Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

توثيق أطلال "ملكة الصحراء" بعد قرن من رحيلها

تتبع مصور سعودي آثار المستكشفة الإنجليزية "غيرترود بيل" والرحالة الغربيين في السعودية وقارن لقطات الأمس باليوم

صورة للبريطانية غيرترود بيل وردت في مذكراتها (تخضع لحقوق الملكية الفكرية - كتابة رسائل غيرترود بيل)

على الرغم من تطور الإمكانات في الصحراء العربية خصوصاً الجانب السعودي منها، مقارنة بأجيال مضت، فإن ذلك يزيد أحياناً تتبع آثار من غادروها فيما مضى صعوبة بدلاً من أن يسهله في كل الأحوال، فالعديد من الكثبان الرملية والهضاب والفيافي قبل عقود شمال السعودية ووسطها؛ غدت اليوم مدناً وقرى وطرقاً سيارة.

لكن ذلك بدلاً من أن يوهن عزائم فتيان الصحراء؛ يرفع سقف التحدي لديهم، فهم الذين اكتسبوا من الرمال الذهبية والصخور الصلدة، صلابتها وصبرها على العوادي والمتغيرات.

هذا ما يوحي به المدون السعودي محمد عتيق الرمالي وأنت تسمع آيات الإصرار يتلوها، وقد اتخذ من تعقب مجاهيل الصحراء السعودية نزهةً وشغفاً، تطور إلى معاندة الأثارية والمستكشفة الإنجليزية الشهيرة "غيرترود بيل"، التي يذهب البعض إلى وصفها بالعميلة، والتي أبهرت حتى الجنرالات، ولم يستطع لورانس العرب أن يبلي البلاء الذي سرت بذكره الركبان، إلا بعد أن استعان بعقلها المثير في استقصاء دقائق الحالة العربية، وتلمس الخيوط الرفيعة في كوامن نفوس قبائلها الأبية، وقد لاحظت فيها تبرماً من وطأة الأتراك، مما سهل إطلاق الشرارة، التي أنهت ذلك الحين الهيمنة العثمانية.

لكن بالنسبة إلى المصور، فإنه لا يهتم كثيراً بالمآرب والأفكار السياسية التي تقف خلف الصور التي التقطتها بيل وأمثالها على ثرى السعودية التي تتلمس طريقها نحو التأسيس حينها، وإنما يستهدف توثيق ذلك الكثيب أو الوادي أو الأثر التاريخي، وتلك الجبال والحيوات التي رصدتها عدسة المستكشفة الفضولية، وهي آتية من دمشق في حدود 1913، ليقف في موقفها ويلتقط الصورة من زاويتها نفسها، لدرجة أنه يقول "أحياناً آتي إلى الموقع، وأتأكد منه بعد التحري والتدقيق، ثم بعد أن ألتقط الصورة، يظهر لي أنها مختلفة عن تلك التي وجدتها عند الرحالة، فأفكر وأتأمل سر الفرق، لأجده يكمن في أن الصورة كانت على ظهر بعير، فأضطر إلى الصعود فوق سطح السيارة لأتمكن بصعوبة أحياناً من التقاط الصورة نفسها".

سحر الصحراء لا يقهر

ولدى سؤال المتجول عما دفعه إلى هذا الشغف ابتداء، يضيف "كنت محباً للصحراء، أقضي فيها أياماً وليالي، أجد فيها من المتعة والراحة النفسية ما يصعب وصفه وربما تصديقه، فأتأمل التفاصيل وأدق الفوارق والأسرار، مثل أنواع النباتات، وتعرجات الأودية، وانسجام الآكام والهضاب، والكثبان الرملية وانعكاسها على السماء والشروق والغروب، فوق ناطحات الجبال المتشكلة على هيئة غابة لا تخطئ العين دقة التفاصيل فيها، بما في ذلك النقوش المختلفة، وآثار الحضارات والأمم".

عوامل الصحراء تلك قادته نحو الاستسلام لدهشتها، فصار يحاول استقراء عجائبها، وتوثيق مفارقاتها، لكن ذلك لم يشف غليله بالكلية، فقرر البحث عن روافد أخرى تساعده على اكتشاف المزيد مما أحس به من الجمال، وتمكنه من استنطاق مزيد من المفاتن الخلابة التي شغفته حباً، فطافت به الأفكار إلى كتب المؤرخين من الحقب المختلفة، حتى وجد في الرحالة الغربيين ضالته، نظراً إلى اهتمامهم بتفاصيل التفاصيل، فولد هنالك تتبع آثارهم بشكل عشوائي، إلى أن استقرت الفكرة بتطوير الهواية إلى عمل إبداعي وفني، يمكن أن يصبح فيما بعد كتاباً، فبدأ بتوثيق الرحلات.

ولأن غيرترود بيل كانت بين أشهر الرحالة المستشرقين الذين دونوا جولاتهم في البلدان العربية، حتى لقبت لذلك بـ"ملكة الصحراء"، بدأ الرمالي بمقارنة أوصافها وصورها القديمة بما هي عليه اليوم في رحلتها الشهيرة التي قادتها إلى حائل شمال السعودية، آتية من دمشق، وقد انطلقت منها في 16 ديسمبر (كانون الأول) من عام 1913 بقافلة مكونة من 17 بعيراً محملة بالمؤن. وعلى الرغم من تحذيرات أهل البادية لها، فإن غيرترود لم تخبر السلطات العثمانية والبريطانية عن رحلتها خشية أن تُمنع، كما توثق ترجمة يومياتها التي خرجت في كتاب بالعنوان الذي اشتهرت به "ملكة الصحراء".

لا أثر للتقلب المناخي!

ومن بين الجوانب التي يقول المصور السعودي، الذي أصبح رحالة مع الوقت مثل نظيره إبراهيم السرحان، إنها لفتته اهتمام الغربيين في وقت مبكر بمكونات الطبيعة وانبهارهم الشديد بالمنطقة العربية، خصوصاً الصحراوية على نحو يكاد يصيب المرء بالحيرة، وهم الذين قدموا من بلدان غنية بأجمل الجداول والأنهار والغابات والأمجاد الحضارية، التي جعلت ملايين العالم تزور بلادهم سنوياً، لكنهم على الرغم من ذلك يقفون أمام روعة الصحراء مسحورين مستسلمين.

وعلى المستوى الجغرافي، كان لافتاً إشارة الرجل الاستقصائي، إلى أنه لم يلحظ كثيراً الفوارق الكبيرة المتوقعة بين ماضي المنطقة الذي تم تصويره قبل نحو 100 عام من جانب الرحالة وحاضرها الراهن، على خلاف ما كان متوقعاً منه أو من القراء. ويقول إنه لم يلمس أثر "التقلب المناخي" على النحو الذي يضج به العالم اليوم، فحتى الكثبان الرملية قبل عقود في بعض المناطق السعودية التي صورها، وجدها كما هي من دون أي تغيير مؤثر يخفي معالمها، وكذلك الجبال والهضاب والوديان.

 

وربما يعود ذلك إلى أن المنطقة (شمال غربي السعودية) التي ينشط فيها المصور، ظلت أشبه بالمحمية لعقود بسبب اتساعها، وقلة العمران البشري الحديث في معظم تضاريسها، وصفاء هوائها الذي جعلها محط اهتمام رؤية السعودية 2030 في مثل منطقة "العلا" و"نيوم"، في محيط مناطق "حائل وتبوك والمدينة المنورة"، وهي المناطق التي شهدت سلسلة اكتشافات تاريخية متلاحقة، تعود إلى ملايين السنين، كان آخرها "نقش الجمل" الذي تبين وفق دراسة علماء آثار ألمان وبريطانيين وسعوديين أنها أقدم مما كان متوقعاً وأعرق، إلى حد جعلها تتجاوز "أهرام الجيزة" في مصر العربية، وذلك لأن نحت الجمل الذي وجد على الصخر، يعود إلى ما بين 5200-5600 سنة قبل الميلاد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وبالعودة إلى الرحالة السعودي، فإنه لاحظ تباين المستشرقين الغربيين في أهدافهم، رافضاً أن يكونوا بالإرث الذي تركوا خدموا تاريخ الجزيرة العربية والسعودية، فهو يعتقد أن الذي كتبوه، دافعهم نحوه خدمة أوطانهم وأفكارهم، حتى وإن استفدنا من ذلك فيما بعد. لافتاً إلى أن بعضهم لم تكن لديه أهداف نبيلة، "فتراهم يلمزون السكان ويصفونهم بنعوت تفتقر إلى اللباقة، وتضخيم بعض التجارب التي يتعرضون لها من دون وضعها في سياقها، مثل قول أحدهم إن رجلاً في البادية ضيفهم بسخاء، لكنه وضع في الشاة التي ذبحها الفلفل الشديد الحرارة، فلم يستطيعوا أكلها". واعتبر المستشرق أن ذلك حيلة مقصودة من المضيف، بينما يمكن التماس العذر للرجل لقاء إكرامه إياهم، حسب المدون الرمالي.

"أرض الميعاد"

ولم يكن الرمالي الوحيد الذي ألهمه شغف "ملكة الصحراء" الإنجليزية، فإليها يعيد بعض العراقيين الفضل في ظهور بلادهم بصورتها التي نرى اليوم موحدة الأقاليم، بعد أن كانت ثلاثة أقاليم، هي "البصرة، وبغداد، وكردستان"، مما جعل البعض يسميها "أم العراق"!

وتؤكد المؤرخة والكاتبة العراقية تمارا شلبي المتخصصة في حياة غيرترود بيل، لوكالة الأنباء الفرنسية أن المستشرقة "فعلت الكثير لهذا البلد، ليس فقط كأحد مؤسسيه، بل كانت بشكل من الأشكال والدة العراق"، ولا يزال اسمها مدوناً بين رؤساء متحف بغداد الذي كانت من أسسته، ويقول رئيسه الحالي "لم تُنس بيل أبداً. لقد أسست المتحف العراقي وأسهمت في اللبنة الأولى لعلم الآثار في العراق"، لكن في المقابل يؤكد علي النشمي أستاذ التاريخ في جامعة المستنصرية في بغداد، أن "بيل كانت تخدم مصالح التاج، وليس مصالح العراقيين". وكان فيلم أميركي أنتج 2015 لتسليط الضوء على تاريخ السيدة الإنجليزية، بالعنوان نفسه الذي اشتهرت به "ملكة الصحراء" لكنه لم يلقَ الرواج المنشود.

 

ولع الغربيين بوسط العربية الذي استوقف المصور وأصيب بعدواه، تفسره المؤرخة السعودية، دلال الحربي، بأنه يعود إلى كونها "منطقة مفقودة في المعرفة الغربية، وعالماً يستثير الهمة والتحفيز، ليس لأنه يخفي بقاء أرض لم تكشف من قبل في طلائع الرحلة الأوروبية؛ بل لأنها كانت تشكل إطاراً للعرق العربي بعاداته وتقاليده ولغته... فكانت الرغبة في المعرفة التي أهابت بالغربيين إلى اكتشافها"، مشيرة إلى إطلاق بعضهم أوصافاً تختزل قيمة الرحلة إليها، مثل "أرض الميعاد"، و "الجوهرة غير المكتشفة".

وفي طريقهم إلى أرض الميعاد، يقول المتتبع آثارهم "إن منهم من زارها قبل ابتكار التصوير ومنهم من زارها بعده، كما أن منهم من اعتمد على الرسم لتوثيق المشاهد... ولذلك تتبعت صورهم داخل السعودية لمقارنتها مع صور حديثة من زيارة ميدانية"، في وقت أقر فيه بأن الوصول إلى تلك المواقع كان مختلفاً في صعوبته وسهولته، حسب شهرة المكان وقربه وبعده من العمران.

لكثرة ما حاول تحري التوثيق قال المصور العنيد إنه حرص على التقاط المقارنات ليس من المكان والزاوية فقط كما سبقت الإشارة، ولكن أيضاً "التاريخ، وربما في التوقيت مثل البكور والأصيل لتتشابه الظلال، وربما تحينت نزول الأمطار لتتشابه تجمعات المياه في الصور إن وجدت"، معتقداً أن أحد جوانب القيمة المضافة في العمل الذي يمضي في تنفيذه بعد إصدار المجموعة الأولى منه على مدونته، كشفه عن "معلومات ظاهرة وأخرى في ثنايا تفاصيلها الصغيرة، مما قد يفيد في أمور تاريخية أو اجتماعية أو جيولوجية أو بيئية وغيرها".

تقاطع حضارات

وفي هذا السياق، جاء اهتمام السعودية أخيراً بكشف اللثام عن مكنون المنطقة وما تزخر به من إرث تاريخي لم يعرف من قبل، وأطلقت الرياض بهيئاتها الثقافية برنامجاً طموحاً للاكتشافات والأبحاث الأثرية في شمال غربي البلاد، بدعم من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي لاحظ في أول خروج تلفزيوني له 2016 عدم إعطاء الجانب التاريخي والأثري الأولوية التي يستحقها في بلاده.

 

وقال "كثيرون يربطون تاريخ جزيرة العرب بتاريخ قصير جداً، ويقال عنا هؤلاء تاريخهم فقط 1400 سنة مرتبط بالتاريخ الإسلامي. بلا شك أن التاريخ الإسلامي هو أهم مرتكز ومنطلق لنا، لكن عندنا عمق تاريخي ضخم جداً، ويتقاطع مع الكثير من الحضارات. التاريخ العربي آلاف السنين هو تاريخ الكلمة وتاريخ المبادئ وتاريخ القيم ولا يضاهيه أي تاريخ ولا حضارة في العالم. أفضل حضارة قيم ومبادئ هي الحضارة العربية عمرها آلاف السنين".

وأضاف "كذلك جزء من الحضارات الأوروبية موجودة داخل السعودية، ولها مواقع مهمة داخل المملكة، ولها مكون حضاري، عندنا حضارات مندثرة مهمة جداً، عمرها آلاف السنين. هذا جزء من خليط الحضارات الموجود في المملكة العربية السعودية، يجب أن نستغل هذه الحضارات، ونوظفها بشكل أو آخر".

المزيد من ثقافة