تطال الانتقادات رئيس الوزراء في ضوء موضوع التعديلات على اتفاق الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وأثارت رغبة رئيس الوزراء تجاهل أجزاء من بروتوكول أيرلندا الشمالية في إطار اتفاق بريكست بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، نوعاً من العاصفة. ويتساءل منتقدو بوريس جونسون لماذا لم يكتشف من قبل وجود أي عيوب في "صفقته الجاهزة"، كما أنه، بغض النظر عن المشكلات، تُعتبر محاولة إدخال تعديلات أحادية الجانب على اتفاقية دولية انتهاكاً للقانون الدولي، بكل ما يترتّب على هذا التصرف من نتائج.
وأكد الوزير المكلف بشؤون أيرلندا الشمالية، براندون لويس هذا الخرق المحتمل للقانون الدولي. وقال لويس لمجلس العموم، إن هذه الخطوة سوف تنتهك القانون الدولي بالفعل "بطريقة محصورة ومحددة للغاية". وزعم حدوث سابقة من هذا النوع خلال المصادقة على قانون المالية لعام 2013 وتضمّن بنوداً حول التعامل مع التهرب الضريبي وتعديل الاتفاقيات الدولية من جانب واحد. لكن وزير الخزانة في ذلك الوقت، جورج أوزبورن، نفى هذا الكلام. إن تقديم تفسيرات مختلفة من قِبل ممثلي الجانبين لبنود في اتفاق بريكست قد يبرّر تصرفات الحكومة، لكن بعض إجراءات التحكيم ما زالت بانتظار التوصل إلى اتفاق بشأنها.
ويمكن فعلياً وضع حد لمحاولات الحكومة التراجع عن اتفاق الانسحاب من خلال طرق عديدة.
من الناحية القانونية، سيكون من المستغرب ألا يفكر أحد بإحالة المسألة إلى المحكمة العليا في المملكة المتحدة، عن طريق المحاكم الدنيا في إنجلترا واسكتلندا. ويشكل الحكم المثير للجدل الذي أصدرته محكمة السيدة هيل العام الماضي بشأن تعليق عمل البرلمان مثالاً على استعداد المحكمة العليا أداء دور دستوري. وبالتالي فإن المراجعة القضائية أمر ممكن (تماماً مثل مراجعة اتفاق الانسحاب بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، سواء الكلية أو الجزئية) من جانب محكمة العدل الأوروبية. كما يمكن إحالة الموضوع إلى محكمة العدل الدولية أو أي جهة أخرى لديها صلاحيات التحكيم الدولي في حال رغب الطرفان (مع أنه لا يبدو أنهما يريدان ذلك). وللإشارة فقد بدأ، الملقبون من طرف الوزراء بـ"المحامين الناشطين"، بتحضير مرافعاتهم القانونية بالفعل.
كيف يمكن أن يتصرف القضاة؟
تشكل استقالة رئيس الدائرة القانونية في الحكومة السير جوناثان جونز، وهو موظف حكومي مرموق ومُحترم بدون شك (وليس محامياً ناشطاً)، مؤشراً على هذا الموضوع. فمن الواضح أن السير جونز لم تعجبه فكرة انتهاك اتفاقية دولية بشكل أحادي ومتعمد، لدرجة دفعه الأمر إلى التضحية بمنصبه. وأُفيد كذلك عن نشوب خلافات بين فريق المدّعي العام ومكتب رئاسة الوزراء (المسؤول عن تشريع السوق الداخلية، الذي سيلغي القوة القانونية لأجزاء من اتفاق الانسحاب). بالإضافة إلى ذلك، هناك خلاف بين المدعية العامة سويلا برايفرمان والسير جوناثان.
وبرزت بعض التلميحات كذلك إلى أن سلف السيدة برايفرمان، جيفري كوكس، صاحب الصوت الجهوري، تم بكل صراحة عزله من منصبه، لأنه لم يكن مرتاحاً لاحتمال تراجع المملكة المتحدة عن التزاماتها القانونية. وهذه بعض الإشارات إذاً للشكوك التي تساور عدداً من الشخصيات القانونية الرفيعة بشأن محاولات الحكومة تعديل اتفاق الانسحاب.
من الناحية الدستورية، هناك بعض نقاط الخلاف. أحدها هو سواء ما تفعله الحكومة يتناسب أم لا مع مدونة سلوك الوزراء، فالأمر يتعلق بوثيقة شبه دستورية تنصّ على مطلب أساس مفاده أن يحترم الوزراء القانون. هناك كذلك سؤال حول ما إذا كان الوزراء سيلجأون إلى الإجراءات الصحيحة في إعطاء أوامر رسمية للموظفين الحكوميين، بطريقة لا يعتبرها هؤلاء الموظفون غير قانونية. ومن المسائل المطروحة كذلك، هو معرفة ما إذا كان مشروع قانون السوق الداخلية، الجديد سيلغي بعض أجزاء تسوية التفويض ونقل السلطات المُبرمة مع اسكتلندا.
كما قد يتوصل القضاة إلى حكم بشأن ضرورة تعبير المجلس التشريعي والهيئة التنفيذية لشمال أيرلندا عن رأيهما في إعادة صياغة البروتوكول "الخاص بهما" ضمن اتفاق الانسحاب وبناء على مبدأ الموافقة الديمقراطية. ولا شك أن المحكمة العليا ستتلقى استفساراً بشأن اتفاق الجمعة العظيمة، وهو معاهدة دولية أخرى تشكل جزءاً من الدستور البريطاني، وتحديداً حول كيفية تأثيره وتأثره بتعديل اتفاق الانسحاب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وقد تكون إحدى مواضع السخرية أن التعريفات الجمركية وفحص البضائع التي تنتقل من الجهتين عبر الحدود بين بريطانيا وأيرلندا الشمالية هي فعلياً من المتطلبات التي تفرضها قوانين منظمة التجارة العالمية وليس الاتحاد الأوروبي فحسب. وحتى في ظل حدوث بريكست دون اتفاق، فإنه بموجب قوانين منظمة التجارة العالمية، لا يمكن تجنب إجراء هذه الفحوص أو قد يتعين نقلها إلى الحدود الفاصلة بين جمهورية أيرلندا وأيرلندا الشمالية. ربما تعالج محكمة منظمة التجارة العالمية، المسماة هيئة الاستئناف، هذه القضية، لكن الهيئة لا يتوافر فيها النصاب القانوني وهي معطّلة لأن دونالد ترمب يرفض تسمية قضاة (أميركيين) جدد.
وأخيراً، إن انتابت روح المغامرة القضاة بالمحكمة العليا في المملكة المتحدة، فقد يعطون رأيهم بشأن تطبيق معاهدة فيينا لعام 1970، وهي معاهدة حول المعاهدات، تشير بالأساس إلى أنه لا يمكن إلزام البلدان للأبد باحترام الاتفاقيات الدولية التي ترغب بإبطالها.
لكن لن يكون كل هذا ضرورياً سوى في حال فشل التوصل إلى حلول سياسية لهذا المأزق، وهو ما قد لا يحدث. قد يرفض النواب مثلاً، بكل بساطة، أن يصوّتوا للقسم الذي يمثّل انتهاكاً للقانون الدولي ضمن مشروع قانون سوق المملكة المتحدة الداخلية، أو يعدّلوا البنود المعنية، لكن مع وجود أغلبية أكثر من 80 نائباً في مجلس العموم، وبعد التخلص من معظم قدامى الحزب مناصري الاتحاد الأوروبي، فإنه من غير المرجح توفّر عدد كافٍ من المحافظين المتمردين لإلحاق الهزيمة بجونسون. كما يمكن لهذا الأخير أن يعتمد، هذه المرة، على الاتحاديين الديمقراطيين (من أيرلندا الشمالية) الذين شعروا بالخيانة العظمى عندما وافق جونسون على بروتوكول أيرلندا الشمالية.
وقد يمكن التوصل إلى حل سياسي لهذه المسألة من ناحية أخرى عبر اتفاق الطرفين على إعادة التباحث في اتفاق الانسحاب في ظل احتمال حدوث بريكست دون اتفاق، الأمر الذي لم يكن بالحسبان. ومهما كانت أفكار الطرفين الداخلية ودوافعهما، فإن هذه الصفقة ليست في الواقع ذلك الاتفاق العريض الذي تصوّره الإعلان السياسي المُبرم إلى جانب اتفاق الانسحاب في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وليست له قوة قانونية كبيرة، مع أنه من المفترض على الطرفين أن يحاولا تنفيذه بنجاح، كما أنه يحمل بعض الثقل الأخلاقي والسياسي. إن إعادة اتفاق الانسحاب إلى طاولة المفاوضات هو أمر لا شك يناسب البريطانيين، وقد يسهم في تفادي حصول بريكست دون اتفاق. لا سيما إن أعيد البحث في مسائل مثل "تسوية الطلاق" التي تبلغ قيمتها 39 مليار جنيه إسترليني.
من الناحية التكتيكية، قد يُلائم جونسون أن يفتعل مشكلة مع الاتحاد الأوروبي والقضاة كما حدث قبل الانتخابات العامة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي. كما يعني ذلك أنه يمكنه التظاهر، سواء بإنصاف أم لا، بأنه المدافع عن مصالح بريطانيا، وأنه لا يرفع سوى مطالب متواضعة لإبرام اتفاق تجارة حرة، لكنه يُعامل باحتقار وخداع من قبل آلة أوروبية متغطرسة (كما يُزعم). وسوف تُصوّر بروكسيل مرة أخرى على أنها تتصرف بالتوافق مع "مجموعات البقاء في الاتحاد" داخل أحزاب المعارضة والإعلام والقضاء. ومرة أخرى، ستكون المواجهة بين "إرادة الشعب" من جهة، والنخبة من جهة أخرى، في مشهد من مناوشات الحرب الثقافية التي انتقلت إلى السياسية البريطانية.
كل ما في الأمر هو أن الفائز في هذه الحروب لن يتحدد بالنهاية داخل قاعة التفاوض أو في المحكمة أو حتى داخل البرلمان، بل في صناديق الاقتراع.
© The Independent