طرحت صحيفة "التيار" مبادرة "تصفير السجون" في التاسع من سبتمبر (أيلول) 2019 لإفراغ السجون السودانية، وعبّر عنها عثمان ميرغني، رئيس المبادرة ورئيس تحرير الصحيفة عبر المنصة التابعة لها، معتبراً أن "الزوجة التي يُحبس زوجها، والبنت والابن، كلهم يدخلون زنزانة مفتوحة الأبواب والأسوار لكنها أكثر إغلاقاً ممَن هم خلف جدران السجون، أما أصحاب الجرائم الأخرى من مخدرات وغيرها، فهم أيضاً حملتهم رياح الظلم على أجنحتها حملاً إلى غياهب السجون".
وانقسم الرأي العام حول هذه الحملة إلى قسمين، الأول يرى بعداً إنسانياً في المبادرة ويتعاطف مع أحوال السجناء بغض النظر عن نوع الجرائم المحكوم بها عليهم، والثاني يعتقد بأن الاستجابة للمبادرة جاءت سريعة من دون دراسة وتصنيف قانوني ونفسي واجتماعي، ما أدى إلى آثار وخيمة انعكست على الأمن المجتمعي وترويع المواطنين بظهور تفلتات أمنية وسطو على المنازل في أحياء الخرطوم المختلفة، وجاء ذلك على إثر إطلاق 4217 نزيلاً من سجن الهدى بمدينة أم درمان وسجن كوبر بمدينة الخرطوم بحري تحت رعاية عضوة مجلس السيادة عائشة موسى.
مسار المبادرة
وقال ميرغني "بعد انتصار ثورة ديسمبر (كانون الأول)، وردتنا في صحيفة التيار اتصالات من بعض النزلاء يربطون الأسباب التي أدت بهم إلى غياهب السجون بسياسات النظام السابق. كوّنّا لجنة فيها بعض من كبار القانونيين ومن بينهم نائب رئيس القضاء الأسبق، ورأوا تشكيل منظمة دائمة تتعهد قضايا السجون من الأوجه التالية: إصلاح بيئة مراكز الاحتجاز ورعاية الأسر التي تتضرر من غياب عائلها في الحبس ومساعدة من يخرج منه في الاندماج بالمجتمع والحصول على مصدر رزق"، بعدها كتبت في عمودي "حديث المدينة" بالصحيفة أدعو فيه إلى مبادرة "تصفير السجون"، وهي تقوم على أساس إعادة دراسة النزلاء، كل حالة على حدة وإطلاق من لا يهددون الأمن.
وتابع أن "المبادرة التقطها المدير العام للشرطة الفريق أول عادل بشائر، واجتمع معنا في مكتبه، وأعلن تبنّيها وأضاف إليها السجناء خارج السودان. كما كلّف إدارة السجون دراسة ملفات الموقوفين في كل البلاد، واستغرق الأمر حوالى خمسة أشهر، ثم رفعوا تقريراً مفصلاً عن كل السجناء"، "وبعد ذلك تواصلنا مع عائشة موسى، عضوة مجلس السيادة لأن الأمر كان يتطلب عفواً رئاسياً، ووافقت على تبنّي الأمر. وبعد فترة صدر العفو الرئاسي محدداً بأسماء معينة عن طريق النائب العام، وذهبوا واحتفلوا بذلك في سجن الهدى، تم تجاهلنا تماماً لحظة الاحتفال ولم تُوجّه إلينا دعوة للمشاركة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مقترح إصلاح
وعن الخطوات التالية، صرح ميرغني "أُطلق سراح نحو 4217 نزيلاً من أصل حوالى 20 ألفاً كانوا في السجون لحظتها. ولم يكن لدي أي علم بالذين أُطلق سراحهم لأن المسألة بالكامل أشرفت عليها إدارة مراكز الاحتجاز، وصدر الأمر من النائب العام مفصلاً بالأسماء. واقتصر العفو على سجني كوبر والهدى فقط، على أن يسري بالتتابع على بقية السجون، لكن ذلك لم يكتمل حتى الآن. أما الخطوات التالية، فهي تتعلق بجمع أموال لإطلاق المعسرين، خصوصاً في قضايا النفقات والإيجارات وما شابهها، وهناك اتفاق على التقدم بمقترح مشاريع لتعديل بعض القوانين التي تتسبب في تكدّس السجون، ومنها على سبيل المثال تعليق تنفيذ أحكام الحبس في المحاكم لحين بتّ الاستئناف للدرجات الأعلى".
موجة انتقادات
وثارت موجة انتقادات في الصحف ووسائل التواصل الاجتماعي على إثر إطلاق المسجونين، تزامنت مع تفاقم الأزمة الاقتصادية وفوضى أمنية، فسُجلت في محاضر الشرطة بلاغات عن سلب ونهب وسطو منزلي، أدت في بعض الحالات إلى وقوع ضحايا. وأبرزها كان الحادث الذي أعلنته وزارة الداخلية في بيانها بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، والذي وقع في محلية كرري حيث "تحركت قوة من الشرطة بناء على بلاغ بعملية سرقة، وعند وصولها قبضت على أحد المتهمين، ثم توجّه المتهم الأساسي الذي كان فاراً إلى مسرح الجريمة واعتدى على أحد أفراد الحراسة هناك، واستولى على سلاحه. بعد ذلك، تحرك إلى مركز الشرطة وأطلق أعيرة نارية على قوة القسم، وأصاب أحد أفراد القوة ولاذ بالفرار ومعه سلاح كلاشنيكوف يخص أحد المصابين. وعند اللحاق به في منزله، أطلق أعيرة نارية أصابت ملازماً ووكيل عريف، أدت إلى مقتلهما في الحال، وتمت مطاردته وتبادل إطلاق النار عند أحد الجبال بالمنطقة، أسفرت عن مقتله".
وعن هذه الانتقادات، أوضح ميرغني أن لا أساس لها، لأن الآلاف الذين خرجوا من السجون أصبحوا مواطنين عاديين يمارسون حياتهم وأنقذوا أسرهم من التفكك. كما أنه ليس هناك دليل قاطع على أن مرتكبي الجرائم هم ممَن استفادوا من العفو". وأضاف "في كل الأحوال، فإن المبادرة لا علاقة لها بتحديد المستفيد المباشر من العفو لأن الشرطة هي التي اختارت مَن يُطلَق سراحهم والنائب العام هو مَن أصدر الأمر".
فوضى ضاربة
في المقابل، اعتبر الطاهر ساتي، رئيس تحرير صحيفة "الصيحة" أن "إطلاق سراح النزلاء له شروط معروفة محلياً ودولياً، وللأسف، فإن ما حصل هو عبارة عن فوضى تبدأ من شعار المبادرة الذي يقول تصفير السجون، وذلك بإطلاق كل الموقوفين حتى غير مستوفي الشروط. ويبدو جلياً أن الهدف من هذه الحملة إخلاء السجون من كل شاغليها، ولذلك أطلقوا أعداداً كبيرة من غير مستوفي الشروط، منهم مغتصبو أطفال ومتحرشون بهم. ومن المعلوم أن السجناء المحكوم عليهم بهذه التهم يكونون تحت الرقابة، وحتى بعد أن يكملوا فترتهم، يظلون تحت الرقابة لمدة زمنية يُقرّر بعدها أن يُتركوا لحال سبيلهم".
وأردف ساتي "من بين مَن أُطلق سراحهم كبار تجار المخدرات وأصحاب سوابق، من دون الخضوع لأي معايير أو شروط يتم تنفيذها أو تطبيقها. وفي رأيي إنه عمل سياسي يدفع ثمنه المجتمع، إذ إن كثيراً من التقارير تفيد بأن معدل الجرائم، خصوصاً جرائم النهب والسرقة، ارتفع بعد خروج السجناء، إضافة إلى أن الشرطة أصبحت غير متحمسة لفتح البلاغات ومطاردة المجرمين، وترى ألا داعي لأن تقوم بذلك طالما سيُطلق سراحهم مرة أخرى".
وتابع رئيس تحرير صحيفة "الصيحة" أنه "يمكن تتبّع آثار هذه الحملة في سجلات الشرطة وفي أطراف الخرطوم وفي كثير من المناطق داخل العاصمة، حيث عمليات النهب والسرقة والخطف وتجارة المخدرات عادت أكبر مما كانت عليه، هذه كلها من آثار ما سُمّي بتصفية السجون. وربما يلفت ذلك الأنظار إلى البحث عن المستفيد من هذا المشروعوهدفه، وهل هي كلمة حق أريد بها باطل؟ وللأسف ما كان على السلطات أن تستجيب لحملة غير مسؤولة وتنفذها، وتخضع لها من دون خطة ودراسة، ومن دون استشارة وتطبيق للمعايير".
واقع جديد
في سياق متصل، قال نصر الدين يوسف المحامي، عضو الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين، إن "الإفراج عن المحكوم عليهم يتم بموجب مقتضيات الباب السادس في قانون الإجراءات الجنائية لعام 1991 وهي سلطة العفو وسقوط الإدانة والعقوبة، وهي المواد من 208 وحتى 211، ويشترط في ممارستها ألا تشمل جرائم الحدود والقصاص، وبعد التوصية من النائب العام الذي كان في السابق هو وزير العدل". وأضاف أن "مسألة الإفراج ينبغي ألا تؤسس لواقع جديد لفقدان الأمن وهو واجب السلطات والشرطة، أما مؤسسة السجون فهي ليست المسؤولة عن توفير الأمن لأن تنفيذ العقوبة داخل مؤسسة السجن أصبح يخضع للدراسات النفسية والاجتماعية ودراسات علم الإجرام. والآن رجحت فكرة الإصلاح وإعادة تأهيل السجناء، وهذه هي المفاهيم العامة في المجتمع الدولي والسودان جزء منه".
حذر واجب
أما العقيد معاش جمال شندقاوي، فرأى بدوره، أنه "يُفترَض اعتماد الحذر في مسألة السجناء، وأي محتجَز يحتاج إلى رعاية خاصة بعد خروجه وقضاء فترته، لأن السلوك الإجرامي يُصنَّف كعادة من الصعب التخلي عنها مباشرة بعد إطلاق سراح، ويُنتظَر حتى يُثبَت العكس. وخلال ذلك، يخضع المفرَج عنه لرقابة لمدة ستة أشهر على أقل تقدير لمواكبة سلوكه، والتأكد من أنه لن يقدم على ارتكاب جريمة، فإطلاق الحريات يتم تدريجاً حتى لا يعود إلى دائرة الإجرام". وأضاف أن "جزءاً كبيراً من الجرائم الحاصلة الآن في الخرطوم من السجناء الذين أطلق سراحهم، إضافة إلى أن هناك عملاً مضاداً للثورة، بتوجيه من جهات معيّنة استغلت عصابات النيقرز وبمقابل مادي على هذا العمل، بحسب ما يتوارد، وهو عمل منظم وظل يتكرر في أحياء الخرطوم المختلفة، وبالوسيلة ذاتها بتتابع وبشكل ممنهج، وهذا ما خلق بلبلة وزعزعة في كل الخرطوم وأدى إلى هلع عام، والغرض من ذلك أن يصل الناس إلى التسليم بأن انعدام الأمن وعدم الاستقرار ناتج من الحكومة الانتقالية، وبالفعل كاد البعض أن يتحسّر على النظام السابق".
وتابع "أثناء عملي السابق في مكافحة المخدرات، عندما يكون هناك عفو عام عن السجناء المحكومين في جرائم مخدرات، فلا يُطلَق سراحهم بل نعترض على ذلك، ونحدد المحتجزين من غير هذه الجرائم، لأن تاجر المخدرات لا بدّ من أن يقضي عقوبته كاملة كي يرتدع".