Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

العراق... "دراما" التحولات والمنعطفات طيلة 100 عام

التحدي أمام العراقيين اليوم هو تخليص بلادهم من السيطرة والتدخل الأجنبي والتأسيس لوطن متصالح

عراقيون يشاهدون القوات الأميركية تزيل تمثال الرئيس الراحل صدام حسين في وسط بغداد في أبريل 2003 (أ ب)

العراق كان موطنا لأقدم الحضارات في العالم، توالت على بناء حضاراته قبل آلاف السنين الأقوام "السومرية" و"الأكدية" و"الأشورية" و"البابلية"، وكان يسمى "أرض السواد"، وهو اسم أطلقه الفاتحون المسلمون على الأراضي الزراعية التي تقع على أطراف دجلة والفرات وما بينهما.

العراق فسيفساء الديانات والطوائف والقوميات، ففيه إلى جانب العرب و"الأكراد التركمان"، و"المندائية" و"الأيزيدية"، قوميات أخرى جبلت على العيش المشترك على رقعة جغرافية واحدة.

بعد خسارة الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى قسمت بريطانيا الولايات العربية التي حكمتها الدولة العثمانية إلى دول مستقلة ألغي فيها نظام الخلافة الذي تم تطبيقه في عدد من الدول العربية، ومنع توحدها، كما منع اعتماد الشريعة الإسلامية في نظام الحكم والتشريع.

بعد مؤتمر القاهرة 1920 الذي عقد على إثر "ثورة العشرين" في العراق ضد الاحتلال البريطاني، شكل المجلس التأسيسي الذي أنيطت به مهمة تشكيل حكومة وطنية عراقية انتقالية يرأسها نقيب أشراف بغداد عبد الرحمن الكيلاني، وتم الإجماع على انتخاب ملك يتوج على عرش العراق. على إثر ذلك، تقرر توجيه عرش العراق إلى الأمير فيصل بن شريف مكة الحسين، وفقاً لمطالب الحركة الوطنية وزعماء "ثورة 1920"، وذلك في 21 مارس (آذار) 1921 حين عقد في القاهرة مؤتمر لأقطاب الحكم البريطاني في الشرق، حضره وزير المستعمرات البريطانية ونستون تشرشل.

المملكة العراقية الأولى 1921

برزت هذه الحقبة بزعامة الملك فيصل الأول، ومن بعده الملك غازي الأول، بأنها مرحلة التأسيس والطموح لبناء دولة، عرف خلالها الملك فيصل الأول برجاحة عقله ودبلوماسيته ومرونته في السياسة الداخلية والخارجية بخاصة مع الإنجليز، وتعامل الشعب العراقي مع الملك بالحفاوة والترحاب، لأنه سليل العائلة الهاشمية، وكانوا يعلقون عليه آمالاً كبيرة للتخلص من الانتداب البريطاني، وجرت احتفالات واسعة في تتويجه ملكاً، وحظي بمساندة شعبية كبيرة، واستمر حكمه نحو 12 عاماً للفترة 1921-1933، وكانت سياسته على عكس سياسة الملك غازي الأول 1933-1939 الصارمة.

عارضت وزارة رشيد عالي الكيلاني باشا 1941 الحكم البريطاني، وقد تأثر بها الشارع العراقي عند إسقاط حكومته إبان الحرب العالمية الثانية. وكان ذلك تنفيذاً لاستراتيجية الحرب في العراق والمنطقة العربية.

الحقبة الملكية الثانية، تمثلت في مرحلة استهلال تشكيل وزارة نوري السعيد بعد خروج القوات البريطانية، عقد خلالها السعيد، الذي عرف بحنكته ووطنيته وولائه للحكومة البريطانية، عقد عزمه على تأسيس حلف يضم الوصي على العرش الأمير عبد الإله الهاشمي، وبعض مراكز القوى من الوزراء والشخصيات الذين يمثلون طوائف وأعراقاً مختلفة. وكانت فترة حكم الوصي عبد الإله هي الأطول، وبصمته هي الأعمق في النظام الملكي، فقد أسهمت سياساته الإشكالية كثيراً في إضعاف النظام الملكي، واستمرت سلطته حتى عندما تولى الملك فيصل الثاني الحكم.

كما تميزت هذه الفترة بحركة منخفضة الوتيرة في بناء البلد مقارنة بالحقبة الأولى، وبدا أن هدف الحكم الملكي يتجسد بتنفيذ المصالح البريطانية في المنطقة، والتي جاءت على الضد من مصالح بعض الدول العربية مثل الموقف غير الجاد ضد تأسيس دولة إسرائيل على أرض فلسطين وخسارة الحرب في 1948، والوقوف ضد مصر حين العدوان الثلاثي عليها، وحملة العداء على سوريا، والتوتر مع السعودية.

في يناير (كانون الثاني) 1948 وقعت ما سميت "وثبة بورتسموث" التي قادتها الحركة الوطنية ضد المعاهدة العراقية البريطانية التي أقرتها وزارة صالح جبر وانتهت الـ"وثبة" بإلغاء المعاهدة وسقوط وزارة جبر.

وفي خلاصة لحقبة النظام الملكي، يستنتج المؤرخون من أنه فشل في تحقيق ما أريد منه مثل ترسيخ الديمقراطية البرلمانية كوسيلة لتداول السلطة سلمياً بين الجماعات والقوى العراقية المختلفة، كما لم يستطع إنشاء مؤسسات دستورية قوية تثبت أسس الدولة الحديثة التي تستند إلى مبدأ المواطنة، كما لم يتمكن من مد جذور الثقافة الديمقراطية وثقافة القانون في العراق، فكراً وسلوكاً وممارسة، وأخفق في اقتلاع أسس الثقافة الديكتاتورية المادية والمعنوية القائمة على (الولاء والخضوع والخوف من السلطة وقادتها)، وكان من نتيجته كره الشعب العراقي لنظامه السياسي وسلطاته ومؤسساته بعد انعدام قدرة النظام الملكي في الحد من التدخل العسكري الذي أفضى بالنتيجة إلى خلق ثقافة التآمر وفي معالجة العلل الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي كان المجتمع العراقي يعيش في ظلها.

أهم إنجازات الحقبة الملكية

في العشرينيات، وبسبب ارتفاع مردودات العراق من عائدات النفط أصبحت الحاجة ملحة إلى إنشاء "مجلس الإعمار" الذي نجح في إنشاء مشاريع كبيرة من البنى التحتية ومجالات التعليم والإسكان والمستشفيات والطرق والسدود والمصانع وسكك الحديد وغيرها، إذ تم إنجاز بعض المشاريع في العهد الملكي واستمر بعضها حتى بعد انتهاء الحقبة الملكية.

يتطرق الباحث والأكاديمي أحمد عبد العال إلى هذه الحقبة فيقول، "أعتقد أن المشكلة متوارثة منذ تأسيس العراق الحديث والتركة الثقيلة التي خلفها الاحتلال العثماني الطويل... تركيبة الولايات الثلاث، (بغداد والبصرة والموصل)، هي في حقيقتها تركيبة لثلاث منظومات سوسيولوجية متأثرة بطبيعتها الديموغرافية والمؤثرات العابرة للحدود، ولكل من هذه الولايات طابع اجتماعي مميز وتصنيف مختلف لمفهوم التقليدي واللاتقليدي، كما أن هذه الولايات هي نفسها تنقسم اجتماعياً لمناطق تأثير مختلفة يمكن تصنيفها إلى مدني وريفي، وأفرزت هذه الغزارة في التنوع غزارة مماثلة في السلوكيات وتحديات كبيرة، حاولت المملكة الجديدة إعادة إنتاج العراق التاريخي بدمج هذه الولايات وعانت كثيراً في سبيل إيجاد هوية موحدة وسارت بخطوات كبيرة في الاتجاه لتحديث الدولة العراقية وفتح المدارس لنشر التعليم واستقطاب الكفاءات بصرف النظر عن الانتماء القومي والديني والطائفي".

الإطاحة بالحكم الملكي 

اجتمعت العديد من العوامل منها داخلية وإقليمية واستراتيجية بأن تكون إيذاناً للإطاحة بالحكم الملكي الذي كان يحمل تناقضاً بين نزعته الوطنية من جهة، ومحاباة الحكم البريطاني ذي الهيمنة الكبيرة في العراق من جهة أخرى، ثارت على إثر ذلك مجموعة من ضباط الجيش، دعيت "تنظيم الضباط الوطنيين الأحرار"، وأطاحوا الحكم الملكي في صبيحة 14 يوليو (تموز) 1958، فسميت "ثورة تموز"، وتعد انعطافة مفصلية في التاريخ الحديث للعراق.

فتولى رئاسة الحكومة ووزارة الدفاع والقيادة العامة للقوات المسلحة، العقيد عبد الكريم قاسم، في الوقت الذي تولى منصب نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية آنذاك، عبد السلام محمد عارف، وكان سقوط العهد الملكي لكثيرين من العراقيين نهاية حلم الدولة المدنية الحديثة في العراق، ذلك أن الدولة توجهت في جميع مفاصلها إلى الحكم العسكري لا سيما بعد عام 1968 ليكون حكماً شمولياً، وقد تعرض رئيس الوزراء قاسم لمحاولة اغتيال في "شارع الرشيد" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1959.

النهضة الثقافية والمدنية في العراق

ازدهرت الثقافة والفنون في فترة (نهاية الخمسينيات وبداية الستينيات)، فشهدت تقدماً هائلاً في الأدب والفنون، ترك أبناء جيلها إرثاً من التاريخ الثري للعراق ممزوجاً بأفكار من الحضارة الحديثة، وبرزت قامات كبيرة ومؤثرة في المجتمع، فعلى مستوى الثقافة والفن، أمثال الشعراء بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة، وبلند الحيدري، ومحمد مهدي الجواهري، وعبد الوهاب البياتي، إضافة إلى كتاب مثل ذو النون أيوب، وعبد الملك نوري، وإدموند صبري، وفؤاد التكرلي، وشاكر خصباك. وفي الفنون التشكيلية، نحاتون ورسامون أصبحوا مدارس في الفن مثل جواد سليم، وفائق حسن، ونوري الراوي، وإسماعيل الشيخلي، وطارق مظلوم، فقد استخدموا التراث بطرق إبداعية لتناول مشاكل العصر الحديث. ويبقى نصب الحرية التذكاري لجواد سليم في ساحة التحرير في بغداد من أهم الشواهد الفنية على رغبة العراقيين في الحرية والتقدم.

ويستطرد عبد العال عن هذه الفترة فيقول "ارتبط التطور بالانفتاح على النموذج الغربي في التعليم والفن وأوجه الحضارة المختلفة، وكان مجلس الإعمار وخططه الكبيرة في مرحلة تراكم الثروة النفطية وبلوغ ذروة الإنتاج الزراعي، قلل من حالة المواجهة والتصادم بين قيم الريف والبداوة وقيم المدينة والحواضر العمرانية حتى حين التغيير العسكري العنيف الذي قاده العسكر عام 1958 والذي حمل معه نظاماً اجتماعياً مختلفاً بالكامل أعاد تشكيل الطبقات الاجتماعية، وأعاد توزيع الثروات، وهدم سلطة القبيلة، وهي واحدة من القوى الأساسية المشكلة للعراق الحديث، وحجم القوة الثانية المتمثلة في القوى الدينية التقليدية، وحدث الزلزال الاجتماعي بزوال الحدود الفاصلة بين القرية والمدينة وزوال الجدار الذي يفصل قيمهما المتضاربة والمتصادمة بشدة والممتدة إلى الحدود الزمنية للفتح الإسلامي، وأثر هذا النموذج عميقاً في الوجدان العراقي".

أما أهم الإنجازات الوطنية التي غيرت الوضع الاقتصادي في تلك المرحلة، إصدار قانون الإصلاح الزراعي رقم (30) في عام 1958 الذي اخترق العمق الريفي، وإصدار القانون رقم 80 الذي قلص من نفوذ الشركات الغربية للبترول ووضع اليد على ما يعادل من 99،5 في المئة من الأراضي العراقية التي تحوي آباراً للنفط، وإصدار دستور مؤقت وقانون الأحوال الشخصية الذي أتاح للمرأة العراقية أن تنال بعض حقوقها لأول مرة، وكذلك إلغاء قانون دعاوى العشائر العراقية الصادر من القوات البريطانية لأجل تثبيت العلاقات والعصبيات القبلية وترسيخ علاقات الملكية الكبيرة في العراق.

وعن حيثيات هذه الفترة تقول لاهاي عبد الحسين، الأستاذة في علم الاجتماع، "أسس النظام الملكي لمجتمع البيوتات والتفاوت الطبقي البين بين نخبة صغيرة الحجم من رجال الإقطاع وشيوخ العشائر المتضامنة مع بريطانيا من جهة، والتجار ورجال الجيش المتقدمين في مراتبهم العسكرية من جهة أخرى، مقابل أكثرية فقيرة ومسحوقة من الفلاحين والكسبة وعمال الخدمات".

وتضيف، "لم يبذل النظام الملكي الذي كان مهتماً بتأسيس نفسه من خلال المؤسسات جهداً كافياً لطمأنة الشرائح المتعددة على احتمالات الانعتاق من حالة التفاوت الطبقي والفقر المدقع بخاصة وأن العراق يملك الإمكانات لذلك من خلال ثرواته البشرية والمعدنية والزراعية. لم يتصرف تجاه تجبر رجال الإقطاع ويوقفهم عند حد معين. ما أدى إلى تذمر متنام ألقيت تبعيته على بريطانيا كونها من ساعدت على تأسيس النظام واستمرت بدعمه. لقي التذمر الشعبي صدى واسعاً لدى بعض القوى والأحزاب الوطنية التي تبنت مطالب هؤلاء المسحوقين ووعدت بتغييرها. وقد تميز على هذا الصعيد الحزب الشيوعي العراقي الذي كسب شعبية واسعة، بسبب تفاني أعضائه من الشباب المتعلم في الغالب والمهتم بالثقافة الوطنية العامة، وتوفر قيادات أثبتت حماسها وإخلاصها. هذا إلى جانب أحزاب وطنية أخرى مثلت الطبقات الوسطى وتبنت تطلعات الطبقات الواسعة المتضررة. أسهمت هذه التطورات التي بدت جزءاً من مد وطني كاسح إلى "ثورة 14 يوليو"، عام 1958 بقيادة الضباط الأحرار الذين تقدمهم الزعيم عبد الكريم قاسم. ينظر كثيرون من العراقيين إلى أن قاسم كان مخلصاً ومتفانياً في أهدافه الوطنية، بيد أنه تعرض للخذلان من قبل رفاقه من الضباط الأحرار ممن أظهر بعضهم الرغبة المحمومة للاستيلاء على السلطة تجاوباً مع تدخلات خارجية، كما في مصر جمال عبد الناصر، والتي ساندت معنوياً ومادياً بعض الضباط الطامحين باسم الدعوة لتحقيق الوحدة العربية. الحقيقة أن مصر كانت تروم معالجة مشكلاتها الاقتصادية من خلال الوحدة مع العراق كما تبين في ما بعد. عانى نظام قاسم من هذه التدخلات ما شجع قوى وطنية داخلية على المزيد من التلاعب بالنظام العام من خلال تنفيذ الاغتيالات وإرباك الوضع الأمني مما مهد لانقلاب الثامن من فبراير (شباط) 1963".

"المكارثية"

وتكمل عبد الحسين، "اتسمت هذه الفترة بما اعتبر ما يشبه "المكارثية"، لمطاردة وتصفية الخصوم الشيوعيين حتى سجل التاريخ أنها إحدى أسوأ الفترات التي مر بها العراق الحديث، أعقبت ذلك فترات حكم تراوحت بالاستقرار بيد أنها لم تخل من انعدام الاستقرار والصراعات حتى بسط النظام الاستبدادي سيطرته بعد استيلاء البعثيين على السلطة في 1968 وصار الاستبداد منظماً يمارس من قبل الدولة بصيغة سياسة وبرنامج عمل. لم يلتفت النظام إلى تنبيهات المثقفين العراقيين وفي مقدمهم علي الوردي، عالم الاجتماع العراقي إلى ما سماه "إصلاح ذات البين بين الدولة والمجتمع أو الحكومة والمواطن". طبعاً، تطلب اقتراح الوردي هذا إحداث تغييرات بنيوية في فلسفة وعقلية النظام الذي ظل متمسكاً بما يراه مبتعداً يوماً بعد آخر عن مطالب الناس. فكان أن أسس تنظيمات الحزب التي سماها "جسوراً له" مع المواطن، بيد أنها سرعان ما تحولت إلى محطات تلصص ورقابة ورصد، خنقت كل محاولة للإصلاح. كان طبيعياً والحالة هذه أن يتنامى التذمر والغضب، وفي النهاية الترحيب بكل أنواع التدخل من أجل الخلاص".

وفي الثامن من فبراير، عام 1963 نفذت ما عرف بالقوى القومية بقيادة عبد السلام عارف والبعثيين، انقلاباً، نفذ فيه حكم الإعدام بعبد الكريم قاسم، في محاكمة صورية سريعة، تسلم بعدها عبد السلام عارف السلطة حتى وفاته في 1966 بحادث طائرة غامض، تولى على إثرها شقيقه عبد الرحمن عارف الحكم، وفي 17 يوليو 1968 أطاح حزب البعث بحكم عارف، كما تخلص من بعض قياداته بعد ما يقرب من أسبوعين من ذلك التاريخ.

تولى السلطة حينها الرئيس أحمد حسن البكر واستمر حتى 16 يوليو 1979 حين عزله نائبه صدام حسين، وتولى السلطة بدلاً عنه.

للباحث والأكاديمي عامر الحديثي، رأي يصف فيه فترة السبعينيات بأنها أفضل مرحلة عاشها العراق ويلخصها من 1972 إلى 1979، ويعدها بأنها الفترة الزاهرة، ويقول، "بعد تأميم النفط، اتخذ العراق منحى آخر عندما أصبحت هناك وفرة في المال، واستقر العراق اقتصادياً، وحصلت نهضة على المستويات التعليمية والصحية والاجتماعية وحتى على مستوى العلاقات الخارجية مع أوروبا وآسيا، وأفريقيا، وكان العراق سخياً في دعم بلدان العالم الفقيرة، ففتحت مجالات التعليم والصناعة العسكرية والمدنية وأنشئ معمل بتروكيماويات ضخم أعد لاستخدام المنتجات التي يدخل في صناعتها النفط، وكان أحد موارد زيادة الدخل القومي للبلد، كما حقق العراق طفرة في التعليم ومحو الأمية بنسبة 100 في المئة (منظمة اليونيسكو)، وفي مجال الصحة والزراعة، كل ذلك بفعل الواردات التي حصل عليها بعد تأميم النفط العراقي.

كما يشير أحمد عبد العال إلى عدد من المؤشرات في تغيير قيم وسلوك المجتمع العراقي، ويقول "ذابت، ربما للمرة الأولى، الحدود الفاصلة بين الريف والمدينة، واستمر هذا الذوبان طيلة عقود الستينيات والسبعينيات مع مد وجزر بحسب الجو السياسي العام وسلسلة الانقلابات المستمرة، وعلى الرغم من كل هذا، ظلت الحواضر المدنية هي المهيمنة على السلوك الجمعي، وتحجمت قيم الريف إلى حدود شبيهة بالفلكلور الشعبي، ولطالما ارتبط التطور الحضاري وكذلك النكوص الحضاري بالتحولات، وما أكثرها في العراق من نزاعات داخلية وحروب إقليمية انتزعت زمام المبادرة من النخب المثقفة المؤهلة للتغيير وتحريك المياه الراكدة وإشاعة التنوير مقابل القوى الاجتماعية المنافسة وأدواتها التقليدية في تحشيد الناس وتسييرهم، والهيمنة على تفكيرهم وسلوكهم، والنتيجة دائماً هي في حدوث نقص في الموارد المادية وحدوث تدافع بين أولويات مختلفة، أن تطعم الناس أو أن تشتري لهم كتباً وتفتح لهم مدارس، هذه المفارقة أطبقت على العراق وقمعت كل فرص التطور ونقل المجتمع إلى حالة صحية تنويرية تقضي على الخرافة وتفتح الآفاق تجاه أجيال جديدة تخرج من عنق الزجاجة، ومن قيود هذا الإرث الذي يعيق إنتاج هوية عراقية مدنية متحضرة ومتعافية من أمراض النكوص الاجتماعي والخلل المعرفي باتجاه بناء عقد اجتماعي جديد تفرضه قوى اجتماعية جديدة تمر الآن في مخاض عسير".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سلسلة الحروب

في 22 سبتمبر (أيلول)، 1980 أعلن العراق الحرب على إيران، وقد استمرت الحرب نحو ثماني سنوات، وتوقفت بعد أن أنهكت أطراف النزاع في 20 أغسطس (آب) 1988.

بعد دخول القوات العراقية في الثاني من أغسطس 1990 دولة الكويت واحتلال أراضيها، استمرت الإدانة الدولية لهذا الغزو، غير أن صدام قرر ضم الكويت للعراق، وفي الثامن من أغسطس، بعد يومين من قرار مجلس الأمن، فرضت عقوبات مختلفة على العراق، وبدأت قوات التحالف الدولي لتحرير الكويت عملياتها العسكرية ضد العراق حتى تمكنت من إخراجه من الأراضي الكويتية في 27 فبراير 1991.

اندلعت في مارس 1991 انتفاضة شعبية ضد نظام حكم صدام حسين في مناطق مختلفة من العراق، وقد واجهت السلطة بما تبقى من جيشها الانتفاضة بمنتهى القسوة، وفي سبتمبر 2002 أعلنت الولايات المتحدة أنها عازمة على الحرب على العراق بعد أن فشلت جميع المساعي مع نظام حكم الرئيس صدام حسين، وبدأت الاستعدادات للحرب.

سقوط "الصنم"

تقدمت جيوش الولايات المتحدة من الجنوب والشمال لاحتلال العاصمة العراقية بغداد وتمكنت من دخولها بالكامل في التاسع من أبريل (نيسان) 2003، وأعلن عن انتهاء نظام حكم صدام حسين في 20 مارس 2003.

بدأت الولايات المتحدة الحرب في العراق وعانت البلاد من الفراغ السياسي والأمني والإداري، فانهارت مؤسسات النظام وقواته الأمنية والعسكرية وعمت الفوضى البلاد إلى حين تشكيل مجلس الحكم بإشراف أميركي في 12 يوليو 2003، ليحكم العراق واستمر بعمله حتى نهاية يونيو (حزيران) 2004.

تم تشريع قانون إدارة الدولة العراقية الذي كان أساساً لصياغة دستوره لعام 2005 وإقراره من قبل الشعب في استفتاء شعبي، ليكون النظام اتحادياً تعددياً ديمقراطياً، ونتيجة للظروف والأحداث التي مر بها العراق، فإنها دفعت بمكوناتها بالتحالف بعيداً عما أقرته المؤتمرات السابقة للمعارضة من بناء عراق ديمقراطي مدني تعددي، فتم تأسيس تحالف شيعي وتحالف سني وآخر كردستاني لإدارة الحكم على أساس التوافق والشراكة.

ويلخص المؤرخ العراقي رفعة عبد الرزاق هذه المرحلة، ويقول، "في 14 ديسمبر (كانون الأول) 2003 أعلن عن إلقاء القبض على الرئيس السابق صدام حسين في شمال بغداد، وقد قدم في ما بعد إلى المحاكمة التي أسفرت عن إعدامه يوم 30 ديسمبر 2006، وفي الأول من يونيو 2003 أعلن عن تولي إياد علاوي رئاسة الوزراء، وغازي الياور رئيساً للبلاد، وصوت في 30 يناير 2005 نحو ثمانية ملايين عراقي على مجلس نيابي للبلاد. وأسفر ذلك عن تشكيل حكومة برئاسة إبراهيم الجعفري وتوجيه رئاسة البلاد إلى جلال الطالباني، بينما ازدادت عمليات العنف في العراق في عام 2006 وشهدت البلاد للمرة الأولى صراعاً طائفياً غير مسبوق شاركت فيه مجاميع مسلحة مختلفة، كما قام تنظيم القاعدة بالعديد من العمليات الإرهابية".

تنظيم "داعش"

وأعلن في 10 يونيو 2014عن سقوط الموصل بيد مسلحي "داعش" في عملية عسكرية غامضة انسحب فيها الجيش العراقي وباقي القوى الأمنية من مدينة الموصل، وأعلن في 17 يوليو 2017 رسمياً عن تحرير مدينة الموصل من "داعش" بعد معارك شرسة في شوارع المدينة ومحلاتها، ثم بدأ الحراك المدني والشبابي العراقي بأكبر ثورة ضد الحكم وفساده في أكتوبر 2019، وشهدت مدن العراق المختلفة معارك بين المحتجين وقوى الأمن أسفرت عن سقوط مئات الضحايا بين قتيل وجريح .

وعن هذه المرحلة يقول صائب غازي، وهو مخرج تلفزيوني، "لا بد من التركيز على الطابع الاجتماعي الذي أفرزته (مرحلة ما يسمى بالديمقراطية) التي عشناها بكامل تفصيلاتها وقسوتها ومرارتها، والتي حملت معها حقيقة أننا لا نمثل شعباً واحداً ولسنا نسيجاً واحداً، واكتشفنا أننا لا نقبل الآخر وأن شعارات التعايش السلمي والأخوة أثبتت للأسف أنها مجرد شعارات، وكان خير من أرخ لشخصية الفرد العراقي وللمراحل التي مر بها العراق هو الدكتور والباحث في علم الاجتماع علي الوردي، وقد أثبت أن لدينا مشكلة تتلخص في عدم تقبل أحدنا للآخر".

قرن كامل من الأحداث والمنعطفات

وعن أهم المنعطفات التي مر بها العراق خلال قرن من الزمن تقول لاهاي عبد الحسين، "هناك أكثر من منعطف مر على العراق. لعل أولها أحداث ما اصطلح عليه بثورة العشرين التي أظهرت عدم رضا العشائر ورجالاتها بالسيطرة العسكرية الاستعمارية المباشرة للإنجليز. ثم كانت هناك ثورة 14 يوليو 1958 التي قلبت الأوضاع، وأعقبتها الانقلابات العسكرية التي قادت إلى مجيء البعثيين وسيطرتهم على السلطة لما يقرب من 40 عاماً، لا شك أن الحرب العراقية الإيرانية (1980-1988) كانت من المنعطفات المهمة التي أحدثت تأثيرات سلبية في بنية المجتمع العراقي، ولم تكن حرب الكويت أقل منها خطورة، حيث تعرض العراق لحرب مباشرة، ومن ثم حرب استنزاف من خلال فرض الحصار الاقتصادي، بما اشتمل عليه من حصارات أخرى أضرت بالعراق قيمياً وأخلاقياً ومادياً ووطنياً. لا أحد يستطيع التغاضي عما أحدثه الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 الذي ساعد على تأسيس نظام مذهبي عرقي انحدر بالمجتمع العراقي إلى جماعاتية متخاصمة، وأثبت الأميركيون قصر نظرهم وقلة صبرهم كما يفعلون دائماً مما أنعش المواقف السلبية منهم وعدم تصديق الناس لوعودهم بتأسيس النظام الديمقراطي التعددي الحديث".

التحدي اليوم أمام العراقيين ليخلصوا بلدهم من السيطرة والتدخل الأجنبي، ويؤسسوا لعراق متصالح، وإلا فإن المخاطر تنذر بالكثير.

المزيد من تحقيقات ومطولات