Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"زوجتي" للروسي أنطون تشيخوف تتحول إلى مشهد من "سبات شتوي"

رجل مسرح ومهندس محبط يواجهان جوع الفلاحين وغضب النساء

أنطون تشيخوف (1850-1904) (غيتي)

لا يتورع كثير من النقاد السينمائيين، وغالباً في معرض حديثهم عن مصادر إلهام بعض كبار سينمائيي النصف الثاني من القرن العشرين وبدايات القرن الذي يليه، عن الحديث عن استلهام قامات سينمائية كبيرة من طينة تتراوح بين السويدي إنغمار برغمان، والأميركي وودي آلان من مسرح أنطون تشيخوف، وأحياناً بصورة معلنة. ومع ذلك، لم يحدث كثيراً أن خاض هؤلاء المبدعون تجربة الاقتباس من صاحب "بستان الكرز"، و"الشقيقات الثلاث" بشكل مباشر.

أما أفلمة تشيخوف بشكل صريح فكادت تكون دائماً وقفاً على السينمائيين الروس، ولكن بعد ذلك، ومنذ ظهور المخرج التركي نوري بيلجي جيلان بأفلامه العديدة والبديعة التي باتت ترى النور، أول ما تراه، من خلال مشاركتها في المسابقات الرسمية لمهرجان "كان" السينمائي، راحت الإشارة الى عوالم تشيخوف تتزايد، حيث بدا جيلان بوصفه واحداً من غُلاة المتأثرين بالكاتب الروسي الكبير وبعوالمه الواقعية والقاسية في سبرها للروح البشرية. ولعل هذه القرابة مع تشيخوف كانت المؤثر الأول في أفلام لجيلان، مثل "ثلاثة قرود"، و"حدث ذات يوم في الأناضول"، ثم بخاصة كما سنرى، في واحد من أفلامه الأكثر جدة، وهو "سبات شتوي" الذي نال عنه مخرجه السعفة الذهبية، أرفع جوائز "كان" قبل نصف دزينة من السنوات، بعد أن كان قبلها قد نال ثلاث أو أربع جوائز كبرى تقل عنها منزلة.

فوز "مشترك" مع الكاتب الروسي

ولعل الصدفة كانت هي، على أية حال، ما جعل فوز جيلان "الكانيّ" الأسمى يتحقق في ذلك الفيلم الذي دنا فيه من ملهمه الروسي بأكثر ما يكون. بل أكثر من هذا، حيث نراه في فيلمه المتحدث عن أزمة وجودية وإبداعية، وربما كذلك أزمة منتصف العمر لبطله، يقتبس مباشرة العديد من المواقف التشيخوفية في عدد لا بأس به من مواقف فيلمه، وصولاً حتى إلى اقتباس قصة كاملة من ابداعات تشيخوف، ليبني عليها جزءاً أساسياً من الفيلم. وهذه القصة هي "زوجتي" التي نشرها تشيخوف للمرة الأولى في عام 1892 لتنضم لاحقاً إلى مجموعات أخرى له. وقبل أن نتوقف عند هذه القصة التي تتميز بعمق استثنائي، وبسبر لروح بطلها الذي يحدثنا هنا عن زوجته، قد يحسن بنا أن نعود بعض الشيء إلى موضعة السينمائي للقصة في فيلمه الذي يتجاوزها أحداثاً، وشخصيات في ساعات عرضه الثلاث ونيّف.

ثورة امرأة... وامرأتين

ففي الفيلم تكاد زوجة "أيدن" المسرحي المعروف، والذي ينصرف الآن إلى الاهتمام بفندقه العائلي في منطقة نائية، وقد رغب في أن يكتب تاريخاً للمسرح التركي، تكاد تكون ثانوية الأهمية أول الأمر هي التي تسكت عن تصرفاته وتكتم في قلبها حتى تنفجر الأمور بينهما، فتصبح نوعاً من المرآة العاكسة لأشجانه والراغبة في التخلص من هذا الدور. في لحظة ما وقد وصل التدهور في العلاقات بينهما إلى ذروة حادة، تجمع الزوجة من حولها رفاقاً لها ليتمكنوا من مراكمة بعض المال لمشروع خيري نضالي، غير أنها، وإذ ترصد تصرفات سيئة لزوجها تجاه مستأجري منزل يملكه ويعجزون عن دفع إيجاره لأسباب سياسية، تتوجه ذات يوم إلى منزل المستأجرين من دون معرفة زوجها محاولة تقديم المال الذي جمعته ورفاقها كنوع من المساعدة لهم، لكنهم يرفضون بشكل مهين لها، بل إن المستأجر المعني بالأمر، يرمي المبلغ الذي تقدمه له في الموقد ويحرقه بعد أن يسمعها خطاباً بالغ القسوة حول تعامل الأغنياء مع الفقراء. والحقيقة أن جيلان عرف هنا كيف يوصل تشيخوفيته إلى ذروة لم يكن قد سبق له الوصول إليها. ويعود ذلك كما أسلفنا إلى كون الحالة والمشهد معاً مأخوذين كلياً من تشيخوف، إذ هنا تماماً موضع السينمائي تلك القصة التشيخوفية كما هي ومن دون أن يبدل منها شيئاً، بحيث بدا الأمر في النهاية وكأنه، على غير عادته، إنما بنى الفيلم كله للوصول إلى هذا المشهد فيه.

بين المهندس وزوجته

في القصة لدينا تحديداً زوج وزوجة شديدا التماثل مع زوجي الفيلم، ولكن لدينا، بخاصة ذلك الزوج، الذي لطالما أثار الشخصيات المماثلة له، اهتمام تشيخوف: مهندس ثري لا طعم له ولا رائحة يحدث له يوماً، كحال بطل الفيلم إلى حدّ كبير، أن يلجأ إلى الريف بعيداً عن المدينة كي يتمكن من اجتياز مرحلة صعبة من حياته في هدوء وسكينة. ويحدث أن تلك المنطقة التي لجأ إليها كانت في ذلك الوقت نفسه تعيش مجاعة بالغة القسوة فلا يكون من صاحبنا إلا أن يرغب في مدّ يد المساعدة إلى سكان يتضورون جوعاً ولا يجدون ما يقيت أودهم، غير أنه بعد أن بدأ في نشاطه الخيري بداية واعدة يتوقف عن ذلك النشاط، بينما نكتشف أن زوجته انصرفت من ناحيتها، وبشكل مستقل عنه، إلى جمع مبالغ يمكنها أن تساعد السكان حقاً وتشكل للاهتمام بالأمر لجنة محلية تتولى السهر على مثل تلك الأمور. صحيح أن المهندس كان في ذلك الحين منفصلاً عن زوجته، غير أنه كان لا يزال مغرماً بها، ويتطلع الى يوم تعود إليه فيه، بالتالي يفاتحها بأنه يريد أن ينضم إلى تلك اللجنة، وتفهم هي أن رغبته ليست ناجمة عن تطلع إلى ما فيه خير السكان، بل إلى البقاء غير بعيد عنها. وهكذا تثور ثائرتها هي التي وجدت في النشاط الخيري الذي تقوم به نوعاً من التعويض على الملل الذي تعيشه، وتجابهه ذات لحظة قائلة له بعبارات شبيهة إلى حدّ كبير بالعبارات التي تجابه زوجة الفيلم زوجها المسرحي بها في موقف مماثل تماماً قائلة له، "إنك رجل مهذب وذو تربية مميزة، متعلم وتملك كثيراً من الأفكار الممتازة، لكنك لا تملك قلباً. وها نحن نتشاجر هنا، بينما ثمة فلاحون يتضورون جوعاً إلى حدّ الموت".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صحيح أن المهندس لا يجير هنا جواباً أمام هذا التقريع، تماماً كما أنه لا يلح على الانضمام إلى اللجنة، بيد أن باله يبقى مشغولاً بالكيفية التي يمكنه بها أن يبقي على علاقته بزوجته، فهو يحبها الآن كما كان دائماً يحبها، ومن هنا نراه يغير سلوكه ويقرر أن يوزع كل ما يملك على الفلاحين الجائعين.

ما لا يدركه المهندس

غير أن ما لا يدركه صاحبنا، وقد اعتقد أنه إنما يفعل هنا ما يمليه عليه قلبه الذي اتهمته زوجته بأنه لا يمتلكه، ما لا يدركه هو أن قراره ليس نابعاً من تفكير عقلاني ولا من لحظة إشراق مباغتة، بل هو نوع من مجهود أخير وغير واعٍ يحاول من خلاله أن يتجاوز ما يشعر به من عدم ولا شيئية هما ما يدمره في نهاية المطاف. ما لا يدركه بالطبع، لكننا ندركه نحن المعتادون على قراءة تشيخوف والتغلغل إلى داخل نفوس شخصياته، هو أن تصرفه إنما ينجم عن تلك اللامبالاة التي يعيشها في حقيقة الأمر إزاء الحياة، لا مبالاة تسم عادة العديد من الشخصيات التشيخوفية ما يخلق في نهاية الأمر، الفارق العميق بين هذا المهندس "التشيخوفي" في أعمق أعماقه، وبين رجل المسرح الذي استعرض لنا السينمائي التركي حالته وأزمته في ذلك الفيلم، الذي على الرغم من مرجعيته "التشيخوفية"، لم يتمكن من السير في تلك السكة العدمية حتى نهايتها.

فثمة اختلاف في الذهنيتين والبلدين والحالتين جعل جيلان يستحوذ على الشخصية ثم يكيّفها مع متطلبات فيلمه. ويقيناً أن نجاحه في تلك الأقلمة كلّل فيلمه بقدر كبير من السحر، تماماً كما أن نجاح أنطون تشيخوف (1850-1904) قبله بقرن ونيّف من الزمن أضفى على شخصيته تلك الهالة المرتبطة بزمنها وأزماته.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة