الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يلعب كل أوراقه على الوجهين. يستقبل رئيس النظام السوري بشار الأسد في الليل، ثم يدخل في "حجر صحي" بعد وصول كورونا إلى معاونيه. ويهاجم الوجود العسكري الأميركي في سوريا، ثم يفتح الطريق لحوار روسي - أميركي حول سوريا. لكن همه المباشر هو تكبير الدور السياسي الروسي بعد الدور العسكري في سوريا، ودفع أدوار الآخرين إلى "حجر جيوسياسي". ففي كتاب "الطريق إلى اللاحرية: روسيا، أوروبا، وأميركا"، يقول المؤلف تيموثي سنايدر، إن سقوط "الحتمية التاريخية" فتح الباب أمام بوتين وسياسة "الأبدية" حيث الدول اللاليبرالية تعيش على "صنع الأعداء وتجميع المظالم والتلاعب بالحقائق". وهذا ما بدا واضحاً في اللقاء مع الأسد. فمن جهة، يقول إن مشكلة سوريا اليوم هي "وجود القوات الأجنبية" والمقصود القوات الأميركية التي ينسق معها وتعارضها دمشق والقوات التركية "المحتلة" النظام والشريكة مع روسيا وإيران في "منصة أستانا" و"منصة سوتشي"، ومن جهة أخرى يعرف أن المشكلة الحقيقية هي الفشل في صنع تسوية سياسية للأزمة السورية عبر"منصة جنيف". وهو فشل يلوم الروس أميركا وأوروبا ودمشق على التسبب به، وتضع سوريا المسؤولية على أميركا وأوروبا وتركيا والعرب، ويعترف الأسد أمام بوتين بأن "العملية السياسية متوقعة منذ ثلاث سنوات".
اللعب المعقد
وأصعب التحديات أمام روسيا، بعد اللعب المعقد مع أميركا، هو توازن اللعب مع إسرائيل وتركيا وإيران: ففي اللقاء الأخير بين وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الإسرائيلي يائير لبيد، كرر لافروف الموقف الروسي الدقيق: "الوضع في سوريا لا يزال معقداً، وكثرة اللاعبين تضيف إليه تعقيدات. روسيا لا تقبل أن تستخدم الأراضي السورية كمنصة لتهديد أمن إسرائيل الذي هو من أهم الأولويات بالنسبة إلينا، وتعارض تحويل سوريا إلى حلبة صراع بين دول أخرى". سطر ضد أي تهديد إيراني لإسرائيل في سوريا. وسطر ضد الغارات الإسرائيلية على قوات إيرانية في سوريا. والمقصود طبعاً الغارات التي تتجاوز التفاهم الروسي - الإسرائيلي. وفي اللعبة مع تركيا التي تحتل مساحات في شمال سوريا، شيء من الشراكة والتعاون والدوريات المشتركة، وشيء من الانتقاد للتقصير في احتواء "المتطرفين" الإرهابيين، وسط الخلاف على الموقف من القوات الكردية. أما اللعبة مع إيران، فإنها بالغة التعقيد: من جهة، تحتاج موسكو إلى قواتها وإلى التنظيمات المرتبطة بالحرس الثوري وفي طليعتها بعض "الحشد الشعبي" العراقي ولواء "فاطميون" الأفغاني و"حزب الله" اللبناني للعمل على الأرض. ومن جهة أخرى تريد "تقزيم" النفوذ الإيراني المتعاظم داخل السلطة وفي المجتمع وعلى الأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إعادة الإعمار
لكن البراعة في اللعب على طريقة "الأكروبات" ليست ضماناً لتحقيق كل شيء في الأهداف الاستراتيجية والجيوسياسية. فما حققته موسكو من مكاسب عسكرية في سوريا وأدوار إقليمية ودولية من خلال التدخل العسكري فيها، يحتاج إلى تسوية سياسية لكي يكتمل ويتم توظيفه جيداً. ولن يكتمل من دون تفاهم مع أميركا وأوروبا والدول العربية على إعادة الإعمار. ولا إعادة إعمار من دون تسوية سياسية. وما نجحت فيه من تثبيت النظام السوري بالقوة وإلحاق الهزيمة بالمعارضة "المتطرفة" وإضعاف المعارضة "المعتدلة" التي صارت رهينة دول عدة، يبقى ناقصاً من دون معالجة الأزمة الأساسية التي قادت إلى الحرب وحلها بالمشاركة والانتقال الديمقراطي للسلطة بحسب القرار 2254.
لكن التسوية التي كانت صعبة في بدايات الحرب صارت أصعب بكثير اليوم. حتى البحث في دستور جديد بقي في الشكل. ولم يكن أمام الموفد الدولي غير بيدرسون الذي تعب من الدوران في العواصم، سوى إبلاغ مجلس الأمن أن المطلوب هو "مزيد من الدبلوماسية الدولية وشكل دولي جديد لفتح باب التقدم في التسوية خطوة خطوة". ومن السهل انتقاد أميركا وإنكار دورها في الحرب على "داعش"، وحتى الادعاء بأنها هي التي خلقت التنظيم الإرهابي. غير أنه من الصعب الهرب من الواقع: سوريا بائسة ومحكومة من خمسة جيوش في حرب صارت لا تنتهي ولا يمكن إكمالها، وتسوية لم تبدأ بعد عشر سنوات من القتال.