Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

سبب انقسام الآراء حول المخرج بيلي ويلدر

سيرة جديدة عنه تعارض وصفه بالمتهكم والكاره للنساء اللواتي صورهن كشخصيات مضطربة، ولا يبرر ذلك وصمه بالشوفينية الفظة

بيلي ويلدر ومارلين مونرو (شاتر ستوك)

حينما عاش بيلي ويلدر الصحافي الشاب على حافة الفقر في برلين خلال عشرينيات القرن العشرين، عمل لفترة قصيرة راقصاً ومغوياً بالأجرة. انطلق عمله ذاك من فندق راق في برلين، وقد وصفه بصراحة ضمن مقالة سنة 1927 بعنوان "أيها النادل نريد راقصاً من فضلك!"، ووفق كلماته "أرقص مع نساء شابات ومسنات، مع القصيرات جداً وأولئك الأطول قامة مني بمقدار رأسين، مع الجميلات والأقل جاذبية، مع شديدات النحافة وأولئك اللواتي يشربن الشاي المخصص للتنحيف، مع النساء اللواتي يرسلن النادل ليحصلن علي، فيتذوقن التانغو وأعينهن مغمضة من النشوة".

في المقابل، يشير المؤرخ السينمائي جوزيف ماكبرايد في كتاب السيرة الجديد الذي ألفه عن المخرج بعنوان "بيلي ويلدر، رقص على حافة الهاوية" Billy Wilder: Dancing on the Edge ، يشير إلى مدى الإهانة في "تجربته المشحونة التي تطلبت تفاعلاً مع شريحة متنوعة من الغرباء في فندق برليني" لكنها علمته كثيراً، إذ ساعدته في فهم "دور المال في المواقف الرومانسية"، وسيغدو ذلك في ما بعد "السمة المميزة لأعماله السينمائية، إذ إن المعنى الهزلي للحب والجنس عبر البغاء أو غيره من التعاملات المالية التي غالباً ما تتطلب تصنعاً أو تمثيلاً، جعلهما [الجنس والحب] سلعة عامة".

وتذكيراً، أمضى بيلي ويلدر (امتدت حياته بين سنتي 1906و2002) كي يكون أحد أعظم المخرجين السينمائيين وأشدهم تناقضاً في تاريخ هوليوود. لقد صنع بعض الأعمال الكوميدية الرومانسية الرائعة إلا أن مواقفه الواقعية وصراحته في مواضيع الجنس والمال والعلاقات، جعلت النقاد يدينونه ويعتبرونه متهكماً متمرساً، وبالتحديد جرى اتهامه بمعاملة الشخصيات النسائية في أفلامه بطريقة شديدة الوضاعة، وأحياناً على نحو استغلالي فاضح، إذ تجسدت النزعة التلصلصية عند هذا المخرج في صورة "التنورة الطائرة" التي تظهر فيها مارلين مونرو واقفة عند رصيف المترو والهواء يطير فستانها الأبيض أعلى من خصرها في فيلم "لهفة الأعوام السبعة" (1955) The Seven year Itch وغدت تلك الصورة إحدى أشهر صور القرن العشرين، ويبقى هذا المشهد إلى اليوم مثيراً للجدل.

وفي وقت سابق من الصيف الفائت حين نصبت في "بالم سبرينغ" منحوتة سيوارد جونسون التي نفذها سنة 2011 كي تستعيد تلك اللحظة (في مشهد "التنورة الطائرة")، انطلقت بسرعة حملات معترضة عليها. وقد ورد في اللافتات التي رفعها الناشطون المعترضون عبارة "البعض لا يفضلونها هكذا" Some Like It Not! وفي هذا لعب على الكلام وتحوير لعنوان فيلم مارلين مونرو الشهير "البعض يفضلونها ساخنة" Some Like It Hot!، إضافة إلى شعار "هذا ليس حنيناً بل كرهاً للنساء".

من المعروف أن ويلدر الذي صنع فيليمن مع مونرو، اعتبرها مستفزة إلى أقصى حد ومفتقرة إلى الدقة، ولا تعرف حدودها، وقد سخر منها ذات مرة مشيراً إلى أن "لديها صدر صلب كالغرانيت وعقل هش كالجبنة السويسرية"، وبدا كلامه ذاك أشبه بتهكم صادر من ذكر مراهق في حق فتاة رقيقة تعمل معه، ومن المفترض منه السعي إلى صون سمعتها طبعاً.

وبالاسترجاع، غالباً ما قدمت أفلام هذا المخرج نساء قويات وهدامات، ورجال ضعاف الإرادة يجرون في أعقابهن. خذوا مثلاً نورما ديسموند التي أدت دورها غلوريا سوانسون، نجمة الأفلام الصامتة الآفلة في فيلم "شارع مغيب الشمس" (1950) Sunset Boulevard، والتي عمل الكاتب الكادح جو غيليس (ويليام هولدين) مساعدها ومستشارها في مسائل السيناريو، وينتهي الأمر بغيليس ذاك غارقاً وميتاً في بركة سباحة.

أو خذوا مثلاً آخر، فيليس ديتريتشسون، التي أدت دورها باربرا ستانويك، الزوجة وربة البيت الكاليفورنية المغوية التي يأسر سحرها عميل شركة التأمين التعيس والتر نيف (فريد ماكموراي) في فيلم "تعويض مزدوج" (1944) Double Indemnity. وحين تقنع فيليس نيف بقتل زوجها للحصول على تعويض شركة التأمين، فإنه لا يتردد أبداً في تولي الأمر.

وعلى نحو مواز في الدناءة، جاءت الزوجة الخائنة بأداء جان سترلينغ بفيلم "هدف ساحق في الحفرة" (1951) Ace in the Hole، التي يسعدها أن يبقى زوجها محتجزاً ويموت في كهف، إذا أدى الأمر إلى حصولها على تعويض مالي. حتى عاملة المصاعد المحبوبة فران كوبيليك بأداء شيرلي ماكلين في فيلم "الشقة" (1960) The Apartment، لديها جانب من الجشع، إذ تبقى مشغولة بالنوم مع مديرها المتزوج، فيما الموظف المتواضع باد باكستر (جاك ليمون) يتحرق لوصالها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يضاف إلى ذلك أن أفلام ويلدر تضم أيضاً ما يكفي من شخصيات العاهرات من نوع ماكلين في دور إيرما بفيلم "إيرما الرقيقة" (1963) Irma la Douce، وكيم نوفاك بدور بولي ذا بيستول في فيلم "قبلني أيها الغبي" (1964) Kiss Me, Stupid، إضافة إلى الشخصيات النسائية الغيورة والمخادعة من نوع فيدورا، النجمة الهوليوودية المتوحدة شبيهة غريتا غاربو، وقد أدت دورها مارثا كيلير التي ترفض كبح شبابها في فيلم "فيدورا" (1978) Fedora.

وكذلك عانت النساء اللواتي عملن مع ويلدر أحياناً من تجارب تعيسة، إذ إن النجمة السويسرية كيلير التي اختيرت للأداء في "فيدورا" بعد أن شاهدها ويلدر تؤدي بمواجهة أل باتشينو في فيلم "بوبي ديرفيلد" (1977) Booby Deerfield للمخرج سيدني بولاك، عمدت إلى تشبيه ويلدر بالديكتاتور. وبحسب كلمات كيلير حينما أعيد إطلاق "فيدورا" بنسخة جديدة قبل أعوام قليلة، "أحتاج من الناس الذين أعمل معهم الثقة والحب، فأقدم أفضل ما لدي. بيلي ويلدر كان عبقرياً لكنه لم يكن رجلاً لطيفاً في موقع التصوير وخلاله. كان طريفاً جداً، لكن على الدوام عبر السخرية من شخص ما، وكان العمل معه مؤلماً جداً". ولدى كيلير حكايا محزنة عن طريقة إهانته لها خلال تصوير فيلم في جزيرة "كورفو" اليونانية، فحين طلبت منه ذات مرة حمايتها من تطفل السياح الذين راحوا يحتشدون حول موقع التصوير، "نظر إلي وتناول مكبر الصوت قائلاً، "مقابل المبلغ الذي تقاضيته، الأفضل لك القيام بالعمل"، وذكر أمام جميع الناس قيمة المبلغ الذي تقاضيته".

تبدو تلك الأمور مثل سجل اتهامي بحق ويلدر، ولم يكن يتجنب بعض الضحك والبذاءة (خلال العمل)، وكذلك استطاع الصخب في كواليس التصوير، لكن على الرغم من هذا فإن كل محب لويلدر بوسعه مواجهة تلك السرديات بالإشارة إلى أن الناقد الأحمق والمتعامي وحده يمكنه اتهام هذا المخرج بكره النساء أو بتقديم الشخصيات النسائية بصيغة سلبية. ربما تعامل ويلدر مع كيلير بطريقة سيئة، وقد ندم على اختيارها للعمل معه، وربما أدلى بملاحظات دنيئة تناولت مونرو، إلا أن أكثرية من عملوا معه استمتعوا بذلك.

وفي هذا السياق قالت عنه أودري هيبورن "إنه محبب جداً، ومخرج عظيم ورجل نبيل".

ويمنح ويلدر شخصياته النسائية في أفلامه عمقاً وتركيباً يندر وجودهما في أي من أفلام المخرجين الآخرين في تلك المرحلة، وسواء أكانت أفلامه من مستوى "هدف ساحق في الحفرة" و"تعويض مزدوج"، فقد توازنت بأجواء التفاؤل الطريفة والمحببة التي تميزت بها أعمال كـ "سابرينا" (1954) Sabrina و"الحب بعد الظهر" (1957) Love in the Afternoon، فيلماه مع هيبورن.

في ذلك الصدد، يذكر ماكبرايد إنه كتب هذه السيرة الجديدة في جانب منها "بهدف مواجهة الرأي الذي يرى أن ويلدر شخص تهكمي وكاره للنساء. أنا لا أعتقد أنه كذلك".

ويتابع، "إنه لا يصور النساء على نحو عاطفي على غرار ما فعله كثير من أفلام هوليوود القديمة، بل إنه يعامل النساء والرجال على حد سواء كأشخاص واقعيين تختلط فيهم العيوب والقيم. وأعتقد أن الأمر أزعج بعض الناس، لأن هذا البعض غير معتاد على رؤية النساء يعاملن بواقعية في الأفلام".

واستطراداً، يرى المؤلف [ماكبرايد] أن فيلم "البعض يفضلونها ساخنة" (1959) Some Like It Hot، عمله الثاني مع مارلين مونرو، يمثل فيلماً نسوياً، إذ إن عازفي الجاز في الفيلم اللذين أدى دورهما جاك ليمون وطوني كيرتس، يتعلمان "السير بأحذية نسائية"، وتلك محاولة لم يخضها في ذلك الوقت، سوى قلة من ممثلي هوليوود الرجال، فبعد مشاهدتهما "مقتلة عيد العشاق"، يشرعان في الهرب ويتنكران في ثياب نسائية ويلتحقان بفرقة كل أعضائها نساء، وهنا تقدم مونرو أحد أكثر أداءاتها متانة وطرافة وتأثيراً في دور "شوغار" (سكر)، المغنية وعازفة القيثار، وبالتالي لقد كانت تلك إحدى المرات القليلة تبدو (مارلين مونرو) شخصية حقيقية، على عكس تلك الشخصية المبالغ بها لاستثارة خيال ورغبات الرجال التي طالما أدتها.

 

وإذا قرأ المرء بانتباه أكبر المقابلات القديمة التي أجريت مع ويلدر، متجاوزاً ملاحظات الأخير الساخرة والفظة عن طريقة استهتار مونرو بالوقت، فإن المرء سيلاحظ أن ويلدر اعترف بعبقريتها.

لقد أحس المخرج "أن العمل معها يستحق كل ذلك العناء"، ونقل مرة إلى كاتبة السير شارلوت شاندلي، "لو أردت شخصاً يأتي في الموعد المحدد، ويدرك حدوده بالتمام لعملت مع عمة مسنة من فيينا مستعدة للمجيء (إلى العمل) في الخامسة صباحاً وتحفظ دورها عن ظهر قلب، لكن من يود مشاهدة شخصية كهذه؟"

إلى ذلك، من المستطاع ذكر أن ويلدر هو المخرج الوحيد الذي عملت معه مارلين مونرو، في المرحلة التي تلت مرورها بتجربة تعامل الناس معها مباشرة بصفتها غرضاً جنسياً.

وفي مجموعة مقالاته الصحافية التي ترجمت في الآونة الأخيرة [إلى الإنجليزية] بعنوان "تغطيات بيلي ويلدر" Billy Wilder Assignment، وتضمنت مقالته "أيها النادل نريد راقصاً من فضلك!"، إذ تحدث عن الشهرين اللذين قضاهما كراقص للإيجار، بدا متوتراً ومحرجاً ومنزعجاً من دوره كرجل مغو بالأجرة.

وكتب ويلدر عن ذلك، "في صالة الرقص نساء نحيفات ومكشوفات السيقان يجلسن خلف طاولات صغيرة ويرتشفن قهوة الموكا. يضعن الفناجين من أيديهن ويعاينني، وثم تنفرج شفاههن القرمزية بابتسامة معسولة ومزعجة".

وتلقى ويلدر تحذيراً بوجوب الرقص حتى مع نساء لا يرقن له. ويكتب عن ذلك الوقت حينما كان "ساقين للإيجار"، فيذكر "في الحقيقة، كلما تقلصت جاذبيتهن بنظرك، كلما جاء أداؤك للعمل صادقاً ونزيهاً".

وبعد أعوام، حين صنع ويلدر أفلاماً من مستوى "إيرما الرقيقة" و"قبلني أيها الغبي" و"الشقة"، بدا واضحاً أن تجربته في صالات الرقص منحته فهماً قوياً لما كابدته بطلاته النساء من زبائنهن.

واستكمالاً، لم يحب ويلدر أبداً إصدار الأحكام، إذ إن الشخصيات النسائية التي كان يمكن لمخرجين غيره أن يعاملنهن كرمز للانحلال والفساد في حياتهن الوضيعة، تولى ويلدر التعامل معهن في أفلامه بمودة وطرافة.

لقد بدا على الدوام أكثر تعاطفاً مع الذين يعيشون في هوامش المجتمع مثل الفتيات العاملات ومغنيات الملاهي الليلية المشبوهة، فيفضلهن على الشخصيات المتزمتة والرسمية، على نمط شخصية عضوة الكونغرس التي أدتها جين آرثر في فيلمه الكوميدي الرومانسي "علاقة خارجية" A Foreign Affair، التي حاولت وعظهن بالأخلاق، وحتى نجمة الأفلام الصامتة المتغطرسة التي يلفها الغموض في فيلم "شارع سانست" نالت ميزاتها التعويضية.

في سياق مواز، أشار كاتب السيناريو والمتعامل القديم مع ويلدر أيال دياموند إلى ما سماه "خيبة ويلدر الرومنطيقية"، إذ إن ما اعتبره النقاد سخرية وتهكماً في شخصيته لم يكن في الحقيقة سوى صدقاً وتبصراً تجاه التصرفات البشرية، ويعودان [التهكم والسخرية] إلى الأيام التي قضاها راقصاً للإيجار وصحافياً مستقلاً في فيينا وبرلين خلال حقبة العشرينيات من القرن العشرين.

وفي سنة 1963، ضمن مقابلة أجرتها معه مجلة "بلاي بوي"، تباهى ويلدر بأنه حاور مرة في صبحية يوم واحد كل من سيغموند فرويد وزميله ألفريد أدلير والكاتب آرثر شنيتزلر والمؤلف الموسيقي ريتشارد شتراوس.

سواء أصح ذلك أم لا، إلا أنه حين وصل إلى هوليوود في الثلاثينيات فعلاً شخصية كوزموبوليتية، إذ خبر العيش في الحقبة المضطربة إبان "جمهورية فيمار" [في ثلاثينيات القرن العشرين، وهي حكومة ديمقراطية في فترة ما قبل وصول هتلر إلى السلطة]، ثم فر من النازيين، وفي ما بعد ظهرت عالميته عبر طريقة تصويره النساء وتقديمهن على الشاشة الكبيرة، ولا يشاهد المرء أفلام ويلدر ويتوقع منها ما يحاكي أعمالاً مثل "آن أوف غرين غايبلز" Anne of Green Gables أو "ربيكا ابنة مزرعة ساني بروك" Rebecca of Sunnybrook Farm، بل حازت أفلامه ظلالاً أكثر قتامة بكثير، لكن على المرء أن لا يخطئ ويعتبر نظرته الواقعية للحياة مجرد فظاظة شوفينية [تطرف في الوطنية].

"بيلي ويلدر: رقص على حافة الهاوية" Billy Wilder: Dancing on the Edge تأليف جوزيف ماكبرايد نشر في 26 أوكتوبر (تشرين الأول). و"تغطيات بيلي ويلدر: مراسلات من برلين جمهورية فيمار وفيينا بفترة ما بين الحربين" Billy Wilder on Assignment: Dispatches from Weimar Berlin and Interwar Vienna متوفر الآن.

© The Independent

المزيد من سينما