قطعت القوانين والتشريعات الخاصة بالمرأة في السودان طريقاً شائكاً تقف فيه التقاليد عقبةً في طريق الإصلاحات. وحين باشر مجلس الوزراء تعديل القانون الجنائي السوداني، أُضيفت إليه مادة خاصة بتجريم ختان الإناث.
فقد وقفت التقاليد سدّاً منيعاً أمام أول قانون أصدرته سلطات الاستعمار البريطاني على السودان، في 1947، ويجرّم ظاهرة الختان. وكذلك فعلت في عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري، الذي أدخل مادة إلى القانون الجنائي تمنع تشويه الأعضاء التناسلية للأنثى عام 1973.
وبالنظر إلى الحزام الذي يطوق بعض الدول الأفريقية الناشطة في هذه الظاهرة، تشير تقديرات حديثة للأمم المتحدة إلى أنّ 200 مليون فتاة وسيدة خضعن لختان الإناث في 31 دولة، 27 منها في أفريقيا. لكن من المحتمل أن يكون الرقم أعلى بكثير ويصل إلى 90 بلداً، إذ يتعذر الحصول على بيانات منها.
وعلى الرغم من هذا الانتشار، إلا أنَّ دراساتٍ تاريخية تفيد بأنَّ أول شكل للظاهرة ابتدعه الفراعنة لأنَّ فرعون موسى علم أنَّ أحد أبناء بني إسرائيل سيقتله فبحث عن طريقة لمنع هذا الأمر، فجاءته عجوز بهذه الطريقة، وجمع القابلات في قصره كي لا تلد أي امرأة من بني إسرائيل بنفسها بل تضطر إلى حضور القابلة لتساعدها على الوضع. ويدعم هذه الرواية الدينية ما كشفت عنه الحفريات الأركيولوجية للأسر الفرعونية التي أظهرت آثار الختان في الملكتين كليوباترا ونفرتيتي.
مسيرة مناهضة
وجد قرار الحكومة الانتقالية في السودان بشأن تجريم ختان الإناث في البلاد ترحيباً واسعاً، محليّاً ودوليّاً. وذكر فايز السليك المستشار الإعلامي في مجلس الوزراء لــ"اندبندنت عربية"، أنَّ "تجريم تشويه الأعضاء التناسلية للإناث في السودان يعدُّ نقلة نوعية في مسيرة مناهضة هذه الجريمة والانتهاك الصارخ لحقوق الإنسان منذ زمن طويل. وجاءت الخطوة انتصاراً لنضالات المجتمع المدني عموماً والنساء خصوصاً عبر سنواتٍ طويلة. وما فعله مجلس الوزراء يُعدُّ تتويجاً لتلك المسيرة، وتعبيراً عن روح ثورة ديسمبر (كانون الأول)، التي جاءت عقب نظام إسلامي متطرف ظلَّ يشرعن العنف الممنهج ضد النساء، ويشمل ذلك زواج القاصرات والسماح بختان الإناث وقانون النظام العام السيء السمعة. لذلك، سحب النظام السابق القانون عام 2009 خلال فترة اتفاق السلام الشامل".
وأكَّد السليك أن "القانون الذي قدمه وزير العدل نصر الدين عبد البارئ، في جلسة 22 أبريل (نيسان) الماضي، كان بإضافة مادة حملت الرقم 141 التي نصت على عقاب السجن والغرامة وسحب ترخيص العمل للمتورطين في الجريمة. لكن لن يكون سارياً ما لم تتم إجازته في جلسة مشتركة بين مجلس الوزراء والمجلس السيادي في غياب المجلس التشريعي (باعتبارهما يؤديان مهمة المجلس التشريعي)، وذلك وفقاً للوثيقة الدستورية".
دعوها تنمو سليمة
واعتبرت منظمة اليونيسيف، في بيان، أنَّ هذه الخطوة تأتي بعد سنوات من الدعوة الجادّة والمستمرة، مشيرة إلى أنَّ السودان من الدول التي ترتفع فيها نسبة بتر (تشوهات) الأعضاء التناسلية الأنثوية. وبحسب مسح أجري في العام 2014، فإنَّ معدل ختان الإناث يصل إلى نسبة 86.6 في المئة. وتوجد أدلة على انخفاض النسبة بين الفتيات من الفئة العمرية الأصغر سناً، أي تحت الـ14 سنةً، فقد انخفضت النسبة من 37 في المئة في عام 2010، إلى 31.5 في المئة في عام 2014.
وكانت اليونيسيف قد نشرت تقريراً من مدينة القضارف قبل 10 أعوام ورعايتها احتفالاً بإصدار قانون محلي يجرِّم الظاهرة وقادت حملة تشجع على اتخاذ القرار على مستوى المجتمع المحلي وتصدر تصريحات عامة عن التخلي عن الختان.
مثال آخر يعكس تطوراً في الاهتمام بقضايا المرأة يتمثّل في وقوف بعض رجال الدين وقادة الرأي في المجتمع، مثل الشيخ عبدالجليل الكاروري الذي قاد حملة (سليمة) لمحاربة ختان الإناث جنباً إلى جنب مع منظمات المجتمع المدني بشعار "كل بنت تولد سليمة، دعوا كل بنت تنمو سليمة". وعلى عكس رجل الدين النائب في البرلمان السوداني في عهد النظام السابق، دفع الله حسب الرسول الذي لم يحقق شهرة في دائرته أو البرلمان إلّا بسبب جدله في موضوع الختان وشنه حملة على منظمات المجتمع المدني والنشطاء، ووصل به الأمر إلى تكفير مكافحي ختان الإناث.
علامة إيجابية
ورحّبت وزارة الخارجية بقرار تجريم ختان الإناث، وهي الممارسة التي عانت بسببها نحو 87 في المئة من النساء والفتيات في السودان، وفق بيانات نشرتها الأمم المتحدة. وأكدت الوزارة، في بيان، أنَّ صدور القرار يمثل تطوراً إيجابياً مهماً، ويأتي إنفاذاً لما نصت عليه الوثيقة الدستورية في الفصل 14 الخاص بالحقوق والحريات. وقالت الوزارة إنَّ الإنفاذ الكامل والمثمر لهذا القانون يتطلب تضافر الجهود والتنسيق المحكم مع جميع الشركاء، وفي مقدمهم منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، بالإضافة إلى الشركاء الدوليين الراغبين في تقديم العون في هذا الشأن.
واعتبرت الخارجيّة السودانيّة أنَّ هذا التعديل القانوني يُعدّ "علامة إيجابية في خلق مجتمع تتمتع به المرأة بجميع حقوقها، بما في ذلك ممارسة حقوقها وواجباتها". ولم توضّح الوزارة تفاصيل حول المادّة الجديدة (141) التي تجرّم الختان، إلّا أنّه تمت الإشارة إلى مشروع مادة شبيهة تم تداولها عام 2017، يُعدُّ بموجبها "مرتكباً جريمة كل من يقوم بإزالة أو تشويه العضو التناسلي للأنثى، مما يؤدي إلى ذهاب وظيفته كلياً أو جزئياً سواء كان داخل أي مستشفى أو مركز صحي أو مستوصف أو عيادة أو غيرها، ويعَاقب من يرتكب الجريمة بالسجن مدة لا تتجاوز ثلاث سنوات وبالغرامة كما يجوز إغلاق المحل".
مواءمة التشريعات
وحول هذا القانون ومواءمته التزام السودان بالاتفاقيات الدولية، أكد عمار محمد محمود، المستشار في بعثة السودان للأمم المتحدة بنيويورك، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، أنَّ "ختان الإناث، أو تشويه الأعضاء التناسلية بحسب المصطلح العالمي الحديث، ممارسةٌ تنطوي على انتهاك العديد من حقوق الإنسان المُبيّنة في الصكوك الدولية وأهمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، واتفاقية القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، واتفاقية حقوق الطفل. هذا فضلاً عن المواثيق والصكوك الإقليمية مثل الميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب، والميثاق الأفريقي لحقوق ورفاهية الطفل".
أضاف محمود أنَّ "تجريم هذه الممارسة يأتي من كونها تمسُّ حق النساء والفتيات في الحياة والصحة والتحرر من العنف والسلامة البدنية، وعدم التمييز، والتحرر من المعاملة القاسية والمهينة والحاطّة بالكرامة الإنسانية. وحكومة السودان، من واقع أنَّها دولة طرف في كل تلك الاتفاقيات الدولية والإقليمية (عدا سيداو)، يقع على عاتقها عبء الوفاء بالتزاماتها الدولية واتخاذ الإجراءات الداخلية التي تكفل تبيئة ومواءمة قوانينها وتشريعاتها الداخلية مع تلك الصكوك. وما تم قبل أيام من تعديل للقانون الجنائي السوداني وإضافة مادة تجرم ختان الإناث خطوة مهمة جداً في طريق الوفاء بتلك الالتزامات".
ونوه المستشار ببعثة السودان للأمم المتحدة بأنَّ إلى جانب تلك الاتفاقيات والمعاهدات الإقليمية منها والدولية، والتي تمثل التزامات قانونية؛ شارك السودان في وضع وتبني العديد من القرارات على مستوى الجمعية العامة للأمم المتحدة، التي استهدفت إدانة ممارسة تشويه الأجهزة التناسلية للإناث. وهذه القرارات، على الرغم من عدم إلزاميتها من وجهة النظر القانونية، إلَّا أنَّها تشكّل قانوناً مرناً يعضِّد ويساند نصوص الاتفاقيات الدولية ذات الصلة بإدانة وتجريم تلك الممارسة".
أنماط العنف
أما وزارة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية، فقد بدأت السير نحو تحقيق هذا القانون مبكراً. في حديثها إلى "اندبندنت عربية"، قالت فاطمة سالم مديرة إدارة البحث العلمي والمتخصّصة في استراتيجيات الحماية في وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل في وزارة العمل والتنمية الاجتماعية السودانية، إنَّ "الممارسات الضارة بالإناث ظاهرة ممتدة عبر تاريخ المجتمعات البشرية، تعيد إنتاج أشكالها ودوافعها وتمظهرات عاداتها وتقليدها، بحسب كل سياق عرفي وثقافي، وتزداد تعقيداً كلما تشابكت حزمة مضارها وآثارها. وما من ممارسة كانت الأفدح في حياة النساء الصحية مثل ممارسة ختان الإناث، التي انتهى تطور تعريفها إلى توصيف إجرائي جامع ساعد لاحقاً على التكييف القانوني في بعده الجنائي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأضافت سالم أنَّ "ذلك التكييف شمل بتر وتشويه الأعضاء التناسلية للأنثى، ومختلف الممارسات التي تنطوي على إزالة هذه الأعضاء بشكلٍ جزئي أو كلي أو حتى إلحاق إصابات بها. ويتسع هذا التوصيف من منظورنا في وحدة مكافحة العنف ضد المرأة لتفصيل آثار كل الأذى، النفسي والجسدي والجنسي، وهي ثلاثة من خمسة أنماط رئيسة في العنف الذي يحرم الأنثى من حقوقها الشرعية والقانونية في أن تحيا حياة طبيعية كما خلقها الله في إطار دور وجودي متكامل. فيما يظل التعريف العام (ختان الإناث) يؤدي مهمة تعريفية متصلة بشمول الممارسة لفئاتٍ عمرية مختلفة، حيث ما ظل النمط الغالب المعروف هو المتصل بالطفلات. لكن المسوحات والاستطلاعات والمتابعات الاجتماعية، رصدت ممارسة في فئات عمرية أكبر، فضلاً عن أنَّ أثر الممارسة في الطفلة يمتد في مراحل عمرها الأنثوي كلها، فهي بالغة الضرر والأذى".
الوعي أساس القانون
وتؤكد سالم أنَّ "أهمية القانون تأتي كإسناد مهم في حماية الحقوق الشرعية والقانونية، على اعتبار أنَّ الأصل وهو التخلي الاجتماعي عن الممارسة بإحلال وعي ثقافي راشد مركب من حزم فقهية وطبية ومعارف حقوقية متصلة بسلامة حياة المرأة الفردية والزوجية والاجتماعية، وأمنها الصحي الذي يمكنها من إسهامها العام في الوجود والحياة العامة".
أضافت "يبقى الجهد الأهم، الذي يضمن نفاذ القانون في إطار وعي اجتماعي وقبول سلس في مجتمع متنوع في ممانعاته. وذلك بمعاونة عوامل متعلقة بمستوى التعليم وحصص البرامج والأنشطة التوعوية والتثقيفية التي تتيحها ظروف بعض المكونات المجتمعية النائية، فضلاً عن احتياجات تطوير ضمن منظومة تنموية متكاملة تتيح للمجتمع أن يطور منظوره للمرأة وطبيعة حقوقها وأدوارها".
واختتمت سالم حديثها بأنَّ "إجازة القانون تمثل انتقالة مهمة في مسار مواجهة هذه الممارسة الضارة الممتدة في جغرافيا اجتماعية واسعة، وتشمل إلى جانب البلدان العربية والأفريقية بلداناً آسيوية وامتدادات أخرى، بحسب مسوحات الانتشار وتقارير الأمم المتحدة الخاصة بمتابعة الممارسة. ورجاؤنا كمعنيين بمكافحة عنف الممارسة أن تدفع إجازة القانون بتطوير جهود التنسيق بين الأطراف الفاعلين والمؤثرين من خبراء تعليم وتربية وإعلام وصحة وتثقيف، عبر أنشطتهم المؤسسية، وتطوير مبادرات المجتمع ومنظماته الأهلية والمدنية. وذلك بما يتكامل مع التزامات مؤسسات الحماية الحكومية التي تنسق أبعاد تعاون مضافة مع جهود إقليمية ودولية لخدمة هذا المشترك الاجتماعي الذي تمثله قضية ممارسة ختان الإناث الضارة".