فعلى صعيد الأزياء والديكور عملت مخرجة العرض ومعدّتُه إلى المزاوجة بين قطع الديكور البيضاء (كنان جود) وبين الأزياء (رنا غزالي) التي تتبدل من التماهي مع اللون الأسود إلى الأبيض. وذلك في محاكاة لخلاص الشخصيات من ضغينتها وأنانيتها نحو السلام الداخلي، والقدرة على التعايش مع الظروف المضادة من موت الطفل، وعلاقة الحب المحرّمة، وما إليها من صراعات جانبية بين الزوج والخطيب.

من هنا توضّح مناخ العرض الذي راهن على التحليل النفسي، والتشريح الهادئ للشخصيات، والانتقال بين مناظر الحديقة والبيت بسلاسة، ومع التباين الواضح في أداء الممثلين. إلا أن مخرجة العرض حرصت على انتقالات موسيقية (أيمن زرقان) ساندت تطور الصراع عند شخصياتها، وذلك من غير اللجوء إلى مسخ النص الأصلي، بل بكتابة ما يشبه حوارات موازية لنص صاحب "عدوّ الشعب" والبحث عن معادل فني يضمن لها تصاعد متزن للأحداث. وهذا ما ترك الفرصة سانحة لطرح موضوع الأطفال السوريين الذين شردتهم الحرب، وضرورة تغيير النظرة التقليدية نحوهم، واعتبارهم بمثابة العكّاز الذي يتكئ عليه مجتمع على حافة الانهيار الجماعي.

المزيد من ثقافة