Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

اضطراب الأنظمة السياسية عالميا

تصدى الغربُ في أميركا وأوروبا لموجات الهجرة واللاجئين لأسباب اقتصادية، رغم أن الأولى في الأساس دولة مهاجرين

مارجريت ثاتشر وميخائيل جورباتشوفو الذي أطلقت إصلاحاته شرارة انهيار الاتحاد السوفيتي. (رويترز)

تعرضت النظم السياسيَّة في الخمسين سنة الماضيَّة، بمختلف أشكالها، لهزات عديدة ومتنوعة، جعلت المجتمع الدولي حائراً بين الماضي والحاضر والمستقبل، لأن أعضاءه يتعاملون مع التطورات بسطحية مبالغة، وبهدف أساسي، وأحياناً وحيد، وهو إثبات نجاح تجربته وفشل تجارب الآخرين، رغم أنه منطقٌ لا يتفق مع فلسفة ميثاق الأمم المتحدة، الذي وُضِعَ في أعقاب الحرب العالميَّة الثانيَّة لمنع نشوب حروب كبرى أخرى، وتحدث عن العالم والشعوب، باعتبارهم وحدة متكاملة مع احترام السيادة والخصوصية.

 في الربع الأخير من القرن الماضي تفتت الاتحاد السوفييتي إلى عدة دول، وانهارت الكتلة الشرقيَّة، واتجه أعضاؤها إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بل حتى إلى الحلف الأطلنطي بعد انهيار حلف وارسو، وكان من أهم أسباب التوتر الجديد بين الولايات المتحدة وروسيا نشر صواريخ على أراضي بولندا، وعدم الالتزام الأولي بتعهدات أميركية سابقة بعدم جنوح الحلف الأطلنطي عسكرياً شرقاً.

وذهب الغربُ يتباهى بأن هذا دليلٌ على أن النظام الليبرالي الديموقراطي الرأسمالي أفضل من النظم الشرقيَّة الأكثر مركزية، والأميل إلى الشيوعيَّة أو الاشتراكيَّة، وانتشع وتشجَّع لنشر فلسفته وعقائده عالمياً.

وعندما انفجرت الصحوات العربيَّة، ورحل عددٌ من قياداتها عن الحكم في مصر وليبيا واليمن، واشتعل الوضع في سوريا، زاد الغرب ثقةً في صحة ادعاءاته، منتعشاً بأن نظامه الرأسمالي الليبرالي أصبح ساطعاً ومنتشراً في ساحات ومجتمعات وثقافات جديدة ومتنوعة.

 كل ذلك تم وتكرر، إلى أن بدأت تداعيات عصر العولمة الاجتماعيَّة والفقهيَّة تلاحق مزاياها الاقتصاديَّة، فبرزت التناقضات بين الغني والفقير بين الدول وفي داخلها، خصوصاً أن الفوارق بين الطبقات زادت، وتضاعفت كثيراً حتى في الدول المتقدمة، واتجه بعض الدول الصناعية إلى إجراءات حمائيَّة لتأمين جدوى بعض صناعتها وأسواقها من منافسات دول منتجة أقل تكلفة، بما فيها الولايات المتحدة رغم أنها أكثر الدول استفادة من العولمة.

وتصدى الغربُ في أميركا وأوروبا لموجات الهجرة واللاجئين لأسباب اقتصادية، رغم أن الأولى في الأساس دولة مهاجرين، وأن من أهم مبادئ الاتحاد الأوروبي حريَّة حركة المواطنين عبر الحدود، وبرزت التيارات السياسيَّة اليمينيَّة، التي كانت كامنة منذ الحرب العالميَّة الثانيَّة في النمسا والسويد وإيطاليا ودول شرق أوروبا وغيرها، داعيةً إلى الحفاظ على الهُوية، وصوّتت بريطانيا لصالح الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، رغم أن هذه النظريات والمواقف تتعارض مع الديموقراطية والعولمة وفتح الأسواق وتداول السلع والعمالة، التي كان يروّج لها العالم الغربي.

وللأسف جاء رد فعل روسيا وكثير من الدول المركزيَّة الشموليَّة قاصراً، وسطحياً كذلك، حينما دفعوا أن كل ذلك دليلٌ على فشل النظريَّة الديموقراطيَّة، وتأكيدٌ جديدٌ على أن المركزيَّة هي أكفأ النظم، وأكثرها استقراراً، طارحين الأمر أيضاً على أنه دليلٌ على انتصار نظرياتهم على النظريات الغربيَّة، وتمييز الشموليَّة على الديموقراطية.

ولم تُستثنَ آسيا من هذه الاهتزازات النظاميَّة، بل سبقتها بالحرب الثقافيَّة في السبعينيات، التي هزَّت الصين، وأغلقت على أثرها الجامعات عشر سنوات تجنباً للتظاهر والتنوير، إلى أن عادت الصين نفسها، ووضعت طريقها بنموذج حكم مختلف، بالاحتفاظ بالمركزيَّة الأحادية السياسيَّة مع التحرر الاقتصادي بمفهوم قطاع الأعمال الغربي، وأصبحت زيادة عدد البليونيرات في الصين أكبر من نظرائهم في الولايات المتحدة.

 تُرجم التحرر في تطبيق نظم اقتصاديَّة على النمط الغربي إلى نمو اقتصادي سريع، مع بقاء النظام السياسي بمركزيَّة شديدة حول الحزب الشيوعي الصيني، بما يسمَّى "الصيغة الصينية"، وأعطى للصين ثقة بالغة، جعل رئيسها يعلن في ملتقى دافوس الرأسمالي استعداده الريادة في الإصلاح والانفتاح الاقتصادي العالمي، فجاء الردُّ الغربيُّ أن هذه المعادلة أو "الصيغة الصينية" لن تدوم كثيراً، باعتبار أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين الملكيَّة الشخصيَّة ومشاركة الفرد في نظام الحكم بأسلوب ديموقراطي، مرة أخرى واضعاً المسألة في إطار الغالب والمغلوب.

أمَّا التقييم والمراجعة الموضوعيَّة للنظم السياسية المختلفة فلا بد أن ينتهي إلى أن أغلب الأنظمة العالميَّة له مزايا وعيوب، فعلى المدى الطويل ثبت أن اقتصاد السوق هو الأكفأ والأزهى إنتاجاً ورواجاً، علماً أن هناك صيغاً كثيرة لاقتصاد السوق، وأميلُ شخصياً إلى تجربة دول شمال أوروبا الرأسماليَّة، مرتفعة الضرائب، لتوفير خدمات اجتماعيَّة واسعة للأقل كفاءة وثراء.

من ناحية أخرى، لا غبار على أن الأنظمة السلطويَّة المركزيَّة هي الأقدر على التعامل مع الأزمات الوطنية قصيرة الأجل، خصوصاً الأمنيَّة منها الطارئة، لذا تشمل كل الدساتير، بما في ذلك دول العالم الغربي الديموقراطي، نصوصاً ومواد تجيز الإجراءات الاستثنائيَّة، التي تحد من الحريات لمدة محدودة، إذا طرأ تهديد لأمن واستقرار البلاد.

هذا، ونجد أن أغلب دول العالم، حتى البعيدة عن الديموقراطية الكاملة، ينظّم أسلوباً لمشاركة المواطن في إبداء رأيه في أداء الحكومة، بالشورى والإطار البرلماني في الدول العربيَّة، وبانتخابات رئاسيَّة وبرلمانيَّة حتى في الدول الشيوعيَّة سابقاً، مثل روسيا، التي تبادل فيها الرئيس بوتين ورئيس وزرائه منصبيهما احتراماً لمبدأ تداول السلطة والحدود القصوى لعدد المرات المسموح لرئيس الدولة بأن يجدد فيها ولايته.

وأعتقد أن أول درس نستخلصه من كل هذه التجارب والتحديات هو أن نسبةً غير قليلة من شعوب العالم، وبصرف النظر عن أسلوب الحكم، لم تعد تشعر بأن قياداتها تمثلها، وتراعي مصالحها بالشكل الكامل، ولذلك ظهر تيار متنامٍ رافض السياسيين التقليديين والأنظمة السياسيَّة، التي أقيمت عقب الحرب العالميَّة الثانيَّة شرقاً وغرباً، وظهر تيارٌ جاذبٌ السياسيين غير التقليديين، منذ تجربة غوربتشوف قبل يلتسن في الاتحاد السوفييتي، أو أوباما بعد بوش الابن في أميركا، أو فوز ترمب على السيدة كلينتون، وأمثلة عديدة أخرى في قارات العالم وربوعه. 

الخلاصة، أن النظم الديموقراطية أو المركزية بها عناصر قوة وضعف، وأن المسألة ليست في اختيار نمط على الآخر، إنما الدرس المستفاد من الأزمات، التي تتعرض لها مختلف هذه الأنماط السياسية، هو أن شعوبَنا غير مرتاحة إلى نظم الحكم، وأن أغلبها فشل في التواصل مع مواطنيها بالقدر الكافي، إذ ما زلنا نعيش في ظل مواءمات المنتصرين في الحرب العالميَّة الثانيَّة، في حين أن المطلوب هو نظامٌ دوليٌّ أكثر إنصافاً، وكما أن من الأهمية بمكان على المستوى الوطني بلورة معادلة مجتمعيَّة جديدة بين الحاكم والمحكوم، تحافظ على الهُوية الوطنيَّة والنظام العام، وتستجيب بشكل أفضل إلى طموحات شعوبنا، ورغبتها في المشاركة تحقيقاً لأوضاع أكثر عدلاً واستقراراً.

المزيد من آراء