Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

غنائية البراءة الأولى تسم قصائد فيوليت أبو الجلد

في ديوانها الجديد "شبهات" تنبثق المواقف التأملية من أعماق الذات

الشاعرة فيوليت أبو الجلد (اندبندنت عربية)

الشاعرة اللبنانية فيوليت أبو الجلَد (1974) تواصل مسيرتها الشعرية التي بدأتها منذ ستة عشر عاماً، ومن دواوينها: "صياد النوم" (2004)، و"بنفسج أخير" (2006)، و"أرافق المجانين إلى عقولهم" (2015)، و"لا أحياء على هذا الكوكب سواي" (2017) الذي سوف تصدر قريباً ترجمته بالفرنسية عن دار لانسين، و"شبهات" الذي صدر لها حديثاً عن الدار الأهلية (عمان 2020).

بداية، يمكن القول إن المسار الشعري الذي سلكته الشاعرة أبو الجلد، رسخته كتابتها الشعرية الدالّة على نضج في اللغة، وتمرّس متفرد في الأسلوب، واختيار أوتار بعينها، من قيثارة المواجع لتضرب عليها، ويسّرت رسوخ شعرها في تراث قصيدة النثر، العربية اللبنانية، المعاصرة التي لا تزال تحدث ارتجاجات في بنيان الشعر العربي، منذ زلزال مجلة "شعر" في خمسينيات القرن الماضي إلى يومنا. وليس آخر هذه الارتجاجات بنيان قصيدة النثر، وإعلان طلاقها المبرم عن العروض والإيقاعات التقليدية، والبيان التقليدي، والتراكيب المألوفة، وتوليفها جماليات جديدة لا تني تتخلّق لدى كل قصيدة، أو مجموعة شعرية، أو عمل شعري صيغ في نوع قصيدة النثر؛ ذلك أن قصيدة النثر، بتعريف سوزان برنار، هي "نوع من الانتفاضة، ومن الحرية أكثر من كونها مجرد محاولة لتجديد الشكل الشعري، إنها تبنّ للروح، ومظهر لصراع الإنسان مع قدَره".

أو ليس هذا التعريف أنسب لقصيدة النثر لدى الشاعرة فيوليت أبو الجلد؟ وتالياً لدى كل الشعراء المجدّدين، سواء كان اختيارهم قصيدة النثر أم الشعر الحر؟ وبالعودة الى  أحد أعمال الشاعرة، عنيتُ: "لا أحياء على هذا الكوكب سواي"، يتبيّن للقارئ أن القصائد الست والأربعين (46) التي تتكون منها المجموعة، تترجح فيها بين المشاهد المألوفة جداً، وبين تلك الصادمة، من المدينة التي تقف أعلاها، كما تترجح نبرتها بين التعالي والتولّه ("تسقط عن أجسادنا أحزان/ من أعيننا أحبّة")، وبين السرد السّيري الفانتازي ("وقعتُ من الطابق 1974 على حرب/ تدور حولي")، وبين إعلان الوحدة أو المنفى الاختياري سبيلاً إلى تصحيح النظر الى العالم ("من الشرفة لا أرى سواي/ لا يراني سوى رجال أحبوني بعمق"). وبإيجاز شديد وغير منصف، أقول إن كل قصيدة من هذه الست والأربعين تشكل لوحة تأملية بذاتها، تقف فيها الشاعرة من مسألة أو مظهر أو خاطرة أو وجهة نظر فريدة هي منطلق لمدخل إلى القصيدة، أو لصيغة شعرية مهيمنة فيها.

عتبات النص

لكن اللافت في المجموعة السابقة - وأغلب الظن في المجموعات الشعرية الأسبق - هو غياب الإشارة الى أي ادعاء أسلوبي، وأي تمهيد فكري يشي بخلفية فكرية معينة، مما ينسبه علم اللغة الحديث الى عتبات النص، مع جيرار جينيت. بحسب الشاعرة أن الشعر وحده، الشعر المصفّى كفيل وحده بالتعبير عن ذات كامنة وراء الكلمات ومعانيها وإيحاءاتها، وكفيل ببناء عالمها الموازي وتهويماتها التي أفصّلها لاحقاً، في الكلام على مجموعتها الأخيرة "شبهات".

إذاً، تستأنف الشاعرة فيوليت أبو الجلد، في كتابها الأخير، تفعيل استراتيجيتها الكتابية الكبرى، أي جعل الشعر، الصادر صريحاً، وعفوياً، وبلا رتوش، وصادماً، ومضمّخاً بمشاعر مصفّاة بلغة مقتصدة، وشديدة العناية بالصّوَر - وإن مقننة - ولكن، محمّلة، هذه المرة بالمزيد من السّمات الدالة على هذه الذات التي حان لها أن تنكشف، أن تنبسط قسماتها، وتنجلي آفاقها للقارئ بعد طول احتجاب خلف مشاهد وتجارب متفرقة سابقة، بل يمكن القول إن الشاعرة تتقصّد، ومن دون أن تعلن ذلك، صنع أسطورة لذاتها، على حد ابتكار شارل مورون  الذي رأى أن تواتراً لافتاً للصوَر أو للسمات في سياق معيّن لدى شاعر قد يكون ذا دلالة على مقصد غير واع لديه إلى تكوين أسطورة عن ذاته، يتمناها على هذه الشاكلة أو تلك.

وهذا يعني أن العنوان الذي أرادته الشاعرة للكتاب، أي "شبهات"، وإن تقصّدت به التظليل على الدلالات والخطابات البيّنة التي حملتها المجموعة الشعرية، فإنه لن يخفي السمات، بل القسمات التي شاءتها بنفسها لذات كاتبة هي ذاتها، في ما يشبه البورتريه الكبير بخلفياته وألوانه القاتمة، وبنتف من عالم يتقاطع معها ولا تذوب فيه، وبوقفات رومنسية وأخرى نقدية حارقة في ما خصّ الأنثى الشرقية. ولكن أول سمة بل قسمة تستهل بها الشاعرة نسج البورتريه خاصتها هي كونها سيدة خطابها الشعري، تردّ به على "الرجل" الشرقي طبعاً، تهز به أنويّته، هازئة بما يدّعيه، وبما يملكه أو يزعم ملكيته، لا سيما "الألقاب التي تسبق اسمه". تقول:"تمهّلْ لأرى أنك لستَ محورَ العالَم /تمهّلْ لأترجّل من الكرة الأرضية".

وقفات تأملية

وإن كانت الشاعرة لا تعنى بتعداد القسمات، فإنه يسع القارئ أن يخلص الى أن القصائد الستين، التي يتشكّل منها الكتاب (شبهات) هي القسمات و/ أو الأفكار أو الوقفات التأملية الانطباعية، في الوحشة والوحدة التي تحياها الشاعرة، وفي ترجّح الذات، ذاتها، بين النقائض ("معي الظلال والضلال/ معي ما ليس معي"). وكذلك في أن الشعر هو "سيرة ذاتية للمغنّي/ الخرافة التي تمر متمهّلة"، وفي الأسى المستفاد من قصر الزمن من دون حب، وفي فكرة العودة بعد الموت ("سنعود لنخدع الأحياء/ سنعود لنمرّغ بالتراب أجسادنا")، وفي فكرة الخلود المفارقة، ترفعها بمثابة صرخة في وجه الموت والاندثار الواقعيين جداً، وفي فكرة الصلاة والحب، بل الجدلية الجديرة بالخلاص، بظنّها.

وثمة الكثير أيضاً أقوله عن سائر الوقفات أو المشاهد الشعرية التي تتوخى منها الشاعرة استكمال سماتها الرومنطيقية بل الرومنسية الخفرة، من مثل إعلان رغبتها في "حديقة صغيرة"، واحتفالها "بمطر على غيم المدينة"، وشوقها الى "لقاء شتوي ماطر"، تضاف جميعها الى هاجس انقضاء الزمن، والبوح الخفر بالحب، والحنان الكامن في طي الكلام وفعل الحب ("نحبّ من نحبّ بالحنان")، والشعور العارم بالغربة عن العالم والمدينة ("هذه ليست مدينتي").

ولكن، من أين للشاعرة فيوليت أبو الجلد غنائيّتها الجلية؟ للإجابة أقول إن هذه الغنائية تنسرب في شعر أبو الجلد أولاً من المادة الأولية، بل من المعين الأول تستقي منه بلا مواربة أو ترميز بعيد أو انتقاء فكري، أو غيره. أعني من معين المشاعر الفياضة، والمباشرة، والمفكر فيها مع قدر لا بأس به من عوامل السلب. أعني من حاجة المرأة أو الكائن فيها إلى صون براءته، نعم براءته الأولى المهدد بالاتساخ والتهميش والطمس، ومن غنائها ونمائها، وأحداث شبابها من الاندثار حيناً ومن التشوه حيناً آخر. شعر أبو الجلد كأن نقول مياهها الشعرية قريبة من الينبوع، صافية من صفائه، ولا تخلطه مع غيره، مما قد يشرحه أو يؤوّله أو ينسبه إلى التعمّل الفكري، على ما تأنفه، وتستبعده، في حوار قصير معها. وما العالم وتناقضاته وأشياؤه وسيناريواته وحروبه وقضاياه جديرة بأن تلقى عناية قصوى من الشاعرة. إنما هي ذات الشاعرة، أو مركز العالم، ما ينبغي الركون اليه: "لا شيء خطير يحدثُ لشاعر في الحرب،/ الحربُ تحدثُ في الشاعرِ/ هو القنّاص الأعمى".

المزيد من ثقافة