Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

زوبعة الأطباء ومجلس الوزراء المصري في فنجان كورونا الدامي

المواطنون والنقابة ورواد التواصل الاجتماعي توقفوا أمام الانتقاد العابر وتغافلوا حزمة القرارات بشأن الفيروس

أطباء مصريون يرتدون ملابس واقية أثناء عملهم وسط جائحة كورونا  (أ ف ب)

لم تمض دقائق معدودة على إشارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي الخاصة إلى تغيب بعض الأطباء، وتسببه في زيادة نسب وفيات مرضى كورونا، حتى تأججت مواقع التواصل الاجتماعي وتهيجت كيانات الأطباء ومؤسساتهم ونقابتهم، وتحولت المباراة من مصر تواجه كورونا إلى الحكومة تواجه "جيش مصر الأبيض".  

"جيش مصر الأبيض" أحد اللاعبين الرئيسيين في الحرب الدائرة رحاها على مدار الأشهر الأربعة الماضية في مصر منذ تسلل كورونا ثم توسع وتشعب وتوغل يجد نفسه مجدداً مثاراً للشد والجذب ومسرحاً للتأجيج ومنفذاً للتهييج.

وما اعتقد مدبولي أنه تصريح عادي، شأنه شأن بقية تصريحاته خلال المؤتمر الصحافي المنعقد الثلاثاء، للإعلان عن خطة الدولة وقراراتها الجديدة في شأن التعايش مع الفيروس، تحول في خلال لحظات إلى شعلة نيران سارعت مجموعات وجماعات وأفراد ومؤسسات وقنوات إلى تلقفها والمساهمة في إحمائها أو محاولة إخمادها.

تغيب الأطباء

خمد اهتمام القاصي والداني بحزمة القرارات المصيرية التي أعلنها رئيس الوزراء في المؤتمر من إعادة افتتاح المطاعم والمقاهي بطاقة 25 في المئة، وفتح الفنادق بطاقة 50 في المئة، وتشغيل وسائل المواصلات العامة حتى منتصف الليل وغيرها، وانشغل الجميع بإشارة مدبولي إلى "تغيب عدد من الأطباء، وهو ما لاحظناه ورصدناه في بعض الأماكن وعدم انتظام الأطقم الطبية في أداء عملها، ووجهنا المحافظين باتخاذ الإجراءات اللازمة حيال ذلك".

وحيال ذلك التصريح، الذي اعتقد مدبولي أنه مجرد توثيق لما جرى بالفعل ما أدى إلى زيادة أعداد وفيات مرضى كورونا، قامت الدنيا العنكبوتية وتحولت نقابة الأطباء إلى خلية نحل غاضبة ثائرة مطالبة بالاعتذار. وسارعت النقابة بإصدار بيان يرفض ما صرح به رئيس الوزراء، "متجاهلاً الأسباب الحقيقية من عجز الإمكانيات وقلة المستلزمات الطبية والعجز الشديد في أسرّة الرعاية المركزة".

ومضى البيان الغاضب سارداً ومستعرضاً ما فعله أطباء مصر منذ بداية الوباء حيث "قدموا أروع مثال للتضحية والعمل وسط ضغوط عظيمة في أماكن عملهم بدءاً من العمل في ظروف صعبة ونقص لمعدات الوقاية في بعض المستشفيات، وفي ظل اعتداءات مستمرة على الأطقم الطبية على مرأى ومسمع من الجميع".

وانتقد البيان عدم صدور قانون لتجريم الاعتداءات، وكذلك ما وصفوه بـ"التعسف الإداري" ومنع للإجازات الوجوبية، وهو الأمر الذي طالما طالبت النقابة بتعديله. وأكد البيان أنه وعلى الرغم من تلك الصعوبات، فإن "أطباء مصر صامدون في المستشفيات لحماية الوطن".

 

 

تأجيج الغضب

وأشار البيان إلى أن تصريحات رئيس الوزراء من شأنها أن تؤجج حالة الغضب ضد الأطباء، وتزيد من حالات تعدي المرضى ومرافقيهم عليهم. ويشار إلى أن عدداً من الأطباء تعرضوا لاعتداءات جسدية ولفظية من قِبل أهالي مرضى كورونا لأسباب مختلفة تترواح بين رفض استقبال المريض، وهو ما يعلله الأطباء بعدم وجود مكان في العناية المركزة، أو الإمكانات اللازمة لعلاجه أو لتأخر حالة المريض.

كما رصدت كاميرات المواطنين عدداً من الحالات لمرضى رابطوا أمام مستشفيات عزل رفضت استقبالهم، وبعد وصول الأمر إلى مسؤولين تم إدخالهم المستشفيات نفسها التي رفضت استقبالهم أو تحويلهم إلى مستشفيات أخرى. وتسهم مثل هذه الأحداث والحوادث في زيادة الغضب الشعبي، الذي يرجعه البعض لـ"تقصير" الأطباء دون النظر إلى الإمكانات المتوافرة لدى مستشفياتهم.

وتجدر الإشارة أيضاً إلى منظومة قديمة اسمها "تقصير الأطباء"، التي تظهر على السطح بين وقت وآخر على مدار عقود مضت، ويتهم فيها مرضى وأقاربهم أطباءً بالتقصير أو الإهمال أو ارتكاب أخطاء طبية تودي بحياة المريض أو مبالغة في تقاضي المال نظير الكشف أو إجراء عملية جراحية أو إخضاع المريض لعملية جراحية رغم التأكد من عدم جدواها وغيرها من الاتهامات.

ويشار إلى أن بعض هذه الاتهامات يُجرى التحقيق فيه، وبعضها تثبت إدانة الطبيب والبعض الآخر تتأكد براءته. ورغم ذلك تظل هناك سمعة متجذرة بأن بعض الأطباء يستغل المرضى ويغالي في الأتعاب، والبعض الآخر يخطئ، وفريق ثالث يهمل، كما تظل حقيقة واقعة ألا وهي عدم معرفة أو اعتراف المواطنين العاديين أن هناك نسباً متعارفاً عليها علمياً تحدث فيها مضاعفات غير متوقعة للمرضى.

لكن المرض في زمن كورونا يفرض قواعد استثنائية ويتطلب جهوداً خرافية ويستوجب تفهمات إضافية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

مطالبة بالاعتذار

الإضافة المهمة في بيان نقابة الأطباء هي مطالبة رئيس الوزراء بالاعتذار والتراجع عن تصريحاته "منعاً لحالة الفتنة". ولم يفت على النقابة مطالبة مدبولي بأن يراجع بنفسه كشوف وفيات الأطباء منذ بداية أزمة كورونا، مع الإشارة إلى أن عدد "شهداء الأطباء" بسبب الفيروس يصل إلى نحو 100 طبيب بالإضافة إلى ما يزيد على 3 آلاف إصابة بين صفوفهم.

رئيس الوزراء لم يعتذر بعد. لكن المتحدث باسم مجلس الوزراء المستشار نادر سعد قال، إن تصريحات مدبولي كانت عن وقائع استثنائية من شأنها ألا تؤثر في "ثوب جيش مصر الأبيض"، موضحاً أنه (مدبولي) لم يعمم، بل قال "البعض".

وحدد سعد عدداً من هذه الوقائع الاستثنائية مثل وفاة مواطن في مستشفى المطرية بسبب عدم وجود طاقم طبي، وبلاغ اتهم الطاقم الطبي في مستشفى بكفر الدوار (شمال العاصمة) بالإهمال والتقصير، ما أدى إلى وفاة يوتيوبر اشتهرت أخيراً وهي سيدة متقدمة في العمر معروفة باسم "ماما سناء". وأدت وفاة الأخيرة متأثرة بكورونا إلى اشتعال مواقع التواصل الاجتماعي، لا سيما أن ابنها هو من تقدم ببلاغ يتهم الأطباء بالتقصير.

من الهجوم إلى الدفاع

الغريب أن كثيرين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي تفاعلوا وتضامنوا مع ابن "ماما سناء" وصبوا جم الغضب وكالوا اللوم على رؤوس الأطباء، موجهين اتهامات جزافية للأطقم بوجه عام بالإهمال والتقصير والتسبب في موت الأبرياء. وذهب البعض إلى حد القول بأن المبالغة في تعظيم الدور العلاجي الذي يقوم به الأطباء أدى إلى نتائج عكسية، مشيرين إلى أن الأطباء وبقية الطواقم الصحية يقومون بواجبهم مثلما يقوم الجندي بواجب تأمين الحدود بحكم مهام عمله.

وانتهز كثيرون الفرصة لسرد حكايات شخصية من الماضي عن تقصير طبيب هنا في علاج الأم، أو استغلال طبيب هناك في مرض الابن. ورغم ذلك، انقلب التجييش العنكبوتي عقب تصريحات مدبولي إلى الدفاع عن الأطباء وتحول الهجوم الضاري على المستغلين والمقصرين إلى دفاع مستميت عن "جيش مصر الأبيض" المظلوم.

وإذا كان من الظلم الاحتكام إلى "السوشيال ميديا" لقياس درجة حرارة الشارع حيث قواعد الترند حاكمة، فإنه من الظلم أيضاً تجاهل رد فعل الأطباء تجاه كلمات مدبولي. وحيث إن هناك "ثأراً قديماً" بين نقابة الأطباء من جهة ووزارة الصحة والسكان من جهة، وبينها وبين البعض ممن يعتبر النقابة مسيسة وواقفة في جبهة المعارضة، فإن التعرف إلى ردود فعل الأطباء ضرورة.

البعض طالب رئيس الوزراء بعمل كشف بأسماء الأطباء المتغيبين الذين أشار إليهم واستدعائهم وعقابهم بالقانون، وفي الوقت نفسه فتح تحقيق موسع في أسباب وفاة البعض من الأطقم الطبية والتحقق مما يقال عن عدم توافر إمكانات الوقاية اللازمة لهم. آخرون طالبوه بتأجيل توجيه الاتهامات لحين عمل كشف بأعداد أجهزة التنفس الصناعي والتأكد من كفاءتها. فريق ثالث طالبه بالاجتماع بوزيرة الصحة والسكان هالة زايد وتكليف لجنة محايدة تقيّم استجابة وزارتها للوباء. آخرون اكتفوا بتوجيه شكر مطول لكل طبيب وممرض وصيدلي وعامل نظافة وفي أشعة وتحاليل على المجهود الجبار، والمخاطرة بأنفسهم وأبنائهم وزوجاتهم من أجل رعاية المرضى، ولكل من عمل عملاً مضاعفاً طيلة الأشهر الماضية، ولكل من حمل على أكتافه أنبوبة أوكسجين رغم أن هذا ليس عمله، أو جثمان متوفى وصلى عليه رغم رفض الأهل تسلمه.

 

 

طوفان غاضب

هذا الطوفان من الغضب "الهادئ" بين عموم الأطباء قابلته بضعة أصوات قال أصحابها إنهم يحتكمون فيها للعقل والمنطق. أغلب هذه الأصوات أشار إلى أن الأطباء ليسوا ملائكة، شأنهم شأن بقية البشر، وأنه من الوارد أن يكون بينهم من أخطأ، وأن تصوير الوضع وكأن كل الأطباء ملائكة بأجنحة هو مبالغة وافتقاد للمنطق.

لكن المنطق أيضاً يشير إلى أن رئيس الوزراء افتقد الحنكة السياسة في توقيت الملحوظة وطريقة التعبير عنها، لا سيما أن الأرض ممهدة للاستغلال والافتئات السياسي والإعلامي، وهو ما جرى بالفعل. مواقع خبرية وقنوات فضائية معروفة بمواقفها المعادية للنظام المصري تدق على كلمات رئيس الوزراء معتبرة إياها "إعلان حرب على جيش مصر الأبيض" و "إمعاناً في قتل المصريين" و"جحوداً بدور الأطباء العظيم" وغيرها من نعوت إشعال الفتنة وتعمد الإثارة.

كلمات قليلة وأثر ممتد

المثير هو أن رئيس الوزراء أشار إلى رصد تغيب البعض من الأطباء في بعض المستشفيات بكلمات معدودة لم تستغرق سوى دقيقة أو اثنتين. كلمات قليلة لكن أثرها يظل ممتداً.

فقد تحدث باستفاضة عن الجائحة، وأن الهم الأكبر للدولة كان عدم خروج الأمور عن حدود السيطرة، مع الأخذ في الاعتبار القدرات والإمكانات المتاحة، وأن نسبة النجاح في التعامل مع الأزمة معقولة، وأن الدولة كانت واعية بوجود فترة ستتضاعف فيها أعداد المصابين كطبيعة أي وباء. قال أيضاً إن البلاد شهدت فترة بالغة الصعوبة عقب عيد الفطر حين زادت الأعداد بصورة كبيرة نتيجة وجود المواطنين بشكل مكثف في الأسواق والأماكن العامة.

وشرح مدبولي القرارات والإجراءات التي اتخذتها الدولة في شان المستشفيات المتعاملة مع مرضى كورونا. وتحدث عن التحدي الأكبر ألا وهو أعداد المصابين داخل محافظات إقليم القاهرة الكبرى التي تمثل 25 في المئة من السكان، وسجلت 50 في المئة من أعداد المصابين، و60 في المئة من الوفيات.

وأشار إلى عمليات المتابعة المستمرة لموقف المستشفيات والتأكد من توافر المستلزمات الطبية والأدوية، والتفاعل الفوري مع الشكاوى. وهنا قال مدبولي إنه "تم رصد عدد من الشكاوى التي تتعلق برفض عدد من المستشفيات استقبال المرضى والمصابين بالفيروس، وهو ما تم التعامل معه بشكل فوري في هذه الظروف الاستثنائية". ثم تقدم "بالشكر والتقدير لجميع الأطقم الطبية الذين يبذلون جهداً هائلاً واستثنائياً في التعامل مع هذه الأزمة، واعتبار ذلك دوراً مقدساً لهم خلال هذه المرحلة الراهنة التي يمر بها الوطن". وأضاف أنه سيتم كذلك "اتخاذ كافة الإجراءات الإدارية للتعامل مع ما شهده بعض المستشفيات من تغيب للأطقم الطبية العاملة بها، وعدم انتظامهم في أداء أعمالهم، وهو ما نتج عنه الإضرار بسلامة وصحة المواطنين".

لكن المواطنين والأطباء والنقابة ورواد مواقع التواصل الاجتماعي وحلقات النقاش والتداول لم يتوقفوا إلا عند الكلمات الأخيرة التي أثارت زوبعة في فنجان كورونا الدامي.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات