Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود قرني في مهب الشعر وهاجس الهوية

المرجعيات التراثية منطلق لبناء قصيدة حديثة في ديوان "ترنيمة"

محمود قرني (وسائل التواصل الاجتماعي)

تمتاز شعرية محمود قرني بأنها مسكونة – دائماً – بهاجس الهوية. ولا تعني الهوية هنا انغلاقاً على الذات أو تعصباً لها أو أحادية في الرؤية، فهي تحمل – في توجهاتها الأساسية – انفتاحاً على الثقافات الأخرى وتفاعلاً معها سواء بالرفض أو القبول. فالانفتاح لا يعني التماهي بطبيعة الحال وإلا فقدت الذات هويتها؛ بل يعني موقفاً انتقادياً واعياً، وهو ما تقوم به شعرية محمود قرني على مدار دواوينه. وظهر ذلك في ديوانه "لعنات مشرقية"، وأخيراً في "ترنيمة إلى أسماء بنت عيسى الدمشقي". وهي – كما يشير الشاعر في هوامش الديوان – شخصية متخيَّلة، لكنها واضحة الهوية من خلال بنيتها وانتسابها إلى دمشق كإحدى المدن العربية التى لعبت دوراً مشهوداً مع الحكم الأموي، وهو ما يعد تمهيداً لعلامات الهوية التي تبدَّت في الأماكن والأعلام وأنماط الحكي التراثي.

ولعل قصيدة "وجوه البصرة" من أكثر نصوص الديوان، الصادر حديثاً عن دار "الأدهم" في القاهرة، المعبرة عن ذلك. فالبصرة ليست مجرد مدينة بل هي حاضرة علمية تعتمد العقل في العلوم اللغوية وبخاصة النحو العربي، في مقابل الكوفة التي تعتمد النقل وتصح عندها كل الشواهد التراثية. هذا الجانب الحضاري للبصرة جعل من الطبيعي أن يستدعي الشاعر أعلامها: الفرزدق والخليل بن أحمد والحسن البصري وتضمين بعض أقواله من قبيل أن الإنسان "وديعة مستعارة وضيف مرتحل". كل ذلك في مقابل اختراق هذه الهوية ومحاولات محوها، هذه الهوية التي تعد "النخلة" علامة أيقونية دالة عليها. يقول الشاعر: "النخلة لم تعد في الفناء يا سيدي/ هنا فقط بيتٌ من الطين/ تشتجر على سطحه كلابُ أصفهان" ص11. لقد تحولت طبيعة البصرة وأصبحت امتداداً لأصفهان وأصبح "الملالي" يرفعون الأذان وأصبح الشعراء مفسرين لأحلام الطالبيين بينما أصبح العربي منذوراً للموت.

استدعاء شعري

يقول الشاعر مخاطباً نفسه على سبيل التجريد: "فإذا حلمت بديكِ البصرة ينقر جبهتك/ حاول أن تتزود بزاد التقاة/ فأنت ميتٌ لا محالة". ومن الواضح أن الشاعر يوظف – فى هذه السطور – ما ورد عن عمر بن الخطاب: "إني رأيتُ كأن ديكاً نقرني ثلاث نقرات وإني لا أراه إلا حضور أجلي ...". فنقرُ الديك – في الرؤيا- نذير موت قريب، واستدعاء الفرزدق هو استدعاء – ضمني – لغرض النقائض، بخاصة أن هذا الاستدعاء يقوم على ما ورد في قول جرير: "ورأيت نبلك يا فرزدق قصرت/ ووجدت قوسك ليس فيها منزع". لقد أصبح الفرزدق – بهذه الصورة – رمزاً للعربي العاجز المهزوم، وهو أمر يقدمه الشاعر بهذه الصورة التهكمية المريرة: "وإذا حلمت بأنك تشرب كأساً مع الفرزدق/ فاعلم أن نصالك لم تصب عدوك/ بل أصابت مِعزة جارك".

 وعلى الرغم من أن الوزن الخليلي يعد أهم خصائص القصيدة العربية فإن قصيدة النثر – في محاولاتها استدعاء الهوية العربية – تستبدل إيقاع التكرار بإيقاع الوزن الخليلى وقد اتخذ التكرار في هذه القصيدة نمطين: الأول البدء بقوله: "إذا حلمت..." على مدار خمس مقطوعات، والثاني هو تكرار عدد سطور هذه المقطوعات حيث تتكون المقطوعتان الأولى والثانية من ثلاثة سطور والثالثة والرابعة والخامسة من ستة أسطر. وهو ما يمكن أن نسميه بالإيقاع البنائي الذي يستعيض به عن الغرق في "ستة عشر بحراً ملؤها الزحَّافات والعلل". وتستمر تيمة الحلم التي كرَّرها الشاعر في بداية المقطوعات الخمس في حديثه عن حلمي سالم؛ الشاعر السبعينى الراحل، يقول: "بالأمس قابلت حلمي سالم/ كان يرتدي عباءة من الخز/ معبَّقة بالمِسك والطنافس/ قابلتُه بصحبة امرأة غريبة/ قالت إنها "أسماء بنت عيسى الدمشقي"/ كانت ضحكتها الحبيسة/ تبدو كوردة في زجاجة/ وكان يبدو كأمير يتعفف عن أسلاب الحرب/ وعلى العقبان التي تتبع منه الخطوات". ومن الواضح أن الدوال التراثية شديدة الحضور في هذه السطور: عباءة الخز/ الطنافس/ الأمير/ أسلاب الحرب، وعلى الرغم من أنه يبدو أميراً متعففاً عن أسلاب الحرب فإن العقبان تتبع خطواته وتترصد له ولا تتبع – على عكس ما هو موروث – خطوات الأعداء لكي تتغذى على مَن يسقط منهم. هذه المغايرة تمهد للانفتاح على المعنى المعاصر حين يقول: "أسلاكٌ طويلة يخفيها تحت قميصه/ أحماض لقروح الفراش/ وتخطيطات سوداء/ لقضاة قالوا/ إن قصائده حقل من العنب المسموم". هذه السطور تحيل إلى واقعة مثول حلمي سالم أمام القضاء بسبب قصيدته "شرفة ليلى مراد"، ويبدو أن هذه الإحالات الضمنية التي تعتمد على وعي المتلقي وثقافته إحدى استراتيجيات الكتابة الشعرية عند محمود قرني وهو ما لاحظناه – سابقاً – فى الإحالة إلى بيت جرير ومأثور عمر بن الخطاب.

ولعلنا لا نخطئ الإشارة – وإن كانت شديدة الخفاء – إلى قصة حي بن يقظان حين يتحدث الشاعر عن صداقته للضفادع وأسراب النجوم بعد أن أخذ الطاعون أجداده وعن كلبه الذي ارتدى كسوة أسد وانتصب كجندي غيور دفاعاً عن صداقتهما الطويلة؛ "بعد أن كتب على باب البيت: هنا عرين أخي في الرضاعة"، وفي هذا السياق الذي يحاول  الشاعر- من خلاله -  تأكيد هوية القصيدة يمكن الإشارة إلى توظيفه الحكي الشعبي فى قصيدة "أغنية الزلاباني". و"الزلاباني"، صفة لمهنة الحلواني فى مصر المملوكية وحتى أيامنا وقد وردت حكايته في كتاب "نزهة النفوس ومضحك العبوس" لابن سودون. يعتمد الشاعر إذن على نص موروث، في ما يمكن أن نصفه بالحكاية/ القناع التى تشير إلى ما هو معاصر: "الزلاباني الذي "لا يصيب في مقال/ ولا يفهم ما يقال"/ ألَّف كتاباً في الحكمة". ولا يرجع الحس الشعبى إلى استدعاء صناعة الزلابانى فحسب بل يرجع – أيضاً – إلى الأسلوب المعتمد على السجع والجناس الناقص والمفارقة الساخرة بين عدم الإصابة فى مقال وفهم ما يقال وتأليف كتاب في الحكمة والاعتماد على رسم الصورة الهزلية مما يمكن أن يندرج تحت هجاء النموذج حيث "تفل على ماضيه/ وضرب أفخاذه من كثرة الضحك/ ومن جديد تقدم مجالس الكبراء/ واعتبر نفسه من نسلهم". وتوظيف الخيال الشعبي في تصوير بيت الزلاباني الذي يحلم أن تكون "حوائطه من الكنافة والماورد/ وسقفه من القطائف والسكر"، وهو خيال يقوم على المبالغات فوق الواقعية، وهو ما يظهر أيضاً في صورة تقترب من عجائبية "ألف ليلة وليلة" حين تنجب امرأته ابن التسعة أشهر فى يومين وحين يسألها – مندهشاً – عن هذا الأمر العجيب تقول له: "أتصدق ما فعله جوز الطيب ولا تصدقني"، فيقول لها: "أخطأ الزلاباني وأصابت عفيفة الثياب".

الحكمة المرجأة

وهكذا تمر هذه الأمور الغرائبية في اعتيادية ربما لأن كل ذلك ليس غاية القصيدة بل تمهيد لحكمتها المرجأة. فبعد أن يتأخر الزلاباني في شراء الطعام لغفلته حتى غروب الشمس يعود ليجد امرأته قد هلكت وولدها يستغيث من الجوع فأخذ يلقمه جوزاً ولوزاً "حتى امتلأ بطنه وانتفخت أشداقه/ وظل يصرخ حتى مات"، وخرج يبحث لهما عن كفن لكنه ضلَّ طريق العودة. هذه الصدمة تصنع تحولاً في شخصية الزلاباني وتنطقه بالحكمة حين يرى أن "الموت حق/ مَن جاع مات من الجوع/ ومن شبع مات من التخمة". والقصيدة/ الحكاية بها حسٌ كوميدي ولعل سوق حكمتها على لسان تلك الشخصية الغافلة كثيرة النسيان يدل على ذلك. وفي قصيدة "لا غرَّني ناسكٌ بعدك أبداً"؛ يعتمد الشاعر كذلك على نص حكائي موروث ورد على لسان "قبرة" أقام لها صياد يهودي فخاً وأوقع بها.

غير أن الشاعر يقوم بمجموعة تبديلات أولها اختراعه لشخصية "الشيخ تاج الدين بن عطاء" ليكون راوياً للحكاية بدلاً من ابن عبد ربه الذي أوردها في "العقد الفريد". ثانيها استبداله الثعلب بالصياد اليهودي، والإغواء في القصيدة يقع بادعاء الحب والنسك حيث يقول الثعلب رداً على سؤال العصفورة عن سبب سهاده واحمرار عينيه: "إنه الحب يا جميلتي/ أنت عالية كنجمة/ وأنا حارسك من هذه الجِراء". وعندما تسأله عن حبة القمح التي في يمينه، يقول: "إنه مهرُك يا معشوقتي/ انزلي وخذيها... فنزلت". وعند هذا الحد يسكت الشيخ مكتفياً بالقول – حكمة القصيدة – "إن الله خلق الأرض في يوم السبت/ والجبال في يوم الأحد/ والعصفورة والثعلب في يوم الاثنين/ ثم خلق المكروه في يوم الثلاثاء".

رؤية تراجيدية

والحقيقة أن هناك رؤية تراجيدية للعالم تقوم على تعدد أبعاد الصراع المتمثل في الغزو والاستباحة التي اقترفها الاستعمار التقليدي منذ بدايات القرن التاسع عشر وهو ما عبَّر عنه الشاعر في "ضرطة السير إدوارد فاريل" التي تقوم على قصة حقيقية وفي قصيدة "خاتم فيروزي لحكيم العائلة" التي ينهيها بقوله "في الثلث الأخير من الليل/ كان الغزاة قد التهموا كل شيء/ الخاتم والأرض وحكيم العائلة/ لكنهم كانوا ظرفاء بدرجة كبيرة/ فبعد أن علقوا الكثير من الرؤوس/ على أشجار الحديقة/ فتحوا أفواه الموتى وحشوها بحبَّات الفاكهة". ثم البعد الاجتماعي الذي اتضح فى قصيدة تستدعي بريخت الشاعر والمسرحي الاشتراكي الذي كان "لا يزال يسأل عن ذلك التاجر الذي يلتهم طعام غيره ثم يقول: هذه قسمة الله وتلك حكمته". وفى قصيدة "كيف تكون رأسمالياً ناجحاً"، يتحدث الشاعر عن "رئيس المدينة" الذي توحَّش كثيراً وبات "يعتبر الفقراء عضة غليظة في ظهر البلاد". وفي قصيدة أخرى يتحدث عن أجدادنا الذين امتدحوا "الصدق والامتثال/ وقد أدركوا بفطرة مبكرة/ أنه لا يصح لأحلامهم أن تنمو بدرجة تجرح صفاء سادتهم".

وأخيراً يمكن القول إن شعرية محمود قرني ليست تعبيراً عن مشاعر عارضة أو تأملات ذهنية، بل هي شعرية تتماس بقوة مع التاريخ والفلسفة والتراث بتجلياته المختلفة.

المزيد من ثقافة