اختار الفنان مأمون الخطيب تقديم عرضه الجديد عن مسرحية "الدُّب" للكاتب أنطون تشيخوف (1960-1904) مستعيناً بإعداد درامي للكاتب طارق عدوان، الذي أحال النسخة الأصلية من النص إلى رؤية سورية، مستبدلاً أسماء شخصياته الثلاث، لتصبح الأرملة بوبوفا هي تمارا (زينة المصري)، وسيمرنوف هو سمير الراعي (وسام حمود) فيما نابت شخصية العمة ليليت (رنا جمول) عن شخصية الخادم العجوز لوقا. وبينما أبقى العرض عنوانه الأصلي في أبرز ترجمة له عن لغته الأصلية قدّمها المصري أبو بكر يوسف عام 1983، اتكأ الإخراج على تقديم محاكاة محلية بعيدة من صيغة المسرح البرجوازي الذي صوّر فيه الكاتب الروسي أحوال شرائح الإقطاعيين في بلاده قبل ثورة الفلاحين 1917.
يروي عرض "الدُّب" حكاية أرملة شابة أقسمت على الوفاء لذكرى زوجها المتوفى، وبينما هي تجدد عهدها بالإخلاص لشريكها الميت، يصل أحد الدائنين لزوجها، يطالبها بإيفاء الديّن المثبت على المتوفى في سندات مالية، لكن الأرملة الشابة تطالبه بالانتظار ريثما يحضر المسؤول القانوني، فهي لا تملك نقوداً تعطيه إياها حالياً. لكن الدائن الفظ الطباع يصر على استرداد نقوده على الفور، مما يضعه في مواجهة مع الأرملة الجميلة، التي ما زالت تتشح بزيّ الحداد على زوجها الراحل، فهي تناجي صورته المعلقة على جدار الصالة، وتواصل نحيبها عليه منذ سنة.
المواجهة المسرحية
تتصاعد أحداث العرض بعدها بصيغة الفودفيل أو المسرحية الهزلية، وتحتدم المواجهة بين الرجل الجلف والأرملة الغاضبة، والتي تدعو ضيفها للمبارزة بالمسدسات، ومع أنها لا تجيد استخدام السلاح، إلا أنها تصر على ذلك. لكن وفي غفلة منها تمتد يدي الدائن برجولة وتضمها إلى صدره، معترفاً بحبه وإعجابه بها وبشجاعتها، لكن الأرملة لا تذعن له بهذه السهولة. وبعد أن تطالبه بمغادرة منزلها، تعود مرات ومرات تستوقفه وتطرده، إلى أن يغرقا في عناقٍ طويل ينهي الصراع الدائر، ويضع كلاً منهما في اعتراف أخير بسطوة الحب، وقوة الحياة في إيقاف اجترار الأحزان، ونسيان الماضي.
مخرج العرض حقق هذه اللعبة عبر إدارة لافتة لممثليه الثلاثة، مستعيناً بسينوغرافيا نزار بلال وريم الشمالي، اللذين قاما بإغلاق فضاء مسرح الحمراء الدمشقي بمجموعة من ستائر الدانتيلا المتتالية، التي تتفتح واحدةً تلو الأخرى بالتوازي مع التقدم في الأحداث، فيما لعبت موسيقى الفنان رامي الضللي دوراً حاسماً في موسقة مراحل العرض، وذلك بالاتكاء على آلتي البيانو والتشيللو في معظم مقطوعات التأليف الموسيقي للمسرحية. وواكبت إضاءة مجد مغامس تقلبات الشخصيات الثلاث، تبعاً للصراع الدائر، ليلعب الضوء هنا دور البطولة في إغناء خلفيات المناظر، والانتقال السلس بين العديد من الأمزجة البصرية، التي تضافرت هي الأخرى داخل مناخ لوني للمشَاهد، وسط توزيع الظلال على كامل مساحة الفضاء المسرحي، وتطويع أجواء مخملية عن بيت الأرملة وحدائقه الخلفية.
حاول عرض "الدُّب" الإطلالة على راهن البلاد الدموي من خلال لسان حال شخصياته، مستعيضاً عن الحوارات الأصلية بأُخرى أكثر محايثة لواقع البلاد اليوم. وهذا ما بينته النسخة السورية من "الدُّب" متطرقة الى أزمات الغلاء والمعيشة، وانعدام الثقة بين الناس بعد سنوات من الحرب الطويلة. لكن البارز في هذه التجربة هو الاستناد مجدداً إلى نصوص اعتبرها مخرج العرض تدريبية لطلاب الأكاديميات المسرحية، لا سيما مونولوغات تشيخوف التي كتبها بحس طريف ولاذع كحالة من التنفيس عنه في نقاهاته الطويلة، إذ كان يردد دوماً عبارته الشهيرة: "أنا طبيب ولستُ كاتباً مسرحياً". هكذا لم يوقّع تشيخوف نص "الدُّب" باسمه بعد كتابته مباشرةً، كما ترددت الرقابة في منحه الموافقة للعرض، لكن وبعد نجاح هذا النص ضمه تشيخوف إلى أعماله التي لا تزال تلقى رواجاً بعد عقود طويلة من رحيله. كما أن "الدُّب" تحولت أكثر من مرة إلى فيلم، وكان أبرزها عام 1938 على يد المخرج الروسي أنينسكي.
الخروج على تشيخوف
العرض (مديرية المسارح والموسيقى) حاول الخروج على الصبغة التشيخوفية التي وسمته بأنه كاتب الحياة العادية والأناس الرماديين، وأن مسرحياته ما هي سوى صفحة حزينة للحياة الروسية، ونصوصه أتت كدليل على الخمول والبلادة الروحية لبلاد تغمرها الثلوج والكآبة السلافية العريقة. لكن العرض تجاوز هذا كله نحو تقديم النص في إسقاطه على الراهن السوري، وجعله أكثر قرباً وديناميكية من جمهور اليوم، بحيث اعتمد الممثلون في أدائهم على أسلوب الشخصيات النمطية (الكراكتر) من دون أن يحد هذا من الشرط الفني لإنعاش أكثر نصوص صاحب "العنبر رقم ستة" تداولاً في المدارس والكليات الفنية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وربما هذا ما دفع المخرج مأمون الخطيب إلى توقيع نسخة محلية من النص التشيخوفي، معيداً إلى الأذهان مجد مسرح موسكو الفني الشعبي الذي انضم تشيخوف إلى فريقه ككاتب عام 1898، مشكّلاً مع المخرج والممثل قسطنطين ستانسلافسكي ثنائياً ترك أثره على مناهج تدريس فن التمثيل في العالم. وذلك عبر تقديم عروض عديدة كان من أبرزها مسرحيات "النورس" و"الشقيقات الثلاث" و"بستان الكرز"، التي ساندت نبرة طلائعية ثورية مهّدت في ما بعد لاقتلاع حكم الإقطاع، والتأسيس لعصر جديد في البلاد الروسية.
ومع أن تشيخوف لم يشهد فشل ثورة عام 1905 بعد عامٍ من رحيله، إلا أن أعماله القصصية والمسرحية اعتبرها ستانسلافسكي نفسه، نوعاً من الإعداد والتجميع لضربات قوية وتقدمية في تهيئة المزاج العام، والإيحاء بأفكار جديدة من طريق شرح فساد الحياة الروسية القديمة، وتصوير وضاعتها. وهذا ما يجعل استعادة "الدُّب" محاكاة - ولو بعيدة - للمعضلة السورية، ومقاربتها بزمن إخفاق ثورة 1905، وما جرّته من اضطرابات سياسية وإضرابات عمالية واسعة.
إنها مقاربة يستدعيها العرض السوري بخجل، لكنه في العمق أرسل إشارات قوية وفقاً للإعداد الجديد للنص. ولهذا اختار الخطيب اللعب على مستويات الأداء الأقرب إلى أسلوب المسرح الهزلي، طارحا أسئلة عدة عن الطبيعة الإنسانية، ومواكباً اختصاصه في تدريس التمثيل في المعهد العالي للفنون المسرحية، ما ترك مهمات عدة على عمل الدراماتورج، واستدعى ارتجالاً من الممثلين في أثناء فترة التدريبات، وذلك للخلاص من نسخة النص المترجمة، والنفاذ إلى مزاج الجمهور اليومي، من دون أن يكون هذا على حساب رشاقة العبارة والقفشات الضاحكة.