قد تكون معلومة أن الطاقة التصميمية القصوى لقدرة سد النهضة على التخزين، البالغة 74 مليار متر مكعب، تعادل بالضبط، إجمالي حصتَي مصر والسودان من مياه النيل المنصوص عليها في اتفاقية عام 1959، بواقع 18.5 مليار متر مكعب للسودان و55.5 مليار متر مكعب لمصر، أمر غير جديد أو مسألة مرت على كثيرين من دون التوقف عندها أو محاولة البحث في ما وراء هذا التطابق، وهل هو فعلاً محض صدفة، أم مجرد مفارقة جرت بها الأرقام؟ أو أنه أمر مقصود ومدروس منذ البداية، وما الأبعاد والرسالة التي ينطوي عليها، وماذا يستبطن من دلالات ومعانٍ؟
توجهت "اندبندنت عربية"، بتلك الأسئلة والاستفهامات إلى مسؤولين وباحثين ومراقبين وأكاديميين، للاستيضاح والاطلاع على ما يرونه خلف حقيقة تطابق سعة السد التخزينية وإجمالي حصتَي مصر والسودان بحسب اتفاقية قسمة مياه النيل في عام 1959.
قصد وإشارات ورسائل
يعتبر الدكتور أحمد المفتي، الباحث في مجال اتفاقيات المياه الدولية، العضو السابق في وفد التفاوض السوداني في محادثات حول سد النهضة، أن "تطابق طاقة تخزين السد مع حصتي مصر والسودان من المياه، ليس وليد الصدفة بل صُمم كأمر متعمد ومقصود في حد ذاته، وهو بمثابة قنبلة مائية موقوتة تستخدمها إثيوبيا كورقة ضغط سياسي لتنفيذ مآربها وأهدافها متى أرادت، ما يجعل كل مياه النيل الأزرق تحت تحكمها الكامل، ويضع السودان تحت رحمتها بسبب ضعف السعة التخزينية لسدوده". وأضاف المفتي، "لذلك كنا نرى أن على السودان ومصر الاعتراض على إنشاء السد منذ لحظة الإعلان عن بنائه في عام 2011، وألا يتم تشييده إلا وفق الشروط التي يحددانها، لكنهما للأسف لم يفعلا، بل تنازلا عن حقوقهما المائية ومنحا أديس أبابا الضوء الأخضر لبناء السد، فتمكن الجانب الإثيوبي من خلال المفاوضات من تأمين موقفه تماماً، بحيث بات من الصعب تلافي الأمر الواقع".
أما كبير المفاوضين السودانيين، المهندس مصطفى حسين فرأى أن "السعة المعلَنة للسد، ربما تكون محمّلة بإشارات من الطرف الإثيوبي مفادها أنهم سيتمكنون من تخزين ما يعادل مقدار حصتَي السودان ومصر في سد واحد، لكنها تلميحات قد تعكس فقط مدلولاً نفسياً للعامة من الناس لا أكثر، أما إذا كان الفهم أو القصد هو حجز حصتي البلدين من المياه فهذا غير ممكن عملياً". ونوه حسين بأن "أي تخزين متفق عليه لا ينقص من حصص السودان ومصر، وأن كميات الملء السنوية، هي خصم من الوارد السنوي للدولتين ولا علاقة لها بالحصص المنصوص عليها في اتفاقية 1959".
في السياق، رجح عضو الهيئة الفنية المشتركة الدائمة لمياه النيل، المهندس محمد مصطفى عباس، أن يكون "تطابق سعة السد مع الحصص، ينطوي على رسالة سياسية قصدتها إثيوبيا دون أن تفصح عنها".
هكذا تطورت الفكرة والسعة
وكشف عباس عن بعض مراحل وتاريخ تطور سعة سد النهضة، مبيناً أن "قرار إنشاء السد اتُخذ منذ عام 1964 كسد حدودي بسعة 12 مليار متر مكعب فقط، اطلع بدراساته معهد أميركي متخصص وهو بحجمه وقتذاك أكبر من سد الروصيرص السوداني. إلا أنه وفي نهاية عام 2010 ومطلع عام 2011، وفي عهد رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ملس زيناوي، ظهر إلى السطح هذه المرة، مشروع بسعة جديدة أُعلن عنها في البدء بمقدار 64 مليار متر مكعب تحت مسمى "سد الألفية"، ثم ظهرت لاحقاً السعة الجديدة لما سُمي بـ"سد نهضة إثيوبيا العظيم" والمعروف الآن اختصاراً بسد النهضة، وبلغت 74 مليار متر مكعب".
وزاد عضو الهيئة المشتركة لمياه النيل، وهي الآلية المنصوص عليها في اتفاقية عام 1959، أن "الاتفاقية تتحدث فقط عن قسمة كميات المياه الداخلة إلى حدود السودان، وذلك على أساس احتساب تقديرات متوسط وارد المياه لمئة عام، قُدرت وقتها بحوالى 84 مليار متر مكعب، وبعد خصم تم تقديره بـ10 مليارات متر مكعب كفاقد في عمليات التبخر والتشرب الجوفي، ليصبح إجمالي الكمية الواردة 74 مليار متر مكعب، هي التي اتفق على قسمتها بين البلدين".
أما في حال حدوث أي نقص في كميات المياه الواردة لأي من الأسباب، بحسب مصطفى، "فيتم تحمل النقص مناصفة وبالتساوي من حصص البلدين وفق الاتفاقية، وفي كل الأحوال فإن الاتفاقية تضم آلية لمعالجة النقص وكيفية التعامل معه بالخصم مناصفةً بين الطرفين".
قرار سياسي
من جانبه، اعتبر عثمان التوم، وزير الري الأسبق، عضو وفد التفاوض السابق عن الجانب السوداني، أن "قرار قيام السد بالأساس تم بناءً على قرار سياسي، من دون الإفصاح عما وراء السعة التخزينية المحددة أو مبررات اختيار حجم التخزين". وأضاف التوم، "لا يمكنني الجزم بما وراء التطابق في الأرقام بين سعة السد التصميمية وحصتي السودان ومصر، وما إذا كان الأمر جاء صدفةً أم عمداً، لكن المعلوم أنه لكي تصل إثيوبيا إلى مستوى الطاقة القصوى للتخزين، فالمطلوب منها الوصول بارتفاع ممر السد إلى 640 متراً فوق سطح البحر، وهو ارتفاع كبير".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح الوزير السوداني الأسبق، أن "اتفاقية قسمة مياه النيل لعام 1959 شأن يخص دولتَي مصر والسودان، وبالتالي لا علاقة لإثيوبيا بها وليس لها حق التحدث عنها نهائياً، بوصفها اتفاقية ثنائية تخص الدولتين الموقعتَين عليها، كما أنها تتحدث فقط عن قسمة المياه التي تدخل الحدود السودانية وتصل إلى مدينة أسوان المصرية على وجه التحديد، ولا علاقة لها أيضاً بكميات المياه الواردة من بحيرتَي فكتوريا أو تانا، على الرغم من أن أغلب حصتَي مصر والسودان من المياه وليس كلها، تأتي من النيل الأزرق".
وأرجع المفاوض السوداني السابق، دوافع مطالبة إثيوبيا المتكررة لكل من السودان ومصر بالتوقيع على "اتفاقية عنتيبي"، لعلمها بأن ذلك سيلغي ويجُب تلقائياً اتفاقية 1959، وتنتهي بذلك الحصص التاريخية للدولتين بفتح الباب أمام إعادة تقسيمها من جديد، فضلاً عن كونها الاتفاقية الوحيدة في مجال المياه التي لا تُتخَذ فيها القرارات فيها بالإجماع أو التوافق بل بالتصويت، وذلك ليس في مصلحة أي من السودان ومصر بالنظر إلى مواقف وعدد الدول المشاركة".
هل من دلالات ونوايا؟
على صعيد متصل، قال أستاذ العلاقات الدولية والتحليل السياسي بالجامعات السودانية، بروفيسور عبد الرحمن أبوخريس، إن "تساوي سعة السد مع حصتي السودان ومصر تحمل دلالات ومعاني سياسية وإعلامية بعيدة المدى، كما تعكس أيضاً طبيعة النوايا والأغراض الإثيوبية الخفية وراء إنشاء السد، كونه سداً ذا أهداف سياسية بالدرجة الأولى وليس تنموياً فحسب".
وعبر أبو خريس عن اعتقاده أن "المشروع غير بعيد تاريخياً عن الصراع العربي - الإسرائيلي التي ظلت خلاله إسرائيل تشجع إثيوبيا على مثل تلك المشروعات التي تؤثر على البيئة والاقتصاد، دعماً لدورها وتأثيرها المستقبلي في صناعة القرار السياسي والتأثير عليه والتهيؤ لفترة مقبلة منتظرة عنوانها تسليع المياه". وأضاف "أعتقد أن سداً بهذا الحجم سيكون تأثيره وخيماً على السودان، الواقع بين فكي أكبر كثافتين سكانيتين في إثيوبيا ومصر، فضلاً عن أضخم سدين في كل المنطقة، هما السد العالي وسد النهضة، ما يحتم عليه التفكير مبكراً في تحرير اقتصاده واستثماراته من أي ضغوط أو شروط مستقبلية قد يفرضها سد النهضة، وذلك بتوسيع مواعينه المائية لتستوعب حصته من المياه".
وأردف أبو خريس أن "سعة السد المعلنة بهذا الحجم وبالصورة التي حُددت بها وما تستبطنه من نوايا تجعل من السد عند اكتماله، تهديداً استراتيجياً وسلاحاً مشهراً في وجه السودان، من شأنه أن يرجح ميزان القوى لصالح الطرف الإثيوبي في حال نشوب أي أزمات مستقبلية بين البلدين".
النوايا الخفية وأوراق الضغط
"هذا الغموض والتعنت الذي يتدثر خلفه الموقف الإثيوبي" وفق أبوخريس، "يشكل امتداداً للنوايا الإثيوبية المخفية في سعة السد الضخمة التي تشكل أيضاً إحدى أوراق الضغط على الأطراف الأخرى، ما منح الطرف الإثيوبي ميزة تفضيلية في المفاوضات ورفع سقفها بالمطالبة بإنهاء اتفاقية 1959 وفتح الباب أمام توزيع جديد لحصص المياه".
كما أن الإصرار الإثيوبي على حجب المعلومات الفنية في الملء الأول والثاني وإتمامهما بإرادتها المنفردة، بحسب أستاذ العلاقات الدولية، "يعزز الشكوك في النوايا الإثيوبية تجاه عزمها على التحكم الكامل في إدارة السد وتصرفاته المائية من دون اعتبار الأطراف الأخرى، ما يعيق تشغيل السدود والخزانات السودانية ويضعف بدوره قدرة البلاد على الاستفادة المثلى منها، ويؤثر بدوره على كل الخطط التنموية في بلد زراعي بالدرجة الأولى".
حرص وتمسك إثيوبي
في المقابل، ظلت وزارة الخارجية الإثيوبية، تكرر تأكيد حرصها على الوصول إلى اتفاق مرضٍ لكل الأطراف، من دون الإضرار بمصالح الآخرين، وتعلن في ذات الوقت رفضها القاطع لاتفاقية تقاسم مياه النيل لعام 1959، وتعتبر أنه ليس من العدل تخصيص حصص مياه محددة لمصر والسودان.
وتتمسك إثيوبيا برفض المقترح السوداني - المصري بتوسيع الوساطة لتصبح رباعية بضم الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والأمم المتحدة، وتشدد على تمسكها بالوساطة الأفريقية دون غيرها، داعيةً إلى احترامها ومنحها الفرصة للنجاح.
ومن دون التوصل إلى اتفاق بين الأطراف الثلاثة، بدأت إثيوبيا ملء بحيرة السد لعامين متتاليين، متجاهلة مطالب الخرطوم والقاهرة بالتوصل إلى اتفاق لضمان عدم التأثير سلباً على حصتهما السنوية من المياه، وسلامة منشآت السودان المائية.
مجلس الأمن واتهامات سودانية
وفي أحدث تطور اعتمد مجلس الأمن الدولي في 15 سبتمبر (أيلول) الحالي، بتوافق كل أعضائه، بياناً رئاسياً حض فيه الأطراف الثلاثة على استئناف المفاوضات تحت مظلة الاتحاد الأفريقي، من أجل الوصول إلى اتفاق مقبول وملزم حول ملء وتشغيل سد النهضة، مع طلب إحاطة المجلس علماً بإعلان المبادئ الموقع في الخرطوم عام 2015.
وفي معرض ترحيبها بإحالة مجلس الأمن، الأمر إلى المفاوضات الثلاثية بقيادة الاتحاد الأفريقي، أعربت الخارجية الإثيوبية في بيان عن أسفها لإعلان المجلس موقفه بشأن قضية تتعلق بالحق في المياه والتنمية، كونها خارج نطاق ولايته.
وفي المنحى ذاته، اتهم السودان إثيوبيا بتقديم معلومات غير دقيقة أو غير مكتملة حول ملء السد في يونيو (حزيران) الماضي. واحتج وزير الري والموارد المائية السوداني، ياسر عباس، في خطاب إلى نظيره الإثيوبي سيلشي بيكلي، الثلاثاء، على تزويد السودان بمعلومات وبيانات فنية غير دقيقة وناقصة، معتبراً أن ذلك يخالف المبادئ الأساسية للقانون الدولي.
وشرح عباس في خطابه، الذي أرسل نسخة منه إلى رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، الأضرار التي لحقت بالسودان نتيجة تلك المعلومات المغلوطة، مجدداً دعوة نظيره الإثيوبي إلى قبول الوساطة المعززة بقيادة الاتحاد الأفريقي لمساعدة الأطراف على التوصل إلى اتفاق مرض بشأن السد.
ومنذ بدء إثيوبيا العمل في السد في عام 2011، تخوض مع مصر والسودان مفاوضات متعثرة تحت رعاية الاتحاد الأفريقي استمرت أكثر من 10 سنوات، وسط اتهامات متبادلة بالتعنت، أخفقت حتى الآن في الوصول إلى الاتفاق المنشود.