في 12 فبراير (شباط) 1988، وقعت حادثة تصادم في البحر الأسود بين الطرادة الأميركية "يو أس أس يوركتاون" وفرقاطة سوفياتية قامت عمداً بدفع الأولى إلى المياه الدولية. وقعت الحادثة خلال الحرب الباردة، وكانت السفينة الأميركية تبحر عبر المياه الإقليمية السوفياتية في البحر الأسود لتأكيد ما يعرف بحق "المرور البريء"، وتعزيز حقها في العبور عبر الممرات المائية الدولية بموجب اتفاقية مونترو لعام 1936.
الحادثة التي وقعت قبل نحو 33 عاماً لاح شبحها أخيراً بعد تكرار إرسال الولايات المتحدة ودول حلف شمال الأطلسي (الناتو) سفناً حربية عبر البحر الأسود. فالأسبوع الحالي، حذرت موسكو من أنها تراقب سفينتين تابعتين للبحرية الأميركية في المنطقة، وتزامن ذلك مع تدريبات عسكرية روسية على تدمير أهداف معادية في البحر الأسود.
ووفقاً لوكالة "إنترفاكس" الروسية، فإن سفن أسطول البحر الأسود تدربت على تدمير أهداف معادية، وأن نظم الدفاع الجوي كانت على أهبة الاستعداد في قواعدها في نوفوروسيسك وفي شبه جزيرة القرم، التي تحتلها روسيا منذ عام 2014 بينما يعترف بها المجتمع الدولي جزءاً من أوكرانيا. وفي تعليقات للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الاثنين الماضي، أعرب عن قلقه بشأن نشاط حلف شمال الأطلسي بالقرب من الحدود الروسية، ذلك في الوقت الذي أبحرت فيه السفينة الأميركية "ماونت ويتني" إلى إسطنبول للانضمام إلى سفن أخرى.
وحذرت موسكو مراراً الدول الغربية من إرسال سفنها الحربية إلى البحر الأسود. ففي يوليو (تموز) الماضي، كادت تندلع مواجهة بين القوات الروسية ومدمرة بريطانية قبالة شبه جزيرة القرم، حيث أطلق الجانب الروسي طلقات تحذيرية، وألقيت قنابل في مسار المدمرة البريطانية. في حين دافع، وقتها، رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، عن الطريق البحري الذي كانت تسلكه المدمرة "ديفندر" التابعة للبحرية الملكية، قائلاً "لا نعترف بضم القرم، كان ذلك غير قانوني، وهذه مياه أوكرانية ومن الصائب تماماً استخدامها للتوجه من نقطة إلى أخرى".
تركيا لاعب مهم
بالنسبة إلى الغرب، فإن الموقع الاستراتيجي للبحر الأسود يضعه في مكانة مهمة لأمن الجناح الجنوبي الشرقي لحلف "الناتو" والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط الأوسع، ومن ثم فإن احتلال روسيا القرم والوجود العسكري لها في جورجيا وتعزيز قدراتها العسكرية في المنطقة يقوض الأمن.
وتاريخياً، يمثل البحر الأسود منطقة نفوذ خاص لروسيا، إذ إنها تعتبر هذه الكتلة المائية منطقة أمنية عازلة مهمة، كما أنها منطقة حيوية لاستراتيجيتها الجغرافية الاقتصادية، لإظهار القوة والنفوذ الروسيَّين في البحر المتوسط، وحماية روابطها الاقتصادية والتجارية مع الأسواق الأوروبية الرئيسة، وجعل جنوب أوروبا أكثر اعتماداً على النفط والغاز من روسيا.
بين روسيا والغرب، تقف تركيا لاعباً محورياً في هذه المنطقة التي تقع على مفترق طرق مهم بين أوروبا وآسيا والشرق الأوسط. فبموجب اتفاقية "مونترو" لعام 1936، تسيطر تركيا على مضيقي البوسفور والدردنيل، وهما بوابة الوصول إلى المياه الدافئة حيث البحر المتوسط وما وراءه. ومن ثم، تسعى موسكو إلى تنسيق مزيد من التقارب مع أنقرة لكسب مزيد من النفوذ على المضايق التركية.
ويقول بوريس توكاس، الزميل الزائر لدى مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، في واشنطن، إنه "بالنسبة إلى روسيا، لم تتغير العوامل الجيوستراتيجية لمنطقة البحر الأسود منذ عام 1853، إذ حل الناتو والولايات المتحدة مكان الدول الأوروبية الفردية كمنافسين جيوسياسيين رئيسين لها، ومن ثم أصبحت القرم هي المصدر العسكري، وتركيا هي المحور، والمضائق التركية هي الإنتاجية الاستراتيجية، والهدف النهائي هو الوصول إلى شرق البحر المتوسط والوجود العسكري فيه كقوة موازية لتوسع الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي شرقاً ووجودهما في بحر إيجة ووسط البحر المتوسط".
تركيا عالقة في الوسط
تركيا كعضو في "الناتو" لديها التزامات تجاه حلفائها الغربيين وتحديداً في ما يتعلق بالأمن، مما يطرح تساؤلاً في شأن موقف أنقرة من ذلك الصراع بين روسيا والغرب، وعما إذا كان فرصة لإصلاح ما فسد مع واشنطن، لا سيما في ظل حاجة أنقرة إلى تحديث أسطولها الجوي المتقادم من طائرات "أف-16" أم أن انجراف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى فلك بوتين سيمتد طويلاً.
يمكن القول إن تركيا عالقة بين رغبتها في مواصلة طموحاتها الإقليمية التي تقلق كلا من واشنطن وموسكو على حد سواء، والتزامات "الناتو"، وحاجتها إلى التقارب مع روسيا حتى وإن كانت تختلف معها في عدد من الملفات على رأسها الملف السوري وناغورنو قره باغ ومشروع قناة إسطنبول الذي أعربت موسكو عن قلقها بشأنه، بالنظر إلى أنه لا يخضع لاتفاقية "مونترو" التي تضع قيوداً على عبور السفن الحربية للدول غير المطلة على البحر الأسود، بما في ذلك الولايات المتحدة وأعضاء حلف شمال الأطلسي.
وفي الوقت نفسه، تسبب شراء تركيا منظومة الدفاع الصاروخي (أس-400) في خلاف عميق مع الولايات المتحدة التي قامت رداً على ذلك باستبعاد تركيا من برنامج طائرات "أف-35" في 2019، وفرضت عقوبات على كيانات تركية بموجب "قانون مكافحة أعداء أميركا من خلال العقوبات". وأخيراً، تعالت الأصوات داخل الكونغرس لرفض طلب أنقرة شراء 40 مقاتلة جديدة من نوع "أف-16".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويقول عمرو الديب، مدير مركز خبراء "رياليست" الروسي، الأستاذ المساعد في معهد العلاقات الدولية في جامعة لوباتشيفسكي الروسية، في حديث مع "اندبندنت عربية"، إن الحيلة الوحيدة لدى تركيا هي "إمكاناتها في عملية اللعب على كل الحبال، فمسألة شرائها منظومة (أس-400) وغضب واشنطن منها أمر يمكن التوصل إلى حل في شأنه، آجلاً أم عاجلاً، بالنظر إلى أهمية تركيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة كحليف ثنائي وحليف داخل حلف الناتو. بالإضافة إلى العلاقة القوية جداً حالياً بين بريطانيا وتركيا التي تلقي بظلال ما على شكل العلاقات الأميركية مع أنقرة وأهميتها".
وعلى الجانب الآخر، يضيف الديب أن "تركيا تمثل لروسيا أهمية بالغة، تتجسد في رغبة موسكو في عدم المواجهة مع أنقرة، إذ ستكلف هذه المواجهة روسيا العديد من الخسائر سواء على مستوى منطقة الشرق الأوسط أو منطقة القوقاز وآسيا الوسطى، لذلك تهتم روسيا بشكل كبير بتقليل فرص المواجهة مع أنقرة".
ويرى مراقبون أنه إدراكاً منها لتفوق روسيا العسكري، تحاول تركيا عدم منافسة موسكو في البحر الأسود، بل البقاء على الحياد الذي سيحافظ على مصالحها. فبحسب توكاس، فإنه بعد الصراع الروسي الجورجي القصير عام 2008، تبنت تركيا موقفاً محايداً وتشاورت مع روسيا قبل التواصل مع "الناتو". وفي 2014، على الرغم من كونها مؤيدة صريحة وحدة أراضي أوكرانيا، فإن تركيا لم تشارك في العقوبات الغربية ضد روسيا بعد ضم شبه جزيرة القرم.
لا تصعيد محتملاً
بالعودة إلى التوترات بين روسيا و"الناتو" في البحر الأسود، فعندما وقعت حادثة المدمرة البريطانية "ديفندر"، في يوليو الماضي، قال بوتين إن الحادثة لم تكن لتثير صراعاً عالمياً حتى لو أغرقت روسيا السفينة، لأن الغرب يعلم أنه لا يمكنه الفوز في مثل هذه الحرب. ما يشير إلى عزم بوتين على زيادة المخاطر في حال وقوع حادثة مماثلة مستقبلاً.
مع ذلك، يستبعد الديب تصاعد التوترات العسكرية بين الولايات المتحدة وروسيا، إذ تعلم الدولتان الخطوط الحمراء المرسومة بينهما، ولا تعتزمان تجاوز هذه الخطوط لأن هذا يعني ارتفاع نسبة فرضية المواجهة المباشرة، وهو أمر غير وارد، في الأقل في الوقت الحالي أو في المستقبل القريب. ويشير إلى زيارة مدير الاستخبارات المركزية الأميركية موسكو، حين التقى سكرتير مجلس الأمن الروسي ومديرة جهاز الاستخبارات الخارجية الروسية، ما يعني أننا بصدد تنسيق على مستويات أمنية عليا بين الدولتين.
ويصف الديب تحركات البحرية الأميركية في المنطقة بأنها "تكتيكية" تهدف إلى خدمة أهداف استراتيجية بعيدة المدى، وذلك بالنظر إلى عدد من العوامل، بينها التوترات المتزايدة في منطقة الصراع في دونباس، الواقعة جنوب شرق أوكرانيا، ومراجعة التعاون الدفاعي الأميركي مع كييف، إذ يتحول مركز الثقل إلى البحر الأسود، وأخيراً، تطوير استراتيجية جديدة لحلف شمال الأطلسي تمنح دوراً خاصاً للبحر الأسود والبحر المتوسط في احتواء روسيا في المستقبل. وفي إطار هذه الحيثيات لن يكون هناك حاجة إلى تلاعب تركي ما.