ما بين "حفلة شاي" التي أدّت إلى اندلاع الثورة الأميركية عام 1773 وحفلة شاي ثورة الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) السودانية 2018 بونٌ شاسع زمانيّاً ومكانيّاً. فالدلالة بغضّ النظر عن نتائج الأحداث على كلّ ثورة، هي رمزية الشاي، وارتباطها بالحدثين في زمانين ومكانين مختلفين.
من الشرق إلى الغرب
ثقافة الشاي وطقوسه ضاربةٌ في القدم، وارتبطت بغالبية الشعوب، وكون الشاي ظاهرة ثقافية عريقة، فلم يقتصر تقديره على الشرق فقط، إنّما كان للغرب سهمٌ في ترسيخ هذه الثقافة.
أما الشاي الذي انتظمت سلسلة أقدارٍ لتجعله أيقونة الثورة الأميركية فكما جاء في معظم الكتابات التاريخية أنّه في ظلِّ نشاط حركة الاستعمار الأجنبي للقارات في القرن السابع عشر عُرِف الشاي لدى الأوروبيين عندما أحضر الهولنديون الشاي الأخضر للمرة الأولى إلى أوروبا.
واعتُبر الشاي في ذلك الوقت من المواد الغذائية الباهظة الثمن، فكان دواءً مهماً يقتصر بيعه على الأماكن المخصصة لبيع الأعشاب الطبية والأدوية.
ومع انتشار الشاي عرفه الناس، وتحوّل إلى مشروبٍ تستخدمه الطبقة المخملية في المجتمع الأوروبي، وكان ذلك تزامناً مع بدء استيراد الشاي الأسود. وحتى ذلك الوقت كان يرمز إلى الثقافة والتقليد الاجتماعي لبلدٍ معيّن، وإن اختلفت طقوس استخدامه من شعبٍ إلى آخر.
"حفلة شاي"
وقصة "حفلة شاي" تعود أحداثها إلى مجزرة بوسطن الأميركية، حين فرضت بريطانيا على المستعمرات التي تقع تحت سيادتها ضرورة المشاركة في تحمل نفقات جيوشها في أميركا الشمالية ففرضت الضرائب، ومن بينها ضريبة الشاي على السكان، وأنشأت مكتباً للجمارك لجمع الضرائب في بوسطن.
أدّى الاحتجاج على هذه الضرائب إلى إلغائها، ما عدا الضريبة المفروضة على الشاي، فتواصلت الاحتجاجات بخاصة في مدينة بوسطن، وتصدّى الجنود البريطانيون للمتظاهرين، وقتلوا منهم خمسة أشخاص، وعُرفت الحادثة باسم "مجزرة بوسطن".
بعد هذه الواقعة بدأ الأميركيون يهرّبون الشاي، لتجنّب دفع الضريبة فخسرت الشركة البريطانية التي كانت توفّر الشاي للمستعمرات، واستمر سكان المستعمرات في مقاطعة الشركة، ورفض التجار بيعه.
بعد ثلاث سنوات من مجزرة بوسطن أي في الـ16 من ديسمبر (كانون الأول) 1773 تسلّق بعض الناشطين الاستقلاليين بقيادة صامويل آدامز ظهر سفينة بريطانية محمّلة بالشاي، وألقوا حمولتها في البحر.
سميّت هذه العملية باسم "حفلة شاي" Tea Party. أشعلت هذه الحادثة شرارة احتجاجات ومواجهات كان الرد البريطاني عليها عنيفاً وتوالت الأحداث، ولم تنطفئ إلَّا بعد ثلاث سنوات أخرى، حين أعلن استقلال الولايات المتحدة في الرابع من يوليو (تموز) 1776.
وفي هذا اليوم من كلّ عام، يحتفل الأميركيون بعيد استقلالهم، ويغني الأطفال في أميركا، خصوصاً أطفال مدينة بوسطن "ارموا الشاي في البحر".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أهزوجة الشاي
أما قصة "الشاي" السودانية، فغير ارتباطه بالمزاج العام للسودانيين عموماً، فقد ارتبط بأحداث الثورة في السودان التي اشتعلت شرارتها في الـ19 من ديسمبر (كانون الأول) 2018. ومثّلت هذه الأهزوجة إحدى تفاصيل الثورة المثيرة، وعكست روحاً سودانية شغوفة بالمرح على الرغم من كلِّ الآلام التي صاحبت التغيير.
خرج الشعار من مجموعة من الشباب الذين كان تربطهم الدراسة الأكاديمية والسكن في أحد أحياء الخرطوم والتزام المبيت في ميدان الاعتصام. فبينما كانوا يقومون بخدمة المعتصمين من تقديم مياه الشرب الصحية والشاي وتوزيع الوجبات الخفيفة، انقطع الإمداد لدخول مجموعات كبيرة إلى الميدان، وحدثت كثافة عالية وحِراك متصاعد بانضمام المزيد من المعتصمين.
وبعد أن ظهر الإمداد مرةً أخرى بعد فترة قصيرة وقف هؤلاء الشباب متأهبين لخدمة الداخلين للميدان، وهم ينشدون بأصوات مرحة منادين وموجهين سير المعتصمين إلى نقطة توزيع الشاي "يا إخوانا الشاي، الشاي، الشاي بجاي"، أي الشاي ها هنا.
وهكذا، وُلدت هذه الأهزوجة التلقائية التي لم يُرتب لها، لكنها حصدت شهرةً واسعة، وانتشرت في السوشيال ميديا من أميركا إلى الصين، ومن جنوب الكرة الأرضية إلى شمالها، بفضل الجو العام والاهتمام العالمي بالثورة السودانية وتفاصيلها.
كوكو الشجاعة
في المقابل، قالت عوضية كوكو، الناشطة في مجال تنمية المرأة ودعم السلام، أشهر "ست شاي" في السودان والفائزة بجائزة "المرأة الشجاعة" الأميركية لــ"اندبندنت عربية"، "عملت في مهنة بيع الشاي منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي بعد قيام الانتفاضة على نظام الرئيس الأسبق جعفر النميري. تعرضتُ وستات الشاي النازحات من مناطق الحروب من دارفور وجنوب كردفان وجبال النوبة للمضايقات والمطاردة من مكان إلى آخر (الكشات) من قِبل حملات النظام السابق، إذ كانوا يلقون بالشاي والأطعمة التي نبيعها ويصادرون أدواتنا، ويفرضون غرامات لا قِبل لنا بها".
وأضافت، "سعيتُ إلى تقنين أوضاعنا إلى أن كوَّنت جمعية تعاونية للدفاع عن حقوق ستات الشاي بدأتها بــ8000 بائعة بدعمٍ من منظمة هولندية عام 1990، وبدأ الاهتمام العالمي بقضيتنا".
وتابعت كوكو، "حصلنا على دعمٍ من المعونة الأميركية في عام 1995 التي ملَّكتنا مبنى لاحتواء العاملات في السوق الشعبية بالخرطوم، وتوسع نشاطنا مع المعونة فقامت بتمليك مبانٍ في الأحياء الهامشية التي تكثر فيها النازحات اللاتي يعملن في بيع الشاي". وفي عام 2013 كوَّنت (الاتحاد التعاوني النسوي لبائعات الأطعمة والمشروبات)، إلَّا أنَّه حُلَّ أخيراً بواسطة لجنة إزالة التمكين، وما زلنا نطالب بإرجاعه".
وعن نيلها الجائزة ذكرت كوكو "نلت جائزة المرأة الشجاعة في مارس (آذار) 2016، سلمني إياها وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري في البيت الأبيض. ولما عدتُ من أميركا وصفني النظام السابق بالعمالة والخيانة، وكنتُ ملاحقة من قِبل رجال الأمن في أي مكان أذهب إليه حتى حول منزلي".
وعن مشاركتها في ثورة ديسمبر أوضحت كوكو "عندما قامت الثورة شاركت فيها، وجمعت ستات الشاي، وكنا نقوم بصناعة الطعام والشاي وتقديمه للثوار في ساحة الاعتصام بالقيادة العامة للقوات المسلحة، وتواصل نشاطنا في رمضان، فكنا نعدَّ الإفطار للصائمين. الآن يُعدُّ إلغاء قانون النظام العام مكسباً كبيراً لستات الشاي، لأنَّهن أول من كن يكتوين بناره".
وصمة شاي
من جهة ثانية، قالت ابتسام ساتي، أستاذة علم الاجتماع بجامعة الخرطوم لـ"اندبندنت عربية"، "في السودان أصبحت مهنة بيع الشاي ملاذاً لكثيرٍ من النساء الفقيرات والنازحات وفي الغالب غير المتعلمات. فخلف كل كوبٍ من الشاي قصة امرأة مكافحة تسعى لتوفير لقمة العيش لها ولأسرتها ولأطفالها، اكتوت بنار الفقر قبل أن تكتوي بالنار التي تصنع فيها الشاي. وعلى الرغم من ذلك تظل الابتسامة تعلو وجهها لتداري الألم الكامن وراء قصتها ولترضي زبائنها المتحلقين حولها في الطرقات، وأمام المؤسسات العامة والمستشفيات، وهي تستمع لأحاديثهم وضحكاتهم على الرغم من الخوف الذي يتملك دواخلها من هجمات الشرطة التي لا تنفك تداهمها بين حينٍ وآخر، فتصادر معداتها أو تطالبها برسومٍ باهظة هي أحوج ما تكون إليها لإطعام أسرتها أو لعلاج مريضها أو رسوم لمدارس أطفالها أو للدار المتواضعة التي تؤويها مع هؤلاء".
وأضافت ساتي، "عدد النساء اللواتي يمتهن بيع الشاي في ولاية الخرطوم وحدها يُقدَّر، حسب الإحصاءات الرسمية في المحليات، بما يتجاوز 20 ألف امرأة بكثير. أسهم في هذا العدد إلى جانب الفقر موجات الهجرة والنزوح التي شهدها السودان في الحِقب الماضية بسبب الظروف الطبيعية تارة، والحروب والنزاعات تارة أخرى".
وتتابع، "كان لا مناص لكثيرٍ من النساء من الدخول إلى هذه المهنة التي تدر عليهن دخلاً معقولاً يقيهن العوز والحاجة، لكنه في المقابل يجلب لهن النظرة الاجتماعية الدونية، ويشكِّك في أخلاقهن في مجتمع كان ولا يزال محافظاً، لا يقبل عمل النساء، خصوصاً الفتيات، في المهن التي تمارس بالشارع، وتعرضهن للاختلاط المباشر مع الرجال. علماً أنَّ معظم الزبائن هم من الرجال، تحديداً من الشباب والطلاب".
وتوضح أستاذة علم الاجتماع، "كانت هذه المهنة حتى عهدٍ قريب يمارسها الرجال في ما يعرف بالقهاوي (المقاهي)، التي عادة ما يرتادها الرجال. كما أنَّ دخول أجنبيات من الدول المجاورة في هذه المهنة عمَّق النظرة السلبية إليهن، حتى إنَّ أحد المسؤولين في النظام السابق وصفهن بالعاهرات، متناسياً أنهن لم يخترن هذا الوضع بإرادتهن، لكن فرضته عليهنَّ سياسات الدولة التي هو جزء من إدارتها ومخططيها".
تغيير اجتماعي
وترى ساتي أن "هذا الوضع حدا بالناشطين السياسيين والمدافعين عن حقوق الإنسان الدفاع عن هذه الفئة من النساء الشريفات، ما نتج عنه بعض المحاولات، لتقنين أوضاعهن بما يضمن لهن ممارسة المهنة بالقليل من المتاعب التي أحياناً ما يكون بعض الزبائن شركاء فيها".
وأدّى صمود كثيرات منهن، وصبرهن على الأذى والصعوبات إلى تحول وتغيير نوعي نسبياً في نظرة المجتمع لهذه المهنة، وكان للشباب والمثقفين دور فاعل في هذا التحول. ما أدّى إلى أن يصبح التحلق والتجمعات حول بائعات الشاي إلى جلسات ترفيهية وملتقيات اجتماعية، تقام فيها معظم النشاطات الطلابية والشبابية التي لم تعد حصراً على الذكور، بل أصبحت الشابات أيضاً يشاركن فيها، وفي تناول مشروب الشاي، ما يعكس التغيير الاجتماعي الذي شهده المجتمع.
ووصفت ساتي التحول في تجمعات ستات الشاي بأنَّها "أصبحت منتديات يرتادها الشباب والمثقفون، فيُناقش فيها كثير من القضايا السياسية والاجتماعية، ما أقلق سلطات العهد السابق، فعملت على تضييق الخناق عليهن. وعليه طفت قضية بائعات الشاي إلى السطح، وأصبحت من القضايا التي لفتت الانتباه لهذه الفئة من النساء، فأصبحت المنظمات الحقوقية والنسوية تناضل من أجل تقنين أوضاع هذه الفئة من النساء، خصوصاً بعد الحوادث التي تعرضن لها، التي أدت إلى وفاة إحداهن بعد أن فقدت جنينها، نتيجة لمطاردات الشرطة، فأصبحت القضية قضية رأي عام".
أمّا في ثورة ديسمبر فكانت مشاركة بائعات الشاي فاعلةً، ما يُعدُّ مؤشراً واضحاً لارتفاع مستوى الوعي، وتعبيراً عن الغبن الذي عانته كثير من الفئات الاجتماعية المهمشة، فلم تعد ستات الشاي مصدراً لتشويه الوجه الحضاري للعاصمة، ولا مصدراً للتلوث البصري كما كان يُبرَّر للكشات والمطاردات التي لم تكن ترى التلوث الحقيقي في التهميش.
هذه أحداث ثورة قديمة وأخرى حديثة صنعتها رمزية تعدَّدت أصولها وفصولها، ومن ضمن الفصول الصغيرة المؤثّرة كان "الشاي".