قلب اعتذار الرئيس المكلف تشكيل الحكومة اللبنانية مصطفى أديب عن التأليف الطاولة على رأس المعطلين، طارحاً أكثر من علامة استفهام حيال مصير المبادرة الفرنسية التي أطلقها الرئيس إيمانويل ماكرون، فضلاً عن مصير الدعم الدولي والبرنامج مع صندوق النقد الدولي، الذي كان يعوّل عليه بقوة بغية إخراج البلاد من قعر الانهيار الاقتصادي والإفلاس.
بات ثابتاً مع اعتذار أديب عن تأليف الحكومة أن أبواب الجحيم، الذي بشّر به رئيس الجمهورية ميشال عون، قد فُتحت على مصراعيها، واضعة البلاد أمام أسوأ الاحتمالات وعلى مختلف الصعد. فالاستقرار السياسي والأمني الهش أساساً بات في خطر، كما أن الأوضاع الاقتصادية والمالية والاجتماعية المتدهورة أصلاً دخلت مرحلة حرجة جداً في ظل ارتفاع حدة المخاطر وتراجع حظوظ الحصول على دعم دولي، من خلال برنامج مع صندوق النقد.
الأهمية المعلّقة على مبادرة الرئيس الفرنسي لا تقف عند حدود الحل السياسي الذي اقترحه على القوى السياسية للخروج من عنق الزجاجة، من خلال حكومة مهمة، تحصر أولوياتها بالشأنين المالي والاقتصادي تمهيداً لإقرار الإصلاحات المطلوبة ومكافحة الفساد، استعداداً للدخول في البرنامج مع الصندوق، الذي على أساسه ستحظى الحكومة بالمساعدات الخارجية. لكن أهميتها تكمن في هذا الشق بالذات، باعتبار أن باريس المدركة لحجم الكارثة الاقتصادية والمالية في لبنان، تسعى إلى إبعاد كأس السياسة الأميركية الضاغطة بالعقوبات عن اللبنانيين وعن تجرّعهم نتائج وتداعيات الدبلوماسية الخشنة التي قررت اعتمادها من أجل خنق "حزب الله" وإضعاف نفوذه، علماً أن باريس تدرك أن مبادرتها لا تعدو كونها شراء وقت، خصوصاً أن أي عقد سياسي جديد وعد به ماكرون غير قابل للتحقق في ظل الصراع الداخلي على السلطة، وهو عملياً مرآة عاكسة للصراع الإقليمي من جهة والدولي بين واشنطن وطهران من جهة أخرى. وهذا الصراع اليوم في ذروته، في ظل رهان محور الممانعة على تغيير مرتقب في البيت الأبيض، يخرج الرئيس الأميركي دونالد ترمب لصالح عودة الديمقراطيين إلى السلطة، بسياستهم المرنة تجاه طهران.
لا دعم ولا برنامج مع صندوق النقد؟
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في المقابل، تدرك باريس أن يداً واحدة لا تصفّق ما لم تحظَ برعاية أميركية. وعليه، فإن أي تعويل لبناني على فرنسا وحدها لن يكون كافياً لتأمين العبور الآمن نحو الصندوق. فباريس وحدها غير قادرة على شحذ الدعم الدولي من دون التوقيع الأميركي. وهذا الأمر سيتبلور خلال الأسابيع القليلة المقبلة مع رصد حظوظ نجاح العاصمة الفرنسية في عقد المؤتمر الدولي للدعم منتصف أكتوبر (تشرين الاول) المقبل، وهي قليلة ما لم يطرأ ما يخرق حال الغموض السائدة حيال مستقبل المبادرة الفرنسية.
وعليه، تستبعد مصادر مالية رسمية أي حلول قريبة تفتح الباب على البرنامج مع الصندوق، انطلاقاً من مجموعة عوامل أهمها أن حكومة المهمة سقطت باعتذار أديب عن التأليف، بالتالي، فإن الأمور عادت إلى المربع الأول، أي إلى الاستشارات النيابية الملزمة للتكليف، في ضوء غموض تام حول الشخصية التي ستتم تسميتها، وإن كانت الأصوات التي بدأت ترتفع مطالبة بحكومة وحدة وطنية تؤشر إلى عودة حظوظ الرئيس الأسبق للحكومة سعد الحريري لترؤس هذا النوع من الحكومات. وهذا المسار سيزيد الوقت الضائع الذي يستغرقه مسار التأليف، بعدما استنفد تكليف أديب ومشاوراته شهراً كاملاً من دون تحقيق أي خطوة إلى الأمام، فيما الأوضاع المالية والاقتصادية إلى مزيد من التدهور. وكان كافياً إعلان أديب عن اعتذاره حتى قفز الدولار الأميركي في السوق السوداء ليلامس تسعة آلاف ليرة، بعدما كان يتراوح بين 7500 و7600 ليرة طيلة الشهر.
لبنان دخل المحظور وربما الفراغ
أما الكلام عن احتمالات العودة إلى الحريري لترؤس الحكومة، فاستبعدت مراجع رفيعة في تيار "المستقبل" هذا الأمر، مشيرة إلى أن الموضوع ليس مطروحاً، من دون أن تخفي قلقها من أن سقوط المبادرة الفرنسية واعتذار أديب قد أفقدا لبنان فرصة ذهبية للخروج من الأزمة، خصوصاً أن انفجار المرفأ كان أعاد البلاد إلى الرادار الدولي، تعاطفاً وحرصاً على استعادته عافيته. أما الآن، وبعد سقوط هذه الفرصة، فإن المراجع لا تخفي خشيتها من دخول لبنان في المجهول والمحظور، بعدما حسم فريق الممانعة خياره بالسماح لطهران باستعمال الساحة اللبنانية ورقة في التفاوض على التسوية مع واشنطن.
ولا تستبعد هذه المراجع أن تشهد البلاد حالاً من الفراغ تستمر فترة طويلة وتقضي على كل ما تبقى من مقومات صمود أو قدرة على التعافي.
حكومة صندوق النقد
بالنسبة إلى كل المتابعين للمبادرة الفرنسية قبل أن تسقط في مستنقع وحول السياسة اللبنانية، كان يُنتظر من حكومة المهمة لو قُدِّر لها أن ترى النور أن تكون حكومة صندوق النقد، ذلك أن لا خيار للخروج من الانهيار الذي بلغته البلاد إلا عبر الالتزام بالبرنامج مع الصندوق. وأي كلام عن عنوان للحكومة المقبلة من خارج هذا العنوان لن يكتب له النجاح، بل سيدفع البلاد إلى مزيد من التدهور والانزلاق نحو "جهنم"، تماماً كما توقع عون في حواره الأخير مع الصحافيين المعتمدين في القصر الرئاسي.
وجهنم التي تحدث عنها رئيس البلاد بدأت ملامحها ترتسم بقوة مع ارتفاع الدولار في السوق السوداء ونفاد احتياطات المصرف المركزي، ما سيؤدي إلى رفع الدعم عن السلع الأساسية، التي ستسجل ارتفاعات قياسية لن يكون في مقدور ذوي المداخيل الوسطى والدنيا تحمّلها.
باريس: الأحزاب ارتكبت خيانة
وفي الوقت الذي أعلن عون تمسكه بالمبادرة الفرنسية وعدم سقوطها، لم يصدر أي موقف فرنسي رسمي باستثناء ما نقلته وكالة "رويترز" عن مصدر مقرب من ماكرون وفيه أن "اعتذار أديب عن تشكيل الحكومة يعني أن الأحزاب السياسية ارتكبت خيانة جماعية"، مضيفاً أن فرنسا لن تخذل لبنان. وفسّرت مصادر سياسية هذا الموقف الأولي بأنه يضع الإصبع على الجرح بعدما استشعرت فرنسا خيانة الأحزاب السياسية لما التزمته أمام ماكرون، لكنه في الوقت عينه لا يزال متريّثاً في نعي المبادرة، الأمر الذي يفترض أن يصدر عن الإليزيه بشكل رسمي، في حين أن التوجّه أشار إلى أن فرنسا لن تخذل لبنان، لذلك لا بد من الانتظار وترقب ما سيكون عليه رد الفعل الرسمي.