Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الأجهزة الذكية تنال من "مقاهي الإنترنت" بالقتل البطيء

باتت من كلاسيكيات العالم العربي القديم واندثرت في السعودية واختفت في الأردن وحلت محلها شاشات الهواتف في الجزائر

انتهى زمن "مقاهي الإنترنت" وبات ينتمي إلى الماضي  (أ ف ب)

أمست عادة التردد على "مقاهي الإنترنت" بهدف تمضية وقت في التصفح إحدى ممارسات الحياة القديمة، ونمطاً من الكلاسيكية التي تكاد تكون اندثرت أو تغيرت ملامحها، لدرجة بات يجهلها عدد من شباب الجيل الجديد المنغمس منذ صغر سنه أمام شاشات الهواتف المحمولة المتصلة بالإنترنت في ظل تزايد وتيرة التطور التكنولوجي في مجال الاتصالات، التي أسفرت عن توافر وسائط التواصل بسهولة، خصوصاً أن ثمنها بات منخفضاً نسبياً ومتاحاً للجميع، ما سهل للمواطن العربي امتلاك هاتف محمول أو حاسوب متصل بشبكة الإنترنت بأسعار معقولة.

تأسس أول مقهى إنترنت في العالم أمام جامعة هونجيك بسيوول الكورية في مارس (آذار) 1988، من قبل "آن سان سو" و"كيوم نوري"، وكان يسمى في حينها  "Electronic Cafe" أو المقهى الإلكتروني، كان لدى المقهى جهازا كمبيوتر متصلين بشبكات الإنترنت عبر خطوط الهاتف، وكان افتتاح هذا المقهى متقدماً بنحو سنتين أو ثلاث عن البلدان الأخرى.

في تسعينيات القرن العشرين، حظيت مقاهي الإنترنت بشعبية كبيرة، مما أتاح لزوارها فرصة ممارسة الألعاب الإلكترونية التي كانت شائعة في تلك السنوات وحتى استخدام الكمبيوتر، الأمر الذي عُدّ إضافةً مميزة لغالبية السكان. كانت البداية بالولايات المتحدة في يوليو (تموز) 1991 من قبل واين غريغوري في سان فرانسيسكو، عندما بدأ شبكة المقاهي "SFnet"، حيث قام بتصميم وبناء وتركيب 25 محطة كمبيوتر تعمل بقطع النقود المعدنية في المقاهي بجميع أنحاء منطقة خليج سان فرانسيسكو، في وقت كان يصعب على كثيرين شراء المعدات، ما جعل من لديهم إنترنت في منازلهم قليلين جداً، وأسهم في الآن ذاته في ازدهار نشاط مقاهي الإنترنت هذه، التي انتشرت في العالم إلى أن وصلت إلى العالم العربي، وأدى انتشارها، عالمياً وعربياً، على الأجهزة الذكية إلى قتل هذه المقاهي ببطء شديد حتى انسحبت من الحياة المعاصرة.

الأردن ضم 100 مقهى أغلقت جميعها

 لسنوات قليلة خلت كانت مقاهي الإنترنت تنتشر في عموم الأردن على نحو لافت لدرجة منافسة أحد الشوارع في مدينة إربد شمال البلاد، للدخول في موسوعة "غينيس" للأرقام القياسية بعد أن ضمّ أكثر من 100 مقهى بين جنباته.

لكن مقاهي الإنترنت اليوم أصبحت أثراً بعد عين وذكريات لأجيال متعاقبة بعد دخول الشبكة العنكبوتية لمنازل معظم الأردنيين، إذ تعد أسعار الإنترنت في الأردن الأرخص في المنطقة.

9 ملايين مستخدم للإنترنت

وفقاً لموقع "إنترنت وورلد ستاتيس" العالمي الذي يرصد مؤشرات استخدام الإنترنت حول العالم، فإن عدد مستخدمي الشبكة العنكبوتية في البلاد بلغ نحو 9 ملايين مستخدم، وسط منافسة شديدة بين شركات الاتصالات الأردنية التي تحرص على تزويد المواطنين بأحدث تقنيات الإنترنت كالألياف الضوئية "الفايبر".

ويعد الأردن واحداً من البلدان التي لديها نسبة استخدام مرتفعة للإنترنت قياساً بعدد السكان وتبلغ 85 في المئة، وهي نسبة تزيد على نسبة انتشار الاستخدام في منطقة الشرق الأوسط بنحو 15 درجة مئوية. وشهدت البلاد طفرة في انتشار واستخدام الهواتف الذكية بشكل كبير وبنسبة 90 في المئة، ما أدى إلى تراجع استخدام الأردنيين لمقاهي الإنترنت.

 

 

مقصد المتحررين والأصوليين

مع دخول الإنترنت إلى الأردن عام 1997 لم يكن هناك سوى عدد قليل من هذه المقاهي في أنحاء البلاد، لكن بعد سنوات أصبحت استثماراً جيداً ومربحاً لكثيرين ومقصداً للفضوليين، مما أدى لارتفاع عددها، خصوصاً في العاصمة عمّان.

في ذلك الوقت كانت تكلفة الساعة الواحدة لاستخدام الإنترنت في هذه المقاهي مرتفعة إلى حد ما وتصل إلى دولارين تقريباً، بسبب حداثة الخدمة وارتفاع تكاليفها من الشركات المزودة وفق ما يقول محمد عدنان أحد أقدم أصحاب هذه المقاهي سابقاً في العاصمة عمّان.

وحتى نهاية عام 2016 كان بعض هذه المقاهي القليلة المتبقية بالبلاد لا تزال صامدة، على رغم كل التطور والتقدم الذي شهدته البلاد في هذا المجال. حيث كان طلاب وطالبات الجامعة يشكلون الغالبية العظمى من روادها. وبحسب دراسات غير رسمية شكلت الفئة العمرية من 18- 22 سنة، النسبة الأكبر منهم في ذلك الوقت وبنسبة 55 في المئة من المجمل العام.

عوائق كثيرة

واجه أصحاب مقاهي الإنترنت عوائق كثيرة إلى جانب انتشاره المنزلي بحيث أسهمت في تلاشي ونهاية استثمارهم إلى غير رجعة، ومن بين هذه العوائق تشديد الإجراءات عليهم من قبيل تخفيض عدد الساعات المسموح بها لاستخدام هذه المقاهي، وتحديد الفئات العمرية، فضلاً عن إجراءات أمنية تتطلب تسجيل دخول وخروج كل مستخدم وطلب إثبات هويته الشخصية.

وظلت مقاهي الإنترنت إلى عهد قريب مقصداً مناسباً للشباب المتحرر وأولئك المنتمين للحركات الأصولية على حد سواء، بعيداً من رقابة الأهل والمجتمع والسلطات، ما دفع الحكومة لإقرار تشريعات لمواجهة استغلال الشبكة العنكبوتية في الأعمال الإرهابية، وحظر دخول من تقل أعمارهم عن 16 سنة من دون مرافقة ذويهم.

شاشات الهواتف تخفي مقاهي الإنترنت في الجزائر

ظلت مقاهي الإنترنت في الجزائر فضاءات رحبة تجمع الأفراد على اختلاف فئاتهم العمرية وتوجهاتهم الفكرية حول استخدامه والتواصل بالعالم الخارجي، لكن هذه الصورة النمطية التي صاحبت يوميات المواطن الجزائري في السنوات السابقة أفلت حد الزوال، وأصبحت هذه مقتصرة على فئة محدودة من المواطنين، غالبيتهم يقطنون المناطق المعزولة، حيث لم تتح لهم بعد فرصة توافر خدمة الإنترنت في المنزل، أو من فئة الطلاب ممن اضطروا إلى طبع بحوثهم العلمية كمشاريع التخرج على سبيل المثال.

 

 

نظرة متغيرة

إسلام رخيلة، 33 سنة، أحد شباب العاصمة الجزائرية، الذين كانوا يرتادون مقاهي الإنترنت يومياً، لكن مع مرور الوقت أصبح نادر الذهاب إلى هذه الأمكنة التي استهلكت جزءاً غير قليل من ماله. يقول، "نظرتي إلى مقاهي الإنترنت تغيرت كثيراً بعدما أدمنت التردد عليها للدردشة مع أصدقائي، وتصفح المواقع لمعرفة ما يحيط بي".

ويعتبر الشاب الجزائري أن "مقاهي الإنترنت تحولت من فضاء عمومي ومكان للقاء الأصدقاء والتعارف، إلى فضاء خدمي نتيجة التطور السريع في خدمات الإنترنت. الذهاب إلى هناك بات يقتصر على الراغبين في التسجيل بقرعة الحج، أو بحث عن خدمة الفاكس وغير ذلك من الخدمات".

إغراءات مشغلي الهاتف النقال

يعلل كثيرون تناقص عدد مرتادي مقاهي الإنترنت مقارنة بفترة سابقة، بالتنافس بين مشغلي شبكة الهاتف النقال في الجزائر على استقطاب الزبائن، عبر إغرائهم بشراء شريحة هاتف يمكن من خلالها دفع اشتراكات شهرية أو نصف شهرية للحصول على عروض مغرية لاستخدام الإنترنت. ودفع ذلك المستهلك إلى التوجه نحو تلك العروض والتخلي عن مقاهي الإنترنت التي أصبحت بنظره تقليدية.

في هذا الصدد، يقول علي، 33 سنة، من البليدة (تبعد 45 كيلومتراً عن العاصمة)، إن "الخيارات التي بات يتيحها متعاملو الهاتف النقال دفعتني للتوجه نحو استخدام الإنترنت عبر الهاتف، ومن أي مكان أكون فيه، بدلاً من التوجه إلى مقهى الإنترنت حيث عادة تكون مقيداً بالوقت والمكان".

في المقابل، شجعت شبكة الألياف البصرية وتقنية "الجيل الرابع"، المواطن على التعامل بالإنترنت من المنازل والاستغناء عن التوجه نحو المقاهي، على الرغم من الانتقادات التي تطاول تلك الخدمة من فترة لأخرى بسبب ضعف الإنترنت.

بعضها أفلست وأخرى تقاوم

وسط هذا التنوع في استخدام الإنترنت عبر شرائح الهواتف أو تكنولوجيا الألياف البصرية التي تعمل الحكومة الجزائرية على توفيرها، يتكبد كثيرون من أصحاب مقاهي الإنترنت خسائر فادحة إلى حد اضطر بعضهم إلى تخفيض سعر استخدام الشبكة العنكبوتية من 60 ديناراً جزائرياً للساعة إلى 40 ديناراً (أقل من ربع دولار أميركي)، في حين أغلق البعض الآخر نهائياً وغيّر وجهته نحو تجارة أكثر ربحاً.

تنطبق هذه الحال على وليد، 35 سنة، الذي وجد نفسه مفلساً بسبب تراكم دين الإيجار وعزوف الزبائن عن ارتياد محله، فيما لا يزال بدر الدين، 34 سنة، متمسكاً بمحله في محاولة لاستقطاب الزبائن. يقول، "أواجه صعوبة في تحصيل يومي، عدد الزبائن تضاءل كثيراً، ونحن في أزمة حقيقية"، لافتاً إلى أن "الأسعار بقيت ثابتة منذ 20 عاماً، أما الخدمات التي تستقطب الزبائن حالياً فتتنوع بين التسجيلات الجامعية، وأصحاب البكالوريا ومعالجة النصوص، أو حجز موعد طلب تأشيرة".

مشاريع جانبية لتجنب الإقفال في المغرب

كانت مقاهي الإنترنت في المغرب منذ نهاية تسعينيات القرن الماضي ملاذاً للباحثين عن المعلومات أو التواصل عبر الإنترنت، لكن التطور والانتشار الأخير لوسائل التواصل أسهما في انقراض تلك المقاهي شيئاً فشيئاً، وقد تراجع عددها بشكل كبير خلال السنوات العشر الأخيرة، حتى أصبحت محال الإنترنت التي لا تزال مفتوحة، تعتمد على مشاريع جانبية لضمان دخل معين يجنبها خيار الإغلاق.

وأكد نظيف، صاحب مقهى إنترنت في أحد أرقى أحياء مدينة الدار البيضاء، أنه قبل سنوات كان عدد تلك المتاجر يفوق العشرة في تلك المنطقة، لكن مع توالي الإغلاقات بسبب الأزمة، أصبح محله هو الوحيد الذي لا يزال مفتوحاً.

من جانبها، تقول رشيدة، وهي موظفة في القطاع العام، إن فكرة التوجه إلى مقهى الإنترنت لم تعد مطروحة، لأن لديها هاتفاً محمولاً مرتبطاً بالشبكة العنكبوتية، ولديها طابعة في البيت والعمل، بالتالي لم تعد تحتاج إلى التوجه لتلك الأماكن التي كانت تزورها لتصفح الإنترنت، وطبع الوثائق التي تحتاجها في عملها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

خدمات موازية

وفي الوقت الذي خلت فيه تلك المحال من الزبائن، توجهت مقاهي الإنترنت إلى إطلاق مشاريع موازية لضمان مدخولها. وبهذا الشأن، أعلن نظيف أن ما يُبقي محله مفتوحاً هو اعتماده على بيع الهواتف المحمولة وإكسسواراتها وبطاقات التعبئة، إضافة إلى البحوث وطبعها للطلاب، ونسخ الوثائق، بالتالي يؤكد صاحب المحل أن مداخيل تلك الخدمات على محدوديتها، تضمن قوته اليومي، وتحول دون إغلاق مشروعه الذي فتحه قبل 20 عاماً.

وبطبيعة الحال، ونظراً لانخفاض الطلب على هذه الخدمة، تراجعت أسعار تصفح الإنترنت في تلك المحال، بحسب نظيف، الذي كشف أن سعر الساعة الواحدة للاتصال بالإنترنت تدنى بشكل هائل، فبعد أن كان في تسعينيات القرن الماضي يصل إلى 30 درهماً (ثلاثة دولارات)، أصبح الآن درهمين (نحو 20 سنتاً)، في حين تبلغ تعبئة الجوال ليوم واحد من الإنترنت خمسة دراهم (نصف دولار).

إحصاءات خدمات الهواتف الذكية

تضاعف إقبال المغاربة على خدمات الهواتف الذكية خلال الأعوام الأخيرة، إذ وصل عدد المشتركين في خدمة الإنترنت إلى 25.38 مليون مشترك نهاية عام 2019، بزيادة سنوية تقدر بـ11.43 في المئة، التي بلغت عام 2018 فقط 2.6 في المئة، فيما وصل عدد المشتركين في خدمة الإنترنت المنقول 23.68 مليون بزيادة سنوية تبلغ 11.22، وبلغ عدد المشتركين في تقنية الجيل الرابع 15.72 مليون، بزيادة سنوية وصلت إلى 63.66 في المئة، مقابل 40.61 في المئة عام 2018، بحسب إحصاءات الوكالة الوطنية لتقنين المواصلات (الحكومية).

في المقابل، توصلت دراسة لمركز "البارومتر العربي"، إلى أن أكثر من ثلاثة من كل عشرة أشخاص في المغرب (31 في المئة)، لا يستخدمون الإنترنت، وأن 93 في المئة من مستعملي الإنترنت تتراوح أعمارهم بين 18 و29 سنة.

وكشفت الدراسة أن نسبة 79 في المئة من الذكور و56 في المئة بين الإناث تستخدم الإنترنت، وأن معدلات استخدامه تختلف كثيراً باختلاف الفئات السكانية، إذ أوضحت أن الفئات التي تعاني أكثر من غيرها في المجتمع، مثل النساء والمسنين والأقل تعليماً ودخلاً، هم أقل قابلية لاستخدام الإنترنت مقارنة بالذكور والشباب الأفضل تعليماً والأعلى دخلاً.

 

مداخيل ضعيفة

وعلى الرغم من اعتماد تلك المقاهي في مداخيلها على خدمات موازية، فإنها تظل ضعيفة، وزادت تداعيات جائحة كورونا في تراجعها. ويؤكد ياسين، صاحب محل إنترنت في أحد أحياء الدار البيضاء الفقيرة، أنه على الرغم من اعتماده خدمة ألعاب الفيديو، فإنها عرفت بدورها تراجعاً كبيراً من حيث الإقبال، وزاد الخوف من انتشار كورونا في هجر محله من الشباب.

كما أكد أنه يفكر في اعتماد مشروع آخر بعيداً من هذا المجال، في ظل الأزمة التي يعرفها القطاع، إثر تراجع المداخيل جراء اعتماد الناس على هواتفهم المحمولة لولوج فضاء الإنترنت، وزيادة تداعيات الوباء من حدة تلك الأزمة.

تجربة قصيرة لليبيين مع مقاهي الإنترنت

دورة الزمن لا تتوقف، والطفرة التكنولوجية في عصرنا تجعل وتيرة التغيير أسرع حدوثاً من ذي قبل، وهذا الأمر ينطبق بلا شك على ما كان يُعرف بـ"مقاهي الإنترنت"، التي انتشرت في ليبيا بداية القرن الجديد، وأصبحت أثراً بعد عين، مع ظهور الهاتف والحاسوب المحمول، ما جعل الإنترنت يأتي إليك في بيتك، بل في جيبك، بدلاً من أن تتكبد المشاق للوصول إليه، هكذا ينظر صهيب السنوسي، صاحب مقهى إنترنت سابقاً في بنغازي لأسباب الزوال السريع لهذه المقاهي في مدينته وبلاده والعالم أجمع.

وصول متأخر

وصل الإنترنت إلى ليبيا متأخراً في بداية الألفية، لأن نظام القذافي الحاكم في البلاد وقتها، كان ينظر بعين التوجس والريبة إلى وسائل الاتصال الحديثة، التي يرى فيها بوابة يطل منها المواطن على عالم، عزله عنه بستار حديدي أربعة عقود من الزمن.

ففي عام 1999، بدأ النظام منح التراخيص لافتتاح مقاهي الإنترنت، ولكن بشروط أمنية مشددة ورقابة صارمة على كل من يلج إلى الشبكة العنكبوتية في البلاد، وعلى الرغم من هذه الرقابة، شهدت مقاهي الإنترنت في البلاد إقبالاً واسعاً جداً وقتها، خصوصاً من فئة الشباب، الذين أبصروا عبرها جوانب جديدة من الدنيا، للمرة الأولى، بعيونهم لا بعين النظام.

لكن الظروف الآنفة الذكر، التي قُيّدت بها مقاهي الإنترنت، وحوصر بها روادها، إضافة إلى رداءة وبطء الشبكات، التي سُمح بدخولها إلى البلاد، جعلت ذكريات الليبيين مع هذه التجربة سيئة، ولم تدُم طويلاً، وأسهمت في اختفاء هذه المقاهي سريعاً، عندما غزت البلاد بعدها بسنوات قليلة الجوالات الحديثة وربطها بشبكة الإنترنت، ما أعطاهم مساحة أكبر من الحرية، في رحلاتهم اليومية بالفضاء الإلكتروني، بعيداً من أعين الرقيب.

ضوء أخضر وطفرة صغيرة

وأخيراً، بدأت ليبيا تشهد طفرة في قطاع الاتصالات عموماً والإنترنت خصوصاً، بعد منح الرئيس الراحل معمر القذافي إذناً بذلك، في خطابات رسمية شجع فيها على مواكبة الثورة التكنولوجية في العالم، معترفاً بأنه لا مفرّ من هذا الأمر، وأعلن أن هناك حاجة ماسة إلى "ثورة ثقافية". وأضاف، "يجب أن نوجّه اهتمامنا نحو خلق الإنسان الجديد، وأعني بذلك إنساناً متحضراً، يجب أن يتحقق ذلك حتى قبل أن نلتزم خلق تكنولوجيات حديثة، باتت تشكّل اليوم أمراً لا بد منه".

وبدأت ليبيا بعد هذا الضوء الحكومي الأخضر باعتماد خطة شاملة منذ نهاية عام 1999، تهدف إلى تصميم الربط التدريجي بشبكة الإنترنت، كان عمادها التوسع في منح التراخيص للراغبين في افتتاح هذه المقاهي، وارتفعت خلال عام 2000 نسبة عددها في المدن الرئيسة، (بنغازي وطرابلس وسبها وسرت والزاوية)، إلى أكثر من 3 آلاف مقهى باشتراكات مع الشبكة الليبية.

وكان التفاعل الشعبي بداية مع دخول خدمة الإنترنت إلى البلاد خجولاً للغاية وبنهاية 2000، لم يتجاوز عدد المستخدمين بحسب الإحصاءات الرسمية 10 آلاف شخص، كلهم من رواد المقاهي، لأن شبكة الهاتف الأرضي وقتها كانت ذات جودة سيئة، لا تسمح بربطها بالشبكة العنكبوتية.

وكان سبب انخفاض أعداد مستخدمي الإنترنت في ليبيا بتلك الفترة، يعود بشكل مباشر إلى أسعار تقديم الخدمة، التي كانت مرتفعة على نحو لافت، إذ كان سعر الساعة الواحدة يتراوح بين 10 دنانير إلى 20 ديناراً (15 دولاراً) بالسعر الرسمي وقتها، ولكن السنوات الأخيرة من عمر هذه المقاهي، شهدت إقبالاً أكبر عليها، مع انخفاض الأسعار حتى وصلت إلى دينار واحد للساعة، أما الاشتراك الشهري فكان في حدود 30 ديناراً شهرياً.

لكن حتى أقل الأسعار التي وصلت إليها خدمات الإنترنت التي تقدّمها المقاهي وقتها، كانت مرتفعة بالنسبة إلى العروض التي توفرها شبكات الهاتف الجوال، ما كان عاملاً إضافياً في اندثارها، في زمن قياسي.

 

 

رقابة صارمة

ومن أهم الأسباب التي جعلت إقبال الليبيين على مقاهي الإنترنت ضعيفاً وقت ظهورها، بالمقارنة مع ما كان عليه الوضع في بقية دول العالم، الرقابة الأمنية الصارمة التي فرضت على روادها، حتى إن المداهمات الأمنية عليها، كانت مشهداً مألوفاً في البلاد وقتها.

ويصف الصحافي الليبي يوسف الزاوي الظروف التي عانى منها مرتادو هذه المقاهي، قائلاً، "كان هناك الكثير من القيود على حرية تصفح الإنترنت داخل المقاهي، يشعر بها الليبيون، وصلت في فترات معينة إلى تسجيل أسماء مرتاديها لأغراض أمنية، وفرضت السلطات على أصحابها طرد أي شخص يُكتشف أنه يتردد على مواقع محظورة، مثل مواقع المعارضة أو المواقع الحقوقية، وكان هذا الأمر أحد شروط الحصول على ترخيص لافتتاح مقهى إنترنت".

يضيف، "كان من المألوف أيضاً، أن تجد الكثير من الملصقات فوق جدران مقاهي الإنترنت الليبية، وعلى أجهزة الكمبيوتر فيها، وعليها تحذيرات مشددة من الدخول إلى صنفين من المواقع الإباحية والمعارضة، وهذا الأمر جعل زائرين كثراً يخشون الذهاب إلى مقاهي الإنترنت".

يردف الزاوي، "كل ما سبق جعل عمر مقاهي الإنترنت في ليبيا أقصر من غيرها، خصوصاً مع ربط شبكات الإنترنت بشبكات الهاتف الجوال عام 2006 تقريباً، ما تسبّب في انفضاض الجميع عن هذه المقاهي، وبات معظمها يغيّر نشاطه، أو يغلق أبوابه منذ ذلك الحين، ولم يمرّ عام حتى باتت من الذكرى، وتلاشت بسرعة مقارنةً بدول أخرى، حيث استمرت هذه المقاهي، أو بعضها على الأقل، لسنوات تالية".

ويرى أستاذ الاتصالات والتقنية محسن محمد أن "التجربة السيئة التي عاشها الليبيون مع مقاهي الإنترنت من حيث رداءة الخدمة، والتضييق على حرية الوصول إلى المعلومة، عجلت بزوالها مع ظهور الهاتف المحمول"، مضيفاً "كان الإنترنت ضعيفاً ومحصوراً في مدن شمال ليبيا، وكانت سرعة الخطوط في المقاهي كارثية، لا تساعد على التصفح السلس للمواقع، ناهيك عن مشاهدة وتحميل الفيديو، الذي كان أمراً شبه مستحيل، وكل هذه المعاناة تقدم بأسعار باهظة. كل ذلك لم يسمح لمقاهي الإنترنت بأن تصبح جزءاً من الذاكرة الثقافية الليبية، أو يساعد على استمرارها لفترات أطول".

اختفاء مقاهي الإنترنت في السعودية

خلال فترة الذروة التي ازدهرت فيها مقاهي الإنترنت، كان حي النسيم في الرياض هو عاصمتها ومنطقة تنوع خياراتها في العاصمة السعودية، لكن اليوم، بالكاد يتم العثور عليهم، حيث لجأ العديد من ملاك تلك المقاهي إلى إغلاقها أو تحويلها إلى مقاهٍ عادية كما هي الحال مع وائل عرابي، مالك سابق لأحد مقاهي الإنترنت في المدينة، "لم تكن الأرباح التي تجنيها مقاهي الإنترنت عبر رسوم استخدام الأجهزة هي الدخل الرئيس لنا، فأسعار الإنترنت كان عالية ولا يمكن تغطيتها ببضعة ريالات يدفعها الزبائن". يضيف "لكن الدخل الحقيقي كان من مبيعات المشروبات والقهوة والوجبات الخفيفة التي كانت تباع داخل المقهى لزبائن يقضون ساعات طويلة فيها"، وهي العملية التي كانت تستهدف ذوي الدخل المرتفع من المواطنين والأجانب المقتدرين.

تابع عرابي، "لكن عندما بدأت مقاهي الإنترنت تفقد شعبيتها، مع ظهور الهواتف الذكية التي يمتلكها الكثيرون، بدأ المواطنون بالانسحاب، لحق بهم الأجانب المقتدرون بعد أن أصبحوا يملكون هواتف ذكية، كان الأشخاص الوحيدون الذين ظلوا يزوروننا قبل الإغلاق هم الأجانب الفقراء الذين لا يملكون حتى هاتفاً ذكياً، يأتون ساعة في الأسبوع ليتصلوا بعائلاتهم، من دون أن يبتاعوا مشروباً أو طعاماً، وهنا صارت المقاهي عالة علينا كملاك".

النت كافية في مصر

مثلت مقاهي الإنترنت ظاهرة كبيرة شهدتها الشوارع المصرية منذ سنوات فكان مشروع "النت كافية"، مثلما كان يطلق عليه وقتها مربحاً ويحقق حاجة كبيرة للناس، بخاصة الشباب قبل انتشار الإنترنت فائق السرعة في المنازل ووجود الهواتف الذكية في يد معظم الناس.

وعلى رغم انتشار مثل هذه المقاهي في المناطق السكنية باعتبارها تحقق خدمة لسكانها كان لها مناطق تمركز أمام الجامعات أو مجمعات المدارس حيث كانت تعتمد على تردد الطلبة عليها لاستخدام الإنترنت في إطار احتياجهم لإجراء أبحاث متعلقة بالدراسة أو البحث عن موضوع معين، وكان بعضها يقدم خدمات أخرى للطلبة مثل طباعة الأوراق أو كتابة الأبحاث، فقد كان محيط جامعة القاهرة الجامعة الأشهر في مصر ينتشر فيه مثل هذه المقاهي منذ سنوات، وكانت دائماً ما تمتلئ بالطلبة، إلا أن المنطقة نفسها الآن تخلو منها تماماً وتقتصر على المكتبات الخاصة ببيع الكتب وتصوير الأوراق بعد أن أصبح الانترنت في يد كل شخص على هاتفه المحمول. وفي عام 2004 أطلقت الحكومة المصرية مبادرة الإنترنت فائق السرعة (adsl) ، مما شكل تغيراً كبيراً وعمل على انتشاره في المنازل بصورة كبيرة .

خالد، مهندس كمبيوتر، افتتح مشروعاً لـ"النت كافيه" منذ سنوات يقول لـ"اندبندنت عربية"، بعد تخرجي مباشرة في كلية الهندسة عام 2005 افتتحت بشراكة مع زميل لي نت كافيه في منطقة السادس من أكتوبر أمام إحدى الجامعات الخاصة، وقتها كان هذا المشروع مطلوباً ومربحاً، وكان يعمل بصورة ممتازة والإقبال كبير، وكان اعتمادنا الأساس على طلبة الجامعة الذين كانوا يترددون على الكافية لمساعدتهم في إجراء الأبحاث والمهام المتعلقة بالدراسة، وكان سعر الساعة وقتها في حدود من جنيهين لثلاثة جنيهات (0.064 إلى 0.19 دولار أميركي).

يضيف، "استمر المشروع لسنوات يعمل بشكل جيد إلا أنه مع انتشار الإنترنت في المنازل ومع بداية انتشار الهواتف الذكية مع الناس بصورة كبيرة قل الإقبال تدريجياً، ومع التطور دفعنا الأمر إلى الإغلاق منذ سنوات، بخاصة مع انشغالنا بعملنا الهندسي".

ويشير محمود، طبيب صيدلي، "كنت أتردد على مقاهي الإنترنت في أثناء فترة دراستي الجامعية منذ 15 عاماً حيث تصادف وقتها وجود أسرتي خارج مصر في إحدى الدول العربية، فكان النت كافيه هو الوسيلة الأسهل والأرخص للتواصل معهم عبر البرنامج الشهير وقتها (MSN Messenger)، الذي كان بالطبع تكلفته أقل بكثير من المكالمات الدولية ولم تكن هناك وقتها مواقع للتواصل الاجتماعي مثل الآن، فالحياة في خلال السنوات الأخيرة اختلفت والانترنت أصبح في يد كل شخص من خلال هاتفه".

تقرير وزارة الاتصالات

كشف تقرير صادر عن وزارة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في مصر بشأن أماكن استخدام الإنترنت للأفراد والأسر المصرية خلال الربع الأول من عام 2020، أن نسبة أفراد الأسر المصرية التي تستخدم الإنترنت من المنزل بلغت نحو 95 في المئة، بينما عن طريق الجيران والأصدقاء نحو 53.9 في المئة، في حين كانت نسبة من يستخدمونه في الجهات التعليمية 25.2 في المئة، بينما في المرتبة الأخيرة جاءت نسبة الذين يستخدمونه في مقر العمل 13 في المئة، وأخيراً مقاهي الإنترنت 8.9 في المئة.

وأشار التقرير إلى أن اشتراكات الإنترنت فائق السرعة في مصر بلغت 7.53 مليون اشتراك، ومشتركي الإنترنت عن طريق الهاتف المحمول بلغ 39 مليون مشترك، وأن 95 في المئة من مستخدمي الانترنت في مصر يقومون بذلك من منازلهم لانتشار اشتراكات الإنترنت المنزلي ورخص سعره باعتبار أن المبلغ المدفوع سيمكن الأسرة كلها من الاستخدام طوال الشهر، هذا الوضع بالطبع يختلف كثيراً عن فترات مضت لم يكن النت في المنازل بهذه الكثافة .

 

 

تطور مقاهي الإنترنت

مع انتشار الإنترنت في المنازل وضعف الإقبال على هذه المقاهي، لجأ بعض أصحابها كبديل للإغلاق ومحاولة للتكيف مع الوضع بتغيير نشاطهم من الاعتماد على قدوم الزبائن لتصفح الإنترنت أو البحث عن معلومة معينة إلى الاتجاه للألعاب الإلكترونية وألعاب الـ"بلاي ستيشن"، التي يعتبر جمهورها الأساس من الأطفال والمراهقين لتنتقل مقاهي الانترنت، أو ما أصبح يطلق عليه "السايبر" من أمام الجامعات إلى أمام المدارس ومراكز الدروس الخصوصية حيث تجد جمهورها الأصغر وبخاصة في المناطق الشعبية أو ذات المستوى المنخفض نسبياً التي لا يتوافر عند معظمها مثل هذه النوعية من الألعاب من المنازل.

يقول مازن، طالب في الرابعة عشر من عمره، "أتردد أحياناً على السايبر مع أصدقائي بعد انتهاء اليوم الدراسي لنلعب ألعاب الـ(بلاي ستيشن) التي نفضلها، التي تختلف بالطبع عن الألعاب الإلكترونية على الهاتف، إلا أن ترددنا أصبح أقل أخيراً لارتفاع التكلفة التي وصلت في الفترة الأخيرة إلى 20 جنيهاً (1.27 دولار) في الساعة مقارنة بالعام الماضي".

جدير بالذكر أن الفكرة نفسها المتعلقة بالألعاب الإلكترونية تقدمها حالياً بعض المقاهي الفاخرة والفنادق والمولات لتوفير شكل من الرفاهية لروادها، ولكن بالطبع بأسعار مضاعفة ولجمهور مختلف.

مقاهي الإنترنت تغيب بشكلها الكلاسيكي في العراق

توسعت ظاهرة مقاهي الإنترنت في العراق بعد عام 2003، حيث كانت حلقة الوصل بين من يعيش فيه، والمغتربين في مختلف دول العالم. فالمقهى أتاح وسائل تواصل بكلفة أقل من الهواتف في وقتها، ولكن مع ثورة الاتصالات والميزات التي أتاحتها الهواتف الذكية، انحسرت مقاهي الإنترنت بشكلها الكلاسيكي المعروف، فأصبح تصفح الأخبار والاتصال عبر الفيديو وإرسال الإيميل والتقديم للدراسة والعمل يتم عبر الهاتف، ومن دون الحاجة لزيارة هذه المقاهي.

التواصل مع الأهل

"كنت أعتمد على مقهى الإنترنت للحديث مع إخوتي المغتربين في أوروبا"، تحدثنا براء عمار عن تجربتها عندما كانت تتردد إلى مقهى قريب من عملها. وتقول، "كنت أجهل استخدام جهاز الحاسوب وكيفية إرسال الماسنجر، كنت أعتمد بالكامل على موظف المقهى ليعلمني طريقة استخدام الماسنجر، وأزالوا العقبات التي كنت أواجهها".

أما مازن التميمي فقال، "أكملت مرحلة البحث في الدراسات العليا عندما كان الاتصال عبر الإنترنت وسيلة غير متاحه للجميع، فكنت أقطع مسافة للوصول إلى مقهى الإنترنت في مركز العاصمة بغداد لأقوم بإجراء البحث، وأحاول أن أركز كل جهدي خلال ساعة واحدة، فالساعة كانت مكلفة بالنسبة لي".

 التميمي يتمنى لو أنه تمكن من إكمال دراسته في الوقت الحالي، لاختصرت له الوسائل الحديثة كثيراً من الجهد والوقت، "يمكنني الوصول لأي معلومة ما دام لدي هاتف ذكي مزود بالإنترنت".

اختلاف طريقة تسويق الإنترنت

يوضح المتحدث باسم فريق التقنية من أجل السلام بحر جاسم، إن طرق تسويق الإنترنت اختلفت في الوقت الحالي عن أيام المقاهي الكلاسيكية. ففي السابق لم تكن الحواسيب الشخصية متاحة للجميع، كما لم تكن خدمة الإنترنت تصل إلى جميع الأماكن، ولذلك انتشرت المقاهي التي تتكون من قاعة تضم أكثر من جهاز، وكانت كلفة استخدام الإنترنت ألف دينار عراقي للساعة الواحدة.

وأوضح جاسم أن مقاهي الإنترنت اختفت بشكلها الكلاسيكي، فمع ثورة الاتصالات والهواتف الذكية، أصبح اللجوء إلى المقاهي التي تقدم المشروبات والأكل الخفيف، فضلاً عن توفير خدمة إنترنت مجانية وسريعة، بالتالي أصبح اختيار المقهى بناء على ما يوفره من خدمة إنترنت سريعة وجيدة، وعليه فإن هذه الميزة أصبحت وسيلة لجذب الزبائن وليست لجني الأرباح، لأنها غالباً مجانية.

الخصوصية تأتي في المقدمة

ويتابع المتحدث باسم فريق التقنية من أجل السلام، أن الحفاظ على الخصوصية في استخدام شبكات الإنترنت يأتي في المقدمة حالياً، فلا يمكن تخيل إمكان استخدام الإيميل من شبكات غير معروفة وحواسيب أو هواتف غير شخصية، فكل هذه عوامل أدت إلى غياب مقاهي الإنترنت.

ويرى أن ثورة الاتصالات الحالية قدمت كثيراً من التسهيلات. ويضيف، لو أن وباء كورونا ظهر في العراق عامي 2003 و2004 لتوقفت الجامعات والمدارس بسبب غياب التعليم عن بعد، فثورة الاتصالات وخدمات الجيل الجديد جعلت الإشعارات تصل إلى الهواتف بوقت قياسي، وخدمات التوصيل تتم عبر الهواتف الذكية، وعليه فلا يمكن تخيل الحياة حالياً مع وجود المقاهي الكلاسيكية التي تتطلب ترك المنزل والسير مسافات طويلة، لغرض متابعة الإيميل أو تصفح الإنترنت.

المزيد من تحقيقات ومطولات