بينما كانت القنوات التلفزيونية في لبنان تبث مباشرة مساء أمس الأحد الحفلة الموسيقية الوطنية التي أقيمت في قلعة بعلبك تحت عنوان "صوت الصمود"، وشعار "علّي الموسيقى"، كانت الكهرباء مقطوعة عن مناطق كثيرة من لبنان ومنها العاصمة بيروت، فالتقنين يبلغ الآن ذروته في انقطاع مادة الفيول و"الموتورات" الكهربائية الخاصة التي تعم الاحياء كلها، تعاني شحاً في "المازوت" عطفاً على ارتفاع سعره الجنوني مع التدهور المريب لليرة البنانية الذي عمم الغلاء ورفع أعداد الفقراء. لكن الحفلة الموسيقية التي اعتبرت حدثاً وطنياً برعاية القصر الجمهوري، والتي نظمتها مهرجانات بعلبك الدولية، نجحت فنياً وأعادت إلى ذاكرة اللبنانيين صورة من صور لبنان الفن والحضارة والتاريخ، لبنان الذي كان بلد الثقافة والانفتاح قبل أن تعصف به حروبه المتعاقبة التي انتهت إلى جعله اليوم اسيرأ بين أيدي حزب واحد يحكم السيطرة عليه وعلى مصير أهله. بدت الحفلة كأنها آتية من زمن آخر بات في حكم الماضي "التليد" والمندثر. فعشية الاستعداد للحفلة بلغ عدد المنتحرين سبعة وأحدهم اطلق النار على نفسه علناً في شارع الحمراء، شارع الماضي البهيج، وقد غطى صدره بسجله العدلي الذي يؤكد أن لا حكم عليه وكتب عليه "أنا مش كافر" وكأنه يعتذر مسبقاً من أهله عن هذه الفعلة الأليمة.
أعادت الحفلة الموسيقية الضخمة التي يبدو أنها ستكون حفلة الصيف الوحيدة هذه السنة، الى ذاكرة اللبنانيين الذين استطاعوا مشاهدتها، مشاهد من عروض موسيقية وغنائية ومسرحية وفنية، عالمية وعربية ولبنانية، كانت القلعة شهدتها منذ الخمسينيات حتى الحرب الأهلية، وكانت في أحيان سباقة في تقديمها عالمياً، عندما كان لبنان مختبراً للفن والثقافة العالميين. وبما أن اللجنة الرسمية شاءت أن يواكب هذا الحدث الاحتفال بالذكرى المئوية لإعلان دولة لبنان الكبير ومرور 250 عاماً على ولادة بيتهوفن، فكان البرنامج متنوعاً وغنياً وجميلاً، وأحيته الأوركسترا الفيلهارمونية الوطنية اللبنانية بقيادة المايسترو هاروت فازليان، بمشاركة جوقة جامعة سيدة اللويزة وجوقة المعهد الأنطوني والصوت العتيق. وتضمن البرنامج الموسيقي باقة منوعة من المقطوعات الموسيقية والأغنيات الجماعية التي أدتها فرقة الكورس، وبدا المزيج متناغماً بين مقطوعات كلاسيكية مثل "نشيد الفرح" لبيتهوفن و"أو فورتونا" من "كارمينا بورانا" وسواهما، ومقطوعات موسيقية لبنانية مختارة من إبداعات الأخوين عاصي ومنصور الرحباني والمطربة فيروز. ولم تغب موسيقى الروك وتحديداً "كشمير" لفريق ليد زيبلين البريطاني. وبما أن الحفلة من تنظيم مهرجانات بعلبك فتم عرض صور كثيرة ومشاهد من عروض وحفلات، خلال الحفلة على أعمدة معبد باخوس الذي استضاف الحدث، وكلها تذكّر بأبرز الأسماء العالمية التي استضافتها القلعة على مر السنوات، مثل نورييف وإيلا فيتزجيرالد وموريس بيجار ومايلز ديفيس وشارل أزنافور، والعربية مثل أم كلثوم وبعض الفرق الكبيرة. وحضرت صور عاصي ومنصور وفيروز ومشاهد من المسرحيات الرحبانية التي تفردت بها قلعة بعلبك.
جبران الأسطوري
ولم يغب جبران خليل جبران عن الحدث فحضر من خلال الممثل رفيق علي أحمد الذي قرأ له مقطعاً من كتاب "دمعة وابتسامة" يتحدث عن بعلبك، مدينة الشمس، وعن أساطير قديمة ترتبط بها. ورافقته موسيقى غبريال يارد التي كان وضعها لفيلم "النبي" العالمي. وبُثت صور عدة لصاحب "الأجنحة المتكسرة" خلال القراءة التي نجح الممثل رفيق في مسرحتها ومنحها صدى درامياً. ولعل اللجنة اخطأت في اختيارها هذا المقطع من جبران والذي لا أهمية أدبية له، وكان في مقدورها أن تختار نص "يا بني أمي" او "لكم لبنانكم ولي لبناني" اللذين يمثلان الحال المأسوية التي يجتازها لبنان، فلا يبدو حضور جبران حضوراًً فولكلورياً.
ضمت الفرقة الموسيقية وفرقة الكورس 150 مشاركاً توزعوا في أرجاء باحة معبد باخوس، والتزموا مقتضيات التباعد الجسدي الذي فرضه تفشي فيروس "كورونا". اأما السينوغرافيا فكانت بديعة وجزءاً من الحدث بجمالياتها الضوئية واللونية والهندسية، وقد أنجزها المهندس جان لوي مانغي خالقاً منها مشهدية مسرحية بصرية حية ومتحركة، تراعي خصوصية الموقع التاريخي ورمزيته. ونجح في رسم حلقات دائرية ومساحات ضوئية مع هالة على شكل رسم فيروس كوفيد - 19 مع تيجانه الحمر. وأبدع فعلاً المخرج باسم كريستو في إخراج الحفلة تلفزيونياً أو فنياً فجعل الكاميرا تتنقل بين زوايا معبد باخوس الذي أضيئت أعمدته بألوان مختلفة طغى عليها الأحمر، وبين القلعة الرابضة في ليل بعلبك واستخدم في التصوير أحدث التقنيات البصرية واعتمد اللقطات الجوية التي قدمت الحفلة في صور بانورامية.
لم يكن من جمهور في القلعة، ولم يكن من تصفيق وهتاف. الجمهور تابع الحفلة في البيوت أو المقاهي، عبر الشاشات اللبنانية كلها، ما عدا تلفزيون "المنار" الذي رفض بثها، خصوصاً انها تحمل عنواناً لا يخلو من التحدي هو "صوت الصمود". طبعاً هذه حفلة يعتبرها حزب الله ضده أو ليست لصالحه، لا سيما أنها أقيمت في بعلبك.
بدت الحفلة الجميلة محفوفة بالحنين إلى لبنان الذي كان، لبنان الثقافة والجمال، لبنان الأخوين رحباني وفيروز، وقد أثارت حماسة الكثيرين من المعلقين في وسائل التواصل الاجتماعي الذين تحدثوا بحسب الطريقة المعهودة عن "منارة الشرق" و"ملتقى الحضارات والثقافات"، و"صوت الحضارتين الشرقية والغربية" و"وطن التنوع والثقافة والاقتصاد الحر"... غير أن الحفلة بدت كأنها حفلة وداع للبنان، حفلة رثاء، أو "جنازة" كما عبر الشاعر يحيى جابر في تعليق له. ولعلها أثارت شيئا من الحزن على فقدان لبنان الذي قد لا يعود، بعدما استشرى الفساد في دوائره الرسمية، فسرقت أموال اللبنانيين وخسروا جنى عمرهم حتى أضحوا مهددين بالجوع والفقر المدقع والحرمان والتسول، وباتوا ينتظرون معجزة تنقذ البلد من هذه الهاوية التي يكاد يسقط فيها نهائياً.