Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قصف هيروشيما وناغازاكي... حين كانت الإنسانية على موعد مع الفناء

76 عاماً تمر على قصف المدينتين اليابانيتين لأول مرة بالقنبلة الذرية في التاريخ وعلى الرغم من الآثار السلبية الباقية بقيت قصة إعادة بنائهما مصدر إلهام

في روايات بعض الناجين المتطابقة، وصف مشهد الساعة الثامنة والربع صباح يوم السادس من أغسطس (آب) 1945 بأنه "جحيم لم يسبق أن شهدته الإنسانية على كوكب الأرض، احترق كل شيء في مدينة هيروشيما اليابانية، مات الناس والطيور والحيوانات وحرقت الأشجار ودمرت المباني، وبقيت الآثار ممتدة لسنوات"، ومن زاوية الرؤية الأعلى حيث تحليق "طائرة الموت" على ارتفاع أكثر من 32 ألف قدم، روي عن بول تيبيتس، قائد الطائرة "إينولا جاي" الأميركية، المنفذة لأول عملية قصف ذري في التاريخ، أن المشهد كان بمثابة "ومضة مشرقة كبيرة، شاهدنا التوهج الذي انبعث لحظة الانفجار وتذوقنا طعم الرصاص".

بين مشهد ما حدث على الأرض، وما نفذ من السماء، لا يزال جرح قصف مدينتي هيروشيما (جنوبي غرب)، وبعدها بثلاثة أيام قصف مدينة ناغازاكي بالقنبلة الذرية أميركيا،ً لم يلتئم على الرغم من حلول ذكراه الـ76، فالحدثان اللذان عدّا أحد أبرز محطات الحرب العالمية الثانية، كانا بمثابة الضوء الأخضر لبداية عصر أسلحة الدمار الشامل، وإمكانية "فناء البشرية"، مع زيادة احتمالات استخدامها في ظل السباق المحموم لاقتنائها بين الدول الكبرى على مدى العقود التالية، كما يقول مؤرخون.

ماذا حدث في اليابان؟ وكيف عاشت مدينتا هيروشيما وناغازاكي أهوال القصف الذري الأول والوحيد في عمر البشرية؟ وإلى أي مدى استمرت شظايا التفجير وتداعياته تطول حياة اليابانيين والعالم؟

استناداً إلى هذه الأسئلة تحاول "اندبندنت عربية"، إعادة قراءة الحدث عبر التقليب في الوثائق والأرشيفات الوطنية وشهادات الناجين وكتابات المؤرخين، بشأن تلك المحطة التي كانت بمثابة مرحلة مفصلية في عمر الصراعات الدولية، التي وصفها كارل كومبتون، الفيزيائي الأميركي الشهير ورئيس معهد ماساتشوستس للتقنية سابقاً، أن الأمر "لم يكن مجرد استخدام قنبلة ذرية واحدة، أو اثنتين، تقود إلى استسلام دولة، بل كان بمثابة تجربة لما ستفعله القنبلة الذرية فعلياً بالمجتمع، إضافة إلى الخوف من وجود عدد إضافي كبير منها وفعال".

كيف تم القصف؟

وفق الأرشيف الوطني الياباني، وتتابع الأحداث في الحرب العالمية الثانية، فقد جاء القصف الأميركي الأول بالقنبلة الذرية على مدينة هيروشيما في السادس من أغسطس من عام 1945 بعد نحو ستة أشهر من حملة قصف موسعة قامت بها الولايات المتحدة مستهدفة 67 مدينة يابانية، كانت من بينها العاصمة طوكيو التي استُهدفت بالقنابل الحارقة.

وتشير التقديرات اليابانية كذلك إلى أنه وقبل التحذير الأخير الذي طالب فيه الرئيس الأميركي آنذاك، هاري ترومان، اليابان بالاستسلام فيما عُرف حينها بـ"إعلان بوتسدام"، (نص على استسلام اليابان استسلاماً كاملاً من دون أي شروط ضمن مهلة محددة)، كانت القوات الأميركية قد دمرت في مارس (آذار) من عام 1945 نحو 25 كيلومتراً مربعاً من طوكيو تدميراً كاملاً في عاصفة نارية، وتواصل القصف المشدد على كل المدن اليابانية من شهر أبريل (نيسان) إلى يوليو (تموز) من العام ذاته، أي قبل أيام قليلة من إلقاء مشهد "قنابل الموت".

وبعد أن رفض رئيس الوزراء الياباني آنذاك، كانتارو سوزوكي "إعلان بوتسدام"، متجاهلاً المهلة التي حدَّدها إعلان بوتسدام، قصفت الولايات المتحدة بموجب الأمر التنفيذي الذي أصدره الرئيس الأميركي هاري ترومان، مدينة هيروشيما بقنبلة ذرية صباح الـسادس من أغسطس عام 1945. ومن ثم تلاها إطلاق قنبلة أخرى على مدينة ناغازاكي في الـتاسع من الشهر والسنة ذاتها.

 

في تفاصيل قصف هيروشيما، أسقطت قاذفة القنابل الأميركية من طراز "بي-29" والمسماة "إينولا جاي" (قاذفة قنابل ثقيلة من طراز بوينغ بي-29 سوبر فورترس، صنعتها شركة بوينغ الأميركية) في تمام الساعة الثامنة و15 دقيقة يوم السادس من أغسطس 1945، القنبلة المسماة "الولد الصغير"، التي لم تُختبر من قبل، فوق مدينة هيروشيما، في أول استخدام للسلاح الذري في تاريخ البشرية، وذلك قبل ثلاثة أيام من إلقاء قنبلة أخرى سُميت "الرجل البدين" على مدينة ناغازاكي في الجنوب.

بحسب البيانات الأميركية، انطلقت القاذفة "بي-29" بقيادة الكولونيل بول تيبيتس، قادمة من قاعدة "نورث فيلد" الواقعة بجزيرة تنيان في غرب المحيط الهادي، مصحوبة بطائرتين أخريين، وكانت طائرة تحمل القنبلة المحتوية على 60 كيلوغراماً (130 رطلاً) من مادة اليورانيوم – 235 وألقتها بالمظلّة، فانفجرت على ارتفاع 250 متراً (1900 قدم) فوق المدينة، موضحة أن "إينولا جاي" وهي إحدى كبرى القاذفات في أثناء الحرب العالمية الثانية والأكثر تطورًا حينها، كانت قد جردت من كل شيء ما عدا الضروريات، بحيث يكون وزنها أقل بآلاف الأرطال من الطائرة العادية، وزودت بتقنية ضغط المقصورة ونظام إلكتروني لمراقبة الحرائق وبتقنية التحكم بالمدافع الرشاشة عن بعد.

من جانبها، ووفق ما كشفته لاحقاً الوثائق اليابانية، ففي طوكيو وقبل القصف بنحو ساعة، كان نظام الإنذار المبكر الياباني قد اكتشف الطائرات الأميركية فنبّه السلطات في كبرى المدن بما فيها هيروشيما باحتمالات القصف، وفي حدود الثامنة أي قبل دقائق من الضربة، تمكنت أجهزة الرادار في هذه المدينة من تحديد الطائرات الأميركية، لكن المسؤولين قرروا أن عددها الصغير لا يستدعي التصدي لها بطائرات مضادة على ضوء السياسة الرامية إلى توفير الوقود.

وبعد الانفجار قالت السلطات اليابانية إن قنبلة "الولد الصغير" ألقيت على وسط هيروشيما فانفجرت وانتشر مداها على محيط 1.6 كيلومتر مربع، والنيران التي أشعلتها على محيط 11.4 كيلومتر مربع. فقتلت ما بين 70 ألفاً و80 ألف شخص في التو، ودمرت 90 في المئة من مباني المدينة وبنيتها الأساسية، وهو ما كان توصيفاً في روايات متطابقة لمن نجا من القنبلة، أن "الدمار الذي لحق بالمدينة كان لا يشبه أي شيء في تاريخ الحرب"، بجانب عشرات الآلاف ممن قتلوا في التو، ارتفع عداد الضحايا لنحو 140 ألف شخص بحلول ديسمبر (كانون الأول) من العام ذاته من إجمالي عدد السكان حينها المقدر بنحو 350 ألف شخص، فضلاً عن تأثر الآلاف الآخرين بالتسمم الإشعاعي والأمراض المرتبطة به طوال السنوات والعقود التالية.

كما ذكرت بعض الوثائق اليابانية عن الحادثة، التي رفع عن سريتها النقاب لاحقاً، أن الضابط الياباني المسؤول عن تقييم الضرر الناجم كتب عن "قنبلة الموت" بهيروشيما، في نهاية يوم الحادثة، تقريراً إلى رؤسائه، قائلاً "أُلقيت قنبلة من نوع خاص هذا الصباح على وسط مدينة هيروشيما بتشكيل من ثلاث أو أربع طائرات، كان الوميض الناتج عنها فورياً وأدى إلى احتراق أجزاء الجسم المكشوفة للأشخاص حتى الموجودين على بعد ثلاثة كيلومترات... والصدمة تفوق الخيال، حيث دمرت القنبلة كل منزل في المدينة تقريباً، وحسب تقديراتنا هناك 100 ألف ضحية".

من جانبه، ووفق ما كتبه، الجنرال ليزلي غروفز، قائد مشروع "منهاتن" السري لتطوير القنبلة الذرية خلال الحرب العالمية الثانية، في برقيته "السرية" إلى الرئيس ترومان، واصفاً ما أحدثته أول قنبلة ذرية في التاريخ، فقد قال "في البداية تشكلت كرة نارية تحولت في غضون ثوان إلى سحب أرجوانية وألسنة لهب تصاعدت فيما يشبه الدوامة نحو السماء، قبل أن تختفي المدينة بأكملها تحت طبقة من الغبار الرمادي الداكن"، بحسب ما نقلت صحيفة "لونوفيل أوبسرفاتور" الفرنسية.

 

إلى ذلك، بعد ثلاثة أيام من قصف هيروشيما، كانت اليابان على موعد جديد مع قصف آخر لإحدى مدنها في الجنوب هي ناغازاكي، ففي التاسع من الشهر ذاته وعند الساعة 11 ودقيقتين صباحاً، قررت السلطات الأميركية إرسال القاذفة "بي-29" حاملة القنبلة "الرجل البدين" تحت قيادة الميجور تشارلز سويني، واتجهت مستهدفة مدينة كوكورا رئيسياً، وناغازاكي ثانوياً وبمعيتها طائرتان أخريان، كما الحال مع هيروشيما، لكن ولدى وصول السرب إلى كوكورا كانت السحب تغطي المدينة. فدارت الطائرات فوقها حتى صار ثمة خطر من انخفاض مستوى وقودها فتوجهت إلى ناغازاكي بافتراض التوجه منها إلى أوكيناوا في حال كانت تغطيها السحب هي أيضاً.

وأسقطت القاذفة الأميركية على ناغازاكي، قنبلة كانت تحوي 6.4 كيلوغرام (14.1 رطل) من "اليورانيوم – 239" على ارتفاع 469 متراً (1540 قدماً).

وتبعاً للتقديرات، فقد قتل نحو 47 ألفاً من سكان المدينة على الفور. وكان محيط الدمار 1.6 كيلومتر مربع، ومحيط النيران التي أشعلها الانفجار 3.2 كيلومتر. وحتى ديسمبر (كانون الأول) من ذلك العام وصل عدد القتلى إلى 80 ألفاً.

وبعد خمسة أيام من قصف ناغازاكي، وتحديداً في 14 أغسطس من الشهر ذاته، أعلن الإمبراطور الياباني حينها، هيروهيتو استسلام بلاده في خطاب أذيع على الأمة رغم احتجاج العديد من جنرالاته، وهو ما عد حينها النهاية الرسمية للحرب العالمية الثانية.

لماذا لجأت واشنطن إلى الذري؟

على الرغم من تمسك الولايات المتحدة في روايتها الرافضة الاعتذار بشأن قصف هيروشيما وناغازاكي أنها كانت ضرورية ومهمة لإنهاء الحرب العالمية الثانية، وكذلك تأكيد كل من الكولونيل بول تيبيتس، الذي قاد عملية قصف هيروشيما، والميجور تشارلز سويني، قائد قصف ناغازاكي، في روايتهما اللاحقة طوال العقود الماضية، أنهما غير نادمين على مساهمتهما الدرامية في الحصول على استسلام اليابان، وأنهما على استعداد لفعل الشيء نفسه مجدداً في حال أعاد التاريخ نفسه، يقول المؤرخون إن اللحظات المروعة التي شهدتها المدينتان أطلقت الضوء الأخضر لبداية عصر أسلحة الدمار الشامل، وبدأت مناقشة أخلاقية بشأن قرار استخدام الأسلحة النووية التي استمرت لأكثر من 70 عاماً.

ومع الانتقادات المتزايدة التي لاحقت القرار الأميركي باللجوء للسلاح الذري، كتب وزير الحرب الأميركي آنذاك، هنري ستيمسون، تحت عنوان "قرار استخدام القنبلة الذرية" في فبراير (شباط) 1947 من "هاربر مغازين"، شرحاً مفصلاً للجوء بلاده إلى استخدام "القنبلة الذرية"، الذي قال إنه جنب واشنطن وحلفاءها قرار غزو اليابان الذي كان سيكلف نحو مليون من الضحايا الأميركيين وعدداً أكبر بكثير من اليابانيين، بعد رفض طوكيو الاستسلام غير المشروط.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وقال ستيمسون، إنه جرى سرد القصة الاستثنائية للتطوير الناجح للقنبلة الذرية في أماكن أخرى. ومع مرور الوقت أصبح من الواضح أن السلاح لن يكون متاحاً في الوقت المناسب لاستخدامه في "المسرح الأوروبي"، وانتهت الحرب ضد ألمانيا بنجاح باستخدام ما تسمى بالوسائل التقليدية.

ولكن، في ربيع 1945، بات واضحاً أن ذروة جهدنا الذري المطوّل أصبحت في المتناول، وذلك بالتزامن مع تركيز الهدف السياسي والاجتماعي والعسكري الرئيس للولايات المتحدة في صيف عام 1945 على تحقيق استسلام اليابان الفوري والكامل، مع النظر إلى إمكانية أن يقود التدمير الكامل لقوتها العسكرية إلى فتح الطريق أمام سلام دائم.

 

وبحسب ما كتبه ستيمسون، ففي منتصف يوليو (تموز) عام 1945، قدَّر قسم الاستخبارات في هيئة الأركان العامة لوزارة الحرب القوة العسكرية اليابانية على النحو الآتي، في جزر الوطن، أقل بقليل من مليوني فرد، وفي كوريا، ومنشوريا، والأراضي الصينية، وفورموزا، أكثر بقليل من مليوني فرد، وفي الهند الصينية الفرنسية وتايلاند وبورما، أكثر من مئتي ألف، وفي منطقة جزر الهند الشرقية، بما في ذلك الفيليبين، أكثر من نصف مليون، وفي جزر المحيط الهادي وما حولها، أكثر من 100 ألف، مضيفاً "قُدر إجمالي الجيش الياباني بنحو خمسة ملايين رجل، وتبين لاحقاً أن هذه التقديرات كانت متوافقة بشكل وثيق جداً مع الأرقام اليابانية الرسمية، وكان الجيش الياباني البري في حالة أفضل بكثير من القوات البحرية والجوية اليابانية، إذ لم تعد البحرية موجودة عملياً إلا كقوة شرسة ضد أسطول غازٍ، واختُزلت القوة الجوية بشكل أساسي إلى الاعتماد على "الكاميكازي" (هجمات الطيارين اليابانيين الانتحارية)، التي ألحقت بالفعل أضراراً جسيمة بقواتنا البحرية، وكانت فعاليتها المحتملة في معركة أخيرة مصدر قلق حقيقي لقادتنا البحريين"، بحسب ستيمسون.

وأوضح وزير الحرب الأميركي حينها أن التقديرات العسكرية الأميركية في يوليو من ذلك العام كانت تميل إلى أن هناك احتمالاً قوياً للغاية لأن تقرر الحكومة اليابانية المقاومة حتى النهاية، في جميع مناطق الشرق الأقصى الخاضعة لسيطرتها، وعليه سيواجه الحلفاء مهمة هائلة تتمثل في تدمير قوة مسلحة قوامها خمسة ملايين رجل وخمسة آلاف طائرة انتحارية، ينتمون إلى جنس أثبت مسبقاً وبوضوح قدرته على القتال حتى الموت.

وذكر ستيمسون أنه كانت الخطط الاستراتيجية لقواتنا المسلحة قد أعدت لهزيمة اليابان، في البداية من دون الاعتماد على القنبلة الذرية، التي لم تكن قد اختُبرت بعد في نيو مكسيكو (16 يوليو). إلا أن تقديرات الخسائر أشارت إلى أن هذه العمليات قد تكلف أكثر من مليون ضحية من القوات الأميركية وحدها. ويمكن توقع خسائر كبيرة إضافية بين حلفائنا.

وأضاف "في مراحل الإعداد لهزيمة اليابان كان علينا التأكد من قدرتنا على إلحاق أضرار جسيمة بالوطن الياباني من خلال الاستخدام المشترك للقوة البحرية والجوية التقليدية، لكن كان السؤال الحاسم هو ما إذا كان هذا النوع من العمل سيؤدي باليابان إلى الاستسلام؟".

وعليه، يتابع ستيمسون، "دار كثير من النقاش في واشنطن حول توقيت التحذير الذي سيُوجَّه إلى اليابان. وكان العامل المسيطر في النهاية هو التاريخ المحدد مسبقاً لاجتماع بوتسدام وتحذير طوكيو في 26 يوليو والاستسلام غير المشروط"، إلا أنه سريعاً ما جاء الرفض الياباني في 28 يوليو على لسان رئيس الوزراء حينها سوزوكي.

وفي خضم التوجه الأميركي نحو اعتماد السلاح الذري ضد اليابان، ذكر ستيمسون، وفق ما كتبه آنذاك، "قدَّم الفريق العسكري الخطط التفصيلية لي للموافقة عليها. وعلى وقع دعم الرئيس ترومان شطبتُ من قائمة الأهداف المقترحة مدينة كيوتو، التي وعلى الرغم من أنها كانت هدفًا ذا أهمية عسكرية كبيرة، فإنها كانت العاصمة القديمة لليابان وكانت مزارًا للفن والثقافة اليابانية. وقد قررنا أنه ينبغي الإبقاء عليها، ووافقتُ على أربعة أهداف أخرى، بما فيها مدينتا هيروشيما وناغازاكي"، وعليه نُفذ القصف في التواريخ المحددة.

وفي تفسير استهداف المدينتين، بالتحديد، قال ستيمسون، إن هاتين المدينتين كانتا جزءاً نشطاً من المجهود الحربي الياباني، إذ كانت إحداهما مركزاً للجيش، والأخرى مركزاً بحرياً وصناعياً، مضيفاً، "كانت هيروشيما المقر الرئيس للجيش الياباني الذي يدافع عن جنوب اليابان وكانت نقطة تخزين وتجميع عسكرية رئيسة، بينما كانت نغازاكي ميناءً بحرياً رئيساً وتضم العديد من المنشآت الصناعية الكبيرة ذات الأهمية الكبيرة في زمن الحرب، وعليه اعتقدنا أن هجماتنا قد أصابت المدن التي يجب أن تكون بالتأكيد مُهمة للقادة العسكريين اليابانيين، في الجيش والبحرية على حد سواء".

من جانبه ووفق ما جاء في مذكرات الرئيس ترومان، فإن قرار المضي في قصف اليابان بالسلاح الذري استند إلى أنه الحل الأمثل لإنقاذ عشرات آلاف الجنود الأميركيين في حالة استسلام اليابان، مقدراً أن استسلام اليابان أنقذ أرواح نحو 250 ألف جندي أميركي.

تداعيات لم يمحُها الزمن

على الرغم من مرور أكثر من سبعة عقود على قصف المدينتين اليابانيتين، بقيت ولا تزال الآثار النفسية والصحية جاثمة على صدور سكانهما لا سيما الناجين منهم الذين يسمون بـ"هيباكوشا"، إذ أشارت بعض التقديرات إلى أن أكثر من مئتي ألف شخص توفوا جراء القنابل الذرية بحلول عام 1950، بسبب السرطان وغيره من الآثار الطويلة المدى.

ففي الذكرى الـ70 للحادثة، قال رئيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر، بيتر ماورر، "ما زلنا نشهد الأثر الصحي الكارثي الناتج عن استخدام أسلحة نووية في هيروشيما وناغازاكي، رغم مرور عقود كثيرة على ذلك"، متسائلاً عما إذا كانت "توجد حجة أكثر إقناعاً لاستكمال إزالة الأسلحة النووية، ولا سيما أن معظم القنابل الموجودة في ترسانات الدول المسلَّحة نووياً أقوى وأشد دماراً؟".

وبحسب تقديرات اللجنة الدولية للصليب الأحمر، يتوقع أن تستمر حاجة آلاف الأشخاص من بين 200000 ناجٍ تقريبا ما زالوا على قيد الحياة إلى الرعاية من الأمراض الناتجة عن الإشعاعات، كما يتوقع أن يستمر الأثر النفسي الناجم عن التفجيرات في انتياب حتى هؤلاء الناجين غير المرضى جسدياً.

وتشير التقديرات إلى أن قرابة ثلثي الأشخاص (63 في المئة) من الناجين من القنبلة الذرية ممن كانت تعالجهم مستشفيات المنظمة، ماتوا في المستشفى بحلول مارس 2014 بسبب مرض السرطان، ولا سيما سرطان الرئة (20 في المئة) وسرطان المعدة (18 في المئة) وسرطان الكبد (14 في المئة) وسرطان الدم (ثمانية في المئة) والسرطان المعوي (سبعة في المئة) وسرطان الغدد الليمفاوية الخبيثة (ستة في المئة).

وفي استطلاع للرأي أجرته هيئة الإذاعة اليابانية "أن أتش كيه" في عام 2016، كشف أن نحو 40 في المئة من اليابانيين المشاركين في الاستطلاع كانوا يرون أن قصف المدينتين كان "حتمياً"، فيما قال نحو 49 في المئة منهم إنهم "لا يمكنهم الصفح حتى الآن"، عن القصف الأميركي لهيروشيما وناغازاكي.

من جانبهم، في مقابل الاعتقاد الأميركي الوثيق بأهمية استخدام القنبلة الذرية لدفع اليابان إلى الاستسلام في الحرب العالمية الثانية، وعدم الاعتذار عنها حتى الآن، يرفض غالبية المفكرين والمؤرخين اليابانيين تلك الرواية، ويرون أنها مبررات تفتقد لـ"الإنسانية".

وبحسب الفيلسوف الياباني ماساهيرو موريوكا، فإن المبررات التي تذرعت بها السلطات الأميركية في اتخاذ القرار "لها أبعاد نفعية، بأن القصف منع معاناة عدد أكبر من الناس"، وشبّه موريوكا مبرر قصف هيروشيما بمعضلة العربة، التي أثارها الفيلسوف فيليبا فوت، عندما سأل بعض الناس عما إذا كانوا يوافقون على تغيير مسار عربة للتضحية بحياة شخص وإنقاذ خمسة أشخاص.

واعتبر موريوكا أن رؤية قصف هيروشيما وناغازاكي من منظور نفعي محض لتحقيق منفعة أكبر، قد تجلعنا نسقط من الحسبان وجهة نظر القتلى والجرحى، موضحاً "أرى أننا ينبغي أن نتخيل الأمور من منظور القتلى لو ظلوا أحياء بيننا".

من الأنقاض إلى رمز للسلام

بقدر حجم الضرر الذي لحق بهيروشيما وناغازاكي، وبعكس اعتقاد كثر من بينهم هارولد جاكوبسن، وهو أحد العلماء المشاركين في "مشروع منهاتن"، أنهما لن تصلحا للعيش أو الزراعة لمدة 70 عاماً، مثلت قصة إعادة بناء المدينتين وتحوّل إحداهما (هيروشيما) لتكون رمزاً دائماً للسلام حول العالم ومصدراً لإلهام المجتمعات والدول حول العالم، فالمدينة التي كانت منكوبة في منتصف أربعينيات القرن الماضي، بدأت قصة بنائها مع إعلان السلطات اليابانية عزمها تحويلها لتكون رمزاً للسلام في عام 1949، وبقيت كلمة عمدتها شينزو هاماي، في أول احتفال للسلام في 1947، ملهمة لليابانيين، حين قال "لنتكاتف معاً من أجل القضاء على أهوال الحروب، وبناء سلام حقيقي"، وسريعاً استطاعت المدينة الواقعة عند جزر دلتا نهر "أوتا"، نفض غبار الحرب وأضحت حاضرة تجارية وصناعية مهمة على مستوى اليابان وشرق آسيا.

 

وبحسب هيئة الإذاعة البريطانية "بي بي سي"، بدأت الحياة تعود إلى هيروشيما في خريف عام 1945، عندما خرجت من الأرض الميتة أعشاب برية، على عكس توقعات البعض، ومن ثم أزهرت أشجار الدفلى في الصيف اللاحق، وأنبتت أشجار الكافور، التي يصل عمر بعضها إلى مئات السنوات، فروعاً جديدة، ما حرّك ظهور تلك النباتات والأزهار مشاعر اليابانيين، وعليه تحولت زهرة الدفلى، وشجرة الكافور فيما بعد إلى الرمزين الرسميين لصمود المدينة، وحظيا بمكانة كبيرة في قلوب سكانها.

وتضيف الهيئة أنه في السنوات التالية راح اليابانيون من كل حدب وصوب يغدقون المساعدات على هيروشيما، بداية من السيارات لإعادة مظاهر الحياة إلى المدينة، وحتى الأشجار لزراعتها في الأراضي التي خلت منها النباتات. كما تبرّع أحد المعابد في محافظة واكاياما بمعبد برجي "باغودا"، الذي يعود إلى القرن السادس عشر، تعبيراً عن تضامنه مع المدينة.

وجاء الحدث الأبرز الذي لعب دوراً محورياً في عملية إعادة البناء، إصدار قانون إنشاء مدينة هيروشيما كرمز دائم للسلام، في السادس من أغسطس 1949، وتجسيداً لهذه الغاية، أقيم متنزه السلام التذكاري في قلب هيروشيما على ضفاف نهر موتوياسو، على أنقاض المركز التجاري والسكني السابق بالمدينة، ويمتد هذا المتنزه على مساحة تزيد على 120 ألف متر مربع، ويضم ما يربو على 60 نصباً تذكارياً وبناية، كلها لها علاقة بالسلام، أبرزها متحف السلام التذكاري.

 

وعلى الضفة المقابلة، حُفظ هيكل معرض التطوير الصناعي، ليظل رمزاً للأمل في القضاء على الأسلحة النووية. واليوم، باتت أطلال المبنى، التي ظلت صامدة منذ وقوع الانفجار، هي المركز الروحاني للمدينة، ويعرف هذا المبنى رسمياً باسم النصب التذكاري للسلام بهيروشيما، أو قبة القنبلة الذرية، ولكن معظم السكان يطلقون عليه قبة "غينباكو".

ووفق "بي بي سي"، لا يخلو مكان في هيروشيما من كلمة "السلام"، فهناك طريق السلام، وهو شارع عريض اصطفت على جانبيه الأشجار والمصابيح الحجرية. وأمام المتنزه التذكاري للسلام، في الشارع نفسه، توجد بوابات السلام، وهي مجموعة من الأقواس الزجاجية يبلغ طول الواحد منها تسعة أمتار، ونقشت عليها كلمة "سلام" بـ49 لغة.

المزيد من تحقيقات ومطولات