Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

كورونا اليأس القاتل!

"البشرية المحاصرة متوحدة غصبا عنها في أسلوب المجابهة وقد فقدت أي وسائل دفاع موثوقة"

إذا كانت البشرية تعيش الخوف حاضرا فالمشكلة الحقيقية هي أنها تخشى الجوع غدا (أ ف ب)

"أكرر ما قلته مرراً، هذا العالم ليس سيئاً، ولكن طريقتنا التي ننظر بها إليه هي الرديئة". هنري ميلر

تدافع اللندنيون في محطات القطارات، هرباً من الطور الجديد من الفيروس المستجد، من دون أي اعتبار للزحام، وأثر ذلك في انتشار الفيروس. الهاربون غير الحريصين على إمكانية نقل المرض، يتدافعون في ما يشبه الانتحار الجماعي.

ما حصل في لندن، يشبه ما شاهدته أثناء زيارتي لمدينتي "بنغازي"، حيث لا شيء يوحي بوجود الجائحة، وأن الخطر يرتع في الشوارع، لا كمامة، لا تباعد جسدي، لا وجود لأي مظهر صحي ضروري، حتى في العيادات الطبية والمستشفيات، والصيدليات، وقد ينظر أهل المدينة للمتكمم باستغراب. ومن هذا الحال، تداعت الذاكرة بما يشبه ما حدث في لندن، وما يحدث في بنغازي، وتظاهرات باريس التي لا تتوقف، ومثلها في إسبانيا وألمانيا. وحيث أعيش في القاهرة، تنتشر حالة عدم التحرز من الجائحة، وتكثر التفاسير عند آل المدينة حول عدم الحذر، وعدم الانصياع للتحذيرات الصحية، التي تُبث في فضاء البلاد وخارجها.

هذا ما يطغى في الشارع، وفي مدن متنوعة من العالم، يقابَل بشح التفسير، وقلة البحث في هذه المسألة، التي تعم الدنيا، أعني مواجهة الجائحة باللامبالاة، وفي ذات اللحظة، بالتدافع والزحام في الهروب. وبين الحالتين المتباينتين كثير من التشابه، أو كما يُقال في لغة القانون، اختلاف في الشكل واتفاق في الموضوع، وهذا حدث بين شعوب تبدو على طرفَي نقيض، كما يمكن أن يقال حول مدينتي لندن وبنغازي. والمحير في الأمر هو ازدياد غموض الجائحة، والتباس الفيروس، على الرغم من تدفق الحديث الطبي، الصحي العلمي، وحتى اللاعلمي، الذي تفاقم وانتشر. أضف إلى ذلك، فإن نتائج كورونا، وآثار الحرب المخاضة ضده، لا تلقى اهتماماً مستحقاً، وإن وجد فإنه لا يشفي غليل أي متعطش للمعرفة أو باحث حصيف.

بعد أن عمت اللامبالاة، جاء اللقاح فانتشرت حالة ريبة فيه، وحتى رفضه من قبل قطاع واسع في بلدان عدة، ما كثف الأسئلة حول الأحوال البشرية، التي ظهرت مع هذا الحدث، الذي لا مثيل له في التاريخ البشري تقريباً، وما حققه من ردود أفعال متباينة ومتشابهة كما أوضحنا، خصوصاً ما تمثل من فوضى وهلع، ثم هيمنة اللاعقلانية، وما واجههُ العلم من ضغط، مرفقاً بجنون العلماء، الذين تحول بعضهم إلى ساسة أو منظرين فكريين، فنجوم تلفزيون.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

كورونا كان الكشاف، حيث سادت اللاعقلانية وردود الفعل اللامنطقية، وتمظهر المشهد الاجتماعي أحياناً، في حال يشبه الانتحار الجمعي، كما وصفنا المشهد اللندني. لقد عشتُ تجربةً في السجن، جعلتني أستعير منها اصطلاح "الانتحار الجمعي"، حيث كانت تجتاحنا حالة من المقاومة الانتحارية، تشبه تدافع البقر على مذبح، عندما يُمارس ضدنا عنف مميت. وفي تلك الحالة نبدو كمن يسير نائماً إلى حتفه، يكون سيد الموقف هو اليأس القاتل الذي يجعل من البشرية "شمشون"، الذي هدم المعبد عليه وعلى أعدائه، فالبشرية المحاصرة متوحدة غصباً عنها في أسلوب المجابهة، وقد فقدت أي وسائل دفاع موثوقة. هنا والآن تساوى الفيروس والمضاد للفيروس، كل منهما شكل للمجهول، الذي يشبه الموت زوج الحياة، ويتمظهر كانتحار جمعي، هو نوع من مقاومة مَن لا سلاح لديه غير اليأس.

الخطر وقد تجلى يأساً هو الدافع الحق للتدافع من أجل الحياة، فيكون ما يشبه الانتحار الجمعي، الذي يجعل البشر من دون عقل في مواجهة اللامعقول، فالحاصل لا يخص حاضراً سيزول، بل يبدو أن الخطر يهدد المستقبل، حيث ليس ثمة معلوم مؤكد في ما يخص ما بعد كورونا.

وإذا كانت البشرية تعيش الخوف حاضراً، فالمشكلة الحقيقية هي أنها تخشى الجوع غداً، ومن هذا الخوف تولد اليأس القاتل، لكن هذا اليأس مشفوع بروح تحدي المجهول. ويعرف كثير منا أن حيثية البشر جُبلت على التناقض، فالإنسان هذا المخلوق العجيب دافعه القوي للحياة هو الخوف من الموت. وما يتم الآن من توجس من اللقاح مبعثه العلم نفسه، الذي قال إن أي لقاح يحتاج إلى سبل تختلف عما حصل من تدافع، لاختراع مضاد صاروخي وفي ظروف طارئة. نعم أكد العلماء أن درجة الأمان عالية فيما يخُص اللقاح، لكن قبل وأكدوا أن النهج غير ما فرضه كورونا، التحدي الأكبر للعلم وفي لحظة مفارقة. المفارقات كانت ديدن هكذا فيروس، فكانت ردود فعل البشرية مفارقات، كما سيناريو في فيلم أكشن أميركي، كل ما فيه متوقع سلفاً من حيث السياق، لكن المشاهد يتلقى مفاجآت متتالية، ختامُها مسك.

المزيد من آراء