تنوي الحكومة التونسية إجراء جملة إصلاحات اقتصادية، هي ذاتها التي وعدت بها الحكومات السابقة ولم تنفذها. وقد طالب صندوق النقد الدولي بها، مشترطاً تطبيقها لمنح تونس القروض التي تحصّلت عليها في العشرية الأخيرة. وتأتي على رأس قائمة الإصلاحات "مراجعة منظومة الدعم".
ومنذ سبعينيات القرن الماضي، تدعم تونس المواد الاستهلاكية الأساسية عبر صندوق دعم المواد الغذائية، مثل السكر والقهوة والطماطم والزيت ومشتقات الحبوب والمعجنات بأنواعها، إضافة إلى المحروقات والنقل العمومي والأدوية. ويتزوّد التونسيون بهذه المواد مدعومة، أي بسعر مدروس، لا يمثل القيمة الحقيقية لها، وتعمل وزارة التجارة على تنظيم توزيعها في السوق.
لكن، واجهت المنظومة انتقادات لاذعة في السنوات الأخيرة، أهمها استفادة فئات معينة من المجتمع التونسي من سياح وأجانب وميسورين من الدعم. وطالب البعض بمراجعة الدعم وترشيده وتوجيهه إلى مستحقيه.
إلغاء أم ترشيد؟
وفي هذا الشأن، أكد محسن حسن، وزير تجارة أسبق ومتخصص اقتصادي تونسي، أن الدولة "لا تنوي" إلغاء الدعم "بل تنظيمه"، موضحاً أنها "عملية مراجعة لآلية العمل، إذ تُدعم المواد الأساسية منذ سبعينيات القرن الماضي، وهي ليست منّة من أحد، بل حق التونسيين".
وأشار حسن إلى أن بعض الأخطاء حتّمت مراجعة الدعم، إذ بلغ 3.4 مليار دينار التونسي (1.2 مليار بالدولار الأميركي ) في السنة المنقضية 2020، وإن جرت مقارنة المبلغ بحجم الدعم عام 2010 نجد أن الارتفاع "أضحى غير معقول"، فهو لم يتجاوز 1.4 مليار بالدينار التونسي (0.51 مليار بالدولار الأميركي). وهو حجم الدعم المباشر إضافة إلى دعم المؤسسات العمومية، مثل مؤسسات النقل والصيدلية المركزية.
تحديات الإصلاح
وتابع، "إضافة إلى الارتفاع، فإن الدعم يتوجه في بعض الأحيان إلى فئات لا تستحقه، مثل الميسورين ودبلوماسيين مقيمين في تونس وسياح، وكذلك يوجّه بعض السلع المدعومة إلى السوق الخارجية عن طريق التهريب. لذلك، قررت الدولة التوجه من الدعم العام إلى آلية التحويلات المالية. وهو البرنامج الذي يجري العمل على تجهيزه الآن. ويبقى الهدف الأساسي هو ترشيد الدعم لا إلغاؤه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن المتخصص الاقتصادي عاد لينبّه إلى أن تنظيم الدعم يجب أن "تسبقه تهيئة الأرضية"، مثل تبنّي الفكرة من قِبل الأحزاب والمجتمع المدني لتوعية الرأي العام المتوجس خيفة من هذا الإجراء. كما يتحتم على الدولة وضع آليات لتنظيم الدعم، وتنظيم السوق والتزويد والقضاء على التهريب، وأن يكون الإصلاح تدريجياً، أي رفع الدعم والترفيع في أسعار المواد المدعومة، وبيعها بسعرها التنافسي بالتدرج لا دفعة واحدة. كما تجب الاستنارة بالتجارب الخارجية في هذا المجال مثل المكسيك وإيران ودول أخرى.
كما يتطلب إرساء الآليات في مرحلة أولى "وضع المعرّف الوحيد"، وهو قاعدة بيانات للعائلات التونسية التي تستحق الدعم، واعتماد بطاقة التعريف البيومترية، البرنامج الذي تأخرت البلاد في تطبيقه بعد سنوات طويلة من استئناف العمل فيه.
ويترتب على هذه الخطوات حصول هذه الأسر على التحويلات المالية وربطها بالرقمنة، لضمان عدم إهانة هذه العائلات عن طريق اصطفافها في طوابير أمام مكاتب البريد. ويقع تحويل هذه المبالغ عن طريق الرقمنة أي نظام خدمة الجراية الرقمية على الموبايل، وهو التحول المنتظر أن يحدث في عملية توجيه الدعم.
من جهة أخرى، أرجع محسن حسن إخفاق الحكومات السابقة في هذا المسار إلى عدم تفسير الآليات للشركاء الاجتماعيين، وهما الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمة الأعراف، ورفضهما المتواصل. ودعا إلى ضرورة التوعية الموجهة للمواطنين، والحوار مع هذه المنظمات والتدرج في التغيير، متوقعاً أن تتمكّن تونس من استيفاء هذه الخطوات والتأسيس لهذا الدعم الموجه في غضون خمسة أعوام.
مخاوف مشروعة
من جهته أعرب لطفي الرياحي، رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك، عن قلقه من الاتجاه نحو مراجعة الدعم على الرغم من قبوله الإجراء في العموم، وعدم رفضه مبدئياً، فهو يرنو إلى تنظيم الدعم الذي طاله الفساد بدوره، بحسب قوله.
ويقول الرياحي في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، "الإصلاح تأخر كثيراً، والمنظومة الحالية تعاني الاهتراء، وتحتاج إلى التدخل الفوري، في ظل عدم انتفاع الطبقة الفقيرة من الدعم، بسبب سوء التسيير والفساد المستشري".
بينما فسّر رفض المنظمات الوطنية لرفع الدعم بـ "الخوف من إلغائه دفعة واحدة"، لأن إجراءً من هذا القبيل من شأنه أن "يؤدي إلى ضغط اجتماعي"، منتقداً العودة إلى الحديث في الفترة الأخيرة عن ترشيد الدعم، الذي امتدّ إلى سنوات طويلة في الماضي القريب، من دون أي إجراءات ملموسة للسير في برنامج واضح للإصلاح، إذ لا تتوفر ملامح استراتيجية وطنية للقيام بهذا التدبير الذي يمسّ العائلات التونسية، ويوشك أن يغيّر طريقة عيشها.
تصنيف الأسر
ويلفت رئيس المنظمة التونسية لإرشاد المستهلك إلى أنه يبقى الأهم هو طريقة مراعاة التصنيف للأسر التونسية المحتاجة إلى الدعم، بالنظر إلى التحوّل الحاصل في المجتمع الذي ارتفعت فيه نسبة الفقر، بالتالي تآكلت الطبقة الوسطى، في حين سيجري وضع قائمة للعائلات التي ستنتفع بالدعم دون سواها، متسائلاً عن المرجعية المعتمدة لهذا التصنيف.
وذكر الرياحي أن الفقر ارتفع في تونس من 2.9 في المئة قبل كورونا إلى 6.9 في المئة بحسب إحصائية للبنك الدولي أواخر 2020، التي أشارت إلى أن معدل الفقر بدوره ارتفع من 13.7 في المئة قبل الجائحة إلى 20.2 في المئة. وفي هذا الصدد، يجب على الحكومة التونسية مدّ منظمات المجتمع المدني باستراتيجيتها لتحديد قائمة المنتفعين بالدعم المباشر الذي تتحدث عنه نقداً. والحال أن الطبقة المتوسطة التي كانت تمثّل 70 في المئة من المجتمع التونسي في 2011 أضحت لا تتجاوز 50 في المئة خلال 2020.
ويتساءل الرياحي، هل سيجري إعفاء الطبقة المتوسطة من الدعم وتصنيفها "غير محتاجة" أو ثرية؟، موضحاً أن "622 ألف عائلة تونسية تصنف ذات دخل محدود، لكنها غير مصنفة فقيرة. كما يتقاضى 380 ألف متقاعد تونسي جراية تقل عن الحد الأدنى للأجور البالغ 429 دينار (159 دولاراً)، إضافة إلى تنامي نسب الفقر في العموم، إذ ارتفع من 15.3 في المئة في الثلاثي الأول من عام 2020 إلى 21 في المئة في الثلاثي الثالث من العام ذاته، معبّراً عن خوفه من أن يؤدي رفع الدعم إلى زيادة الفقراء وتهاوي الطبقة الوسطى إلى مستوى الفقر.