Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

خالدة سعيد تمضي في تجربة الإبداع النقدي سردا وشعرا

دراسات  في حقول أدبية ضمها كتابها الجديد "رؤى وروايات"

الكاتبة والناقدة خالدة سعيد (دارالتكوين)

تعود الكاتبة والناقدة خالدة سعيد إلى قرائها بكتاب جديد، هذه المرة، وهو كناية عن أبحاث نقدية في السرد الروائي، بغالبية النصوص العظمى، وفي الشعر بنص نقدي يتيم عن شعر أمجد ناصر. الكتاب صدر عن دار التكوين (دمشق) هذا العام 2021، وينطوي على ست دراسات في السرد الروائي، ودراسة واحدة في الشعر، ومثلها دراسة في السينما باعتبارها رواية.

أحسب أن الناقدة خالدة سعيد، التي رافقت انطلاقة حركة الشعر الحديث، منذ الخمسينيات من القرن العشرين، واستحقت بمتابعتها الدقيقة وحسها النقدي، وقدرتها على استيعاب المفاهيم النقدية الأحدث، والنفاذ بها إلى صميم العمل الأدبي من ظواهره، أن تدعى "أيقونة النقد العربي الحديث"، أحسبها لا تزال تحمل شعلتها النقدية، وتواصل مهمة عزيزة على الشعر والرواية والقصة، والمسرح والسينما، عنيت تلقي إبداعات الأدباء العرب "تلقياً إيجابياً وقراءتها قراءةً فاهمة وبناء على معايير جمالية جديدة، بغية إدخال هذا الأدب في مسرى التجربة الأدبية الكبرى، حيث الأفق لا يني يتبدل ويتعدل، على مر الزمن"، على حد قول هانس روبيرت جوس.

رواية "البشموري"

في المبحث الأول الذي خصته خالدة سعيد بكتاب "رؤى وروايات" بصيغة عنوانه الجناسية، تعالج الكاتبة في رواية سلوى بكر، بعنوان "البشموري"، الصادرة عن دار الهلال في القاهرة عام 1998، مسألتي الخطيئة من منظار الشخصية الرئيسية بدير، والانفتاح على الأديان باعتبارها مصادر إيمانية متقاربة ومتكاملة. ولمن لم يعرف الرواية أو يقرأ شيئاً عنها، توجز الكلام على حبكتها بالقول، إن الرواية وإن اتخذت من التاريخ العباسي إطاراً زمنياً لها، فإن الروائية المصرية حشدت لها كثيراً من المعارف والمرجعيات، وجعلت البيئة المصرية عهدئذ مجالاً لموجات من الصراعات المتتالية، كان بدير في خضمها، وخضع فيها لتحولات شتى؛ فمن كونه تلميذاً مبتدئاً في أحد الأديرة المسيحية من أجل أن يكون راهباً، ثم إرساله مع الأب ثاونا مترجماً ودليلاً للثوار الأقباط، واختباره مرارات أول خطيئة ارتكبها من منظوره الإيماني إذ خبر تجربة العشق وخيانته مبدأ العفة لدى الرهبان، فإلى تجربته الفيتاغورية، ثم إلى تجربة وقوعه في الأسر بعد إهماد الجيش الجديد للدولة الإسلامية ثورة الأقباط، وتحوله أخيراً إلى الإسلام. وكما يتضح من سياق الرواية، ومما بينته الكاتبة خالدة سعيد عنها، واصفة إياها بالملحمة الضاجة بكل أصناف الطقوس، والعادات، والأدوات، والحكايات، وأنماط العيش، ويقظة موازين ومعايير للحق والباطل.

ومن الأمور المهمة التي تلح الكاتبة سعيد على تسجيلها في عمل البشموري، هو رسالة التوافق والتكامل الضمني، ما بين القبطية والمسيحية، وبين الأخيرة والمعتقدات الفرعونية، بدليل مباركة الأب ثاونا لبدير لما أتاه مسلماً. إضافة إلى تسجيلها هذا الاختلاط غير النافر بين الحميمي والملحمي، بين السرد والمناجاة، وبين انفتاح المكنون وانتشار المضمر.

 ثلاثية يوسف حبشي الأشقر

في المبحث الثاني، وهو الأوسع والأهم تعالج الناقدة خالدة سعيد ثلاثية يوسف حبشي الأشقر، المتمثلة في روايات: "أربعة أفراس حمر"، و"لا تنبت جذور في السماء"، و"الظل والصدى"، والتي توالى صدورها بين 1964 و1989، وتنظر في شخصيات الرواية الأولى، لا سيما شخصية "إسكندر" المتنازلة عن كل ما يعطي الحياة معنى في نظره. ومن هوة هذا التنازل سوف يصعد درجة درجة عبر بوابة الحب"، في التوازي، تتقاطع مصائر الشخصيات الأخرى، من مثل أنسي، صديقه الحميم، ومارت، وميرا، ومونا، بحثاً عن المعنى الغائب، وفق ما أوردته الباحثة خالدة سعيد. وفي استنطاقها الأمكنة والأزمنة في فصول الرواية الأولى، بناء على رؤيتها النقدية الشكلانية، تكتشف أن ثمة ازدواجية بين الأمكنة والأزمنة المستحضرة في كل منها؛ وتجد أن في مقابل كل واقعة أو حدث مروي في الفصل حدثاً مستحضراً من الماضي، عبر الذاكرة. أما الجديد في المبحث فهو أن الكاتبة الناقدة لا تتوانى عن إيراد الجداول ذات الخانات الأربع للدلالة على مضامين وقائع الفصول الأربعة والعشرين، في الرواية ("لا تنبت جذور في السماء") بالتوازي مع وقائع الماضي المتعالقة معها، تأكيداً للصدقية في الوصف، والموضوعية في الحكم على العمل الروائي الموصوف، ودليلاً إضافياً على نهجها الموضوعي والمبسط، على تعقيد منطلقاته. إلى أن تبلغ استخلاصاً حول اتجاه الرواية الفكري، النفسي، وحول البؤرة التي ينطلق منها الروائي في مقاربة شخصياته وأفعالهم، وهي "أن الطفل هو أبو الرجل" بحسب فرويد، وأن تعليل تصرفات الشخصية يستوجب النظر في ماضيه وطفولته، وأن المكان المثالي، والزمان الممتلئ قيماً وحباً إنما كان في الماضي.

إلى تلك الكشوف البينة في ثلاثية يوسف حبشي الأشقر، ثمة ركون إلى معايير مستمدة من فلسفة هيدغر الوجودية: مثل "هنا والآن"، و"هناك، الأمس"، مما تندرج الرواية الفكرية أو الموضوعاتية في عداده.

ليانة بدر والياس خوري

وفي مبحثها الرابع بعنوان "الإيقاع والفيض في نجوم أريحا" للروائية الفلسطينية ليانة بدر تدون الكاتبة سعيد، وبإعجاب، سعي الروائية إلى إحياء معالم مدينتها، والبشر فيها، ومعالمها الطبيعية العريقة، والنساء الباقيات فيها، والناسجات ثوب البقاء الجميل، واضعة جانباً خيوط الحبكة القصصية وتظهير الدراما في مصائر الشخصيات ومسرح الأحداث. وإذ تُسائل الكاتبة خالدة سعيد نفسها عن المانع الذي حال دون استخدام الروائية خبر سفينة الأمل، التي ضمت أشخاصاً فلسطينيين كانوا ينوون السفر إلى حيفا واستفقادها من بعيد لو لم تنسف، تجيب بأن الروائية ليانة بدر قصدت الكتابة عن حيفا باعتبارها "كائناً حياً، نابضاً بالحكايات والبساتين والساحات، وتتنفس بالقصص والأصوات، وتحفل بأخبار الحب والشقاوة والعراك وقصص السحر والجيران، ونضال معلمة يخيب في تحقيق التطوير".

في المبحثين الخامس والسادس، اللذين تخصهما الناقدة خالدة سعيد بالروائي إلياس الخوري، تعالج على التوالي طريقته في بناء عالم رواية "غاندي الصغير"، فيتبين لها أن الروائي لم يبن عالماً جاهزاً، أو حبكة ذات خط متتابع، وإنما يرسم جدارية (فريسك) تفرش فيه الحالات وملامح الشخصيات، فينفذ منها القارئ إلى العالم السفلي "من ثقب في فندق مهجور للمومسات المتقاعدات"، ويرى إلى شخصيات ذوات أصول مبتورة، مثل شخصية غاندي الصغير، ومصائر متشظية، وأدوار مناقضة لطبيعة تكوينها (الضابط الهارب من الخدمة، والكاهن المخاتل في أصوله، والأميرة الروسية الفقيرة حتى العوز، وغيرها من الشخصيات المهمشة، أو التي أسهم النظام في تهميشها. ولكن الأهم، في نظر الناقدة هو قدرة الروائي الخوري على المواءمة بين العالم الواقعي عبر الإشارات المرجعية إلى أماكن بعينها (الأشرفية، السيوفي، الهوليداي-إن، ومعركة صنين، ومعركة باب إدريس، الانعزاليون، الخ)، وبين الطابع الأسطوري، بل الصقالة الأسطورية التي يثبتها الروائي على امتداد الرواية، وقد تشكلت من قصص وحكايات رمزية، من مثل قصة الريسة الطالعة من البحر، وولاية جدة القسيس أمين، وحكاية مهران التركي عن بيروت، وقصة أحمد السبك الرمزية، وهتاف المآذن، وغيرها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

قد لا يكون ثمة إمكانية لاستعراض مجمل الأبحاث في المقالة، لا سيما دراستها لأحد أعمال الطيب صالح، تحت عنوان: "العمق الأسطوري في عرس الزين"، وهي استجلاء كل الدلالات التي توفرها شخصية "الزين" الرئيسة، والتعرف إلى ملامح الخارق فيها، وتجاوزها الحواجز الطبقية والاجتماعية، ونقضها المعايير الأخلاقية القائمة.

 ومثل ذلك القول في البحث الأخير حول "طوق الحمامة المفقود" أو السينما كرواية شعرية. إنما الأهم من هذا العرض هو الإشارة إلى المنهج النقدي الصارم والدقيق والمنفتح على كل إمكانيات التأويل في إزاء العمل الروائي، والعمل الفني، والذي تستعيده الباحثة خالدة سعيد، بألقه السالف، وبأسلوبها الاختزالي الذي تستمد كثافته وعمقه ونفاذه من الشعر.

للكاتبة الباحثة خالدة سعيد، الكثير من الأعمال النقدية المضيئة، من مثل: البحث عن الجذور (1960)، حركية الإبداع (1982)، الحركة المسرحية في لبنان (1960-1975) الصادر عام 1998، المرأة والتحرر والإبداع (1991)، الاستعارة الكبرى في شعرية المسرح (2007)، في البدء كان المثنى (2009)، منير أبو دبس والحركة المسرحية في لبنان (2011)، يوتوبيا المدينة المثقفة (2012)، جرح المعنى، قراءة في كتاب: مفرد بصيغة الجمع" (2017)، وغيرها من الكتب المشتركة مع الشاعر أدونيس.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة