Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الصادق المهدي وسياسة الإمساك بالعصا من النصف

تتهم أحزاب منضوية في قوى الحرية والتغيير زعيم "حزب الأمة" بالمناورة لتحصيل مكاسب سياسية

الصادق المهدي مصافحاً حميدتي في لقاء سابق (حسن حامد)

جمَّد "حزب الأمة القومي" السوداني بزعامة الصادق المهدي نشاطه في "قوى الحرية والتغيير"، المرجعية السياسية للحكومة الانتقالية في السودان، المكوّنة من أربع كتل معارضة أساسية وقَّعت على ميثاق "إعلان الحرية والتغيير"، قبل إسقاط النظام السابق، وهي "تجمّع المهنيين السودانيين" و"التجمع الاتحادي"، "قوى الإجماع الوطني" وقوى "نداء السودان". ويُعدُّ "حزب الأمة القومي" جزءًا من كتلة "نداء السودان" التي تضمّ كذلك "حزب المؤتمر السوداني" وحركات مسلحة تقاتل في مناطق عدّة من البلاد. وكان الحزب مشارِكاً ضمن "قوى إعلان الحرية والتغيير" في الوصول إلى الوثيقة الدستورية (المصفوفة) التي أجازتها الأطراف الثلاثة، كما يشارك بممثلين في اللجان الفرعية التي شُكِّلت بموجبها. ورهن المهدي رجوع حزبه إلى "قوى الحرية والتغيير" بتحقيق مطالبه.
ولعلّ التاريخ يعيد نفسه، فمواقف المهدي في العهود السابقة، كانت تشهد توافقاً في الرؤى مع المعارضة وتمثيلها، بينما تتناغم بشكلٍ أو بآخر مع الحكومة، ما يفسِّر موقفه الحالي وكأنَّه مسكٌ للعصا من المنتصف، في تنازعه بين "قوى الحرية والتغيير" و"الجناح العسكري".


الوقوف على مسافة واحدة


لا يزال الصادق المهدي منذ دخوله معترك العمل السياسي، يشغل الرأي العام بهمومه العامة والخاصة. وتحمّله لهذا العبء لم يكن كله اختياراً، وإنَّما كان الجزء الأكبر منه إرثاً تاريخياً ثقيلاً ألقته على كاهله الجينات المهدوية، الثورية. كما لا ننسى أن الوثائق التاريخية التي كتبها مستشرقون محايدون وتلك التي كتبها موالون لـ"الثورة المهدية"، في وضع المقارنة، تستلزم العمل على تنقية ما علق في الأخيرة من شوائب الانتصارات المُزيَّفة والاعتماد على الغيبيات وهي المُستغَّلة الآن في تكوين سندٍ شعبيٍّ واسع لحزب الأمة. وهذا هو سنام الحزب الذي أسسه الإمام عبد الرحمن المهدي في فبراير (شباط) 1945، إذ تكوّن الحزب من مزيجٍ من كيان الأنصار الذين يؤيدون الفكرة المهدية التي أطلقها الإمام محمد أحمد المهدي في نهاية القرن التاسع عشر، والتي تقول بعودة المهدي المُنتظر الذي سيظهر في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعدما مُلئت جوراً، ومن بعض المثقفين القوميين الذين يطالبون باستقلال السودان.
ومنذ ذلك التاريخ، مرَّت على جسر الحزب مياهٌ كثيرة من الائتلاف والاختلاف. وعندما نوت السلطة السابقة تشكيل "حكومة الوفاق الوطني" عام 2009، عقدت لقاءات عدّة مع قيادات الأحزاب السودانية المعارضة كلٌّ على حدة. وكان أول هذه اللقاءات مع زعيم "حزب الأمة القومي" الصادق المهدي، وجاء اللقاء وسط تكهنات بانضمام الحزب إلى الحكومة الجديدة. وعلى الرغم من نفي قياديين فيه، إلّا أنّ هذه الخطوة تمخّضت عن مشاركة الحزب على المستوى العائلي بتقديم عبد الرحمن المهدي، نجل الصادق المهدي، مساعداً للرئيس السابق عمر البشير.

وبعد ذلك، ترشّح الصادق المهدي عن "حزب الأمة"، للانتخابات الرئاسية عام 2010، من ضمن 12 مرشحاً. وأطلق حملته من دار الحزب وعرض برنامجاً انتخابياً سمّاه "طريق الخلاص" أو "المنجّيات العشر"، ومنها احترام المواطنة والعدل واحترام الأديان وحقوق المرأة.
بعد ذلك، وقَّع الصادق المهدي مع الجبهة الثورية والهيئة العامة لقوى الإجماع الوطني وهيئة منظمات المجتمع المدني وثيقة "نداء السودان" في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا في ديسمبر (كانون الأول) 2014. وضم كيان "نداء السودان" قوى معارضة مدنية ومسلحة، مثل "الجبهة الثورية المسلحة" المكوّنة من "حركة تحرير السودان فصيل مني أركو مناوي" و"حركة تحرير السودان فصيل عبد الواحد نور" و"حركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم" و"الحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال".
وبهذا، يتظهّر وقوف "حزب الأمة" على مسافة واحدة من الحكومة وقوى المعارضة، فالحوار بين الحزب والحكومة شهد توافقاً على مستوى الرؤى على الرغم من إعلانه عكس ذلك. أما المسافة التي يحفظها بينه وبين قوى المعارضة، فتغلب عليها صفة الأبوية وذلك بنزوعه إلى تمثيل المعارضة والتفاوض نيابةً عنها.


ديدن المهدي

على الرغم من أن "حزب الأمة" شارك بعضوين في الحكومة الانتقالية، هما وزير المالية ووزير الشؤون الدينية، إضافةً إلى وجود بعض أعضائه في مجالس الولايات وفي "لجنة إزالة التمكين"، إلّا أنّ ديدن المهدي هو عدم الرضا عن أداء أي تجمعٍ يكون هو جزءًا منه، بل سرعان ما ينفصم عنه ليكوِّن جسماً سياسياً جديداً.
حدث ذلك من قبل بخروج "حزب الأمة" من "الجبهة الوطنية" المعارِضة لنظام الرئيس السابق جعفر النميري في أواخر سبعينيات القرن الماضي، ثم عقد اتفاقية المصالحة الوطنية التي وقّعها مع النظام، حين دخل المهدي ورفاقه في تفاوضٍ معلن مع السلطة، وآخر غير مباشر خَلُص إلى توقيع اتفاقية المصالحة الوطنية في 7 يوليو (تموز) 1977 في مدينة بورتسودان على ساحل البحر الأحمر. ونصَّت "اتفاقية المصالحة" على ضرورة إحداث إصلاحات سياسية في البلاد، إضافةً إلى وضع قاعدة جديدة لممارسة العملية الديمقراطية. وبتوقيعها، فُتحت الطريق أمام عودة المهدي إلى البلاد. إلّا أنّ الأوضاع عادت إلى سابق عهدها بعد محاولة انقلابية فاشلة من قبل مجموعة من ضباط الجيش، اتّهمت حكومة النميري، جماعة المعارضة بقيادة المهدي بتدبيرها والتخطيط للانقلاب على السلطة، ولكن آثر الصادق وقتها البقاء في السودان بعد خلافات وصراعات مع النظام الحاكم.

 كرَّر الصادق المهدي السيناريو ذاته عندما خرج من السودان متخفّياً عن أنظار السلطة في عملية أُطلق عليها اسم "تهتدون"، عبر الحدود السودانية إلى إريتريا، لينضم إلى التجمع الوطني المعارض عام 1996. وبدأ التفاوض مع الحكومة سراً في جنيف 1997، ثم تم التوصل إلى الاتفاق الذي وقّعه في جيبوتي مع الرئيس السابق عمر البشير في 26 نوفمبر (تشرين الثاني) 1999. وعاد المهدي إلى السودان في مارس (آذار) 2000 في عملية أُطلق عليها اسم "تفلحون".


مطالب الأمة

وطالب "حزب الأمة" أخيراً بحلّ "المجلس المركزي" و"التنسيقية المركزية لقوى التغيير" وإبعاد الممثلين الحاليين وتشكيل الأجهزة من عناصر جديدة، إضافةً إلى زيادة تمثيل كتلة "نداء السودان"، التي تضم الحزب وحركة جيش تحرير السودان وبعض الفصائل المسلحة في الجبهة الثورية والتحالف الوطني السوداني. وأبرز ما ذكره الحزب في بيان صادر عن أمانته العامة، أن "هناك عيوباً أساسية صاحبت أداء الحكومة الانتقالية كاضطراب موقف القيادة السياسية لـقوى الحرية والتغيير". كما أضاف أن "بعض مكوّنات التحالف الثوري سادرةٌ في مواقف حزبية، وأخرى تفاوض مجلس السيادة بلا تنسيق مع الحرية والتغيير، التي لم تمنع بعض مكوّناتها من المزايدات لدرجة المناكفة". وأشار البيان إلى أن "الاختلاف حول الملف الاقتصادي صنع اصطفافاً حاداً بلا إمكانية لاحتوائه". كما دعا إلى "ضرورة الاهتمام بالمكون العسكري في البلاد لأنه شريك حقيقي في التغيير، بالانحياز إلى الثورة وحمايتها، مع الإسراع بتكوين المجلس التشريعي بصورة متوازنة تعكس حجم القوى السياسية وتحديداً الحزب، وحجمه النيابي في آخر انتخابات حرة". وحذّر "حزب الأمة" من أن عدم الاستجابة لمطالبه خلال أسبوعين ستقوده إلى الانسحاب الكامل وتشكيل تحالف مستقل من جهاتٍ مُمثَّلة في قوى التغيير والحكومة التنفيذية والمجلس السيادي بشقَّيْه المدني والعسكري.


مواقف القوى

من جهة أخرى، أكد خالد يوسف، الأمين العام لـحزب المؤتمر السوداني، أحد مكونات "نداء السودان" و"المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير" أن حزبه باقٍ في تحالفاته، "ولو أدَّى ذلك إلى سوق كوادره إلى المشانق عبر الانقلاب الذي يدعمه البعض بوعي أو من دون وعي". وذكر أنه "لا يمكن لأيّ جهة أن تستأثر منفردةً بالقرار وثمرات الانتقال ولن يفلح مَن يظن أنَّه يمكنه القفز من المركب طلباً لسلامته الشخصية، ولن تجدي محاولات تبرئة الذات، فقوى الثورة شريكة في النجاح والقصور، وستنجح موحدةً ولا سبيل للخلاص بتفريق الصف وتشتيته".

كذلك، انتقد كمال كرار، القيادي في الحزب الشيوعي السوداني، أحد مكوّنات الحرية والتغيير، تجميد "ﺣﺰﺏ ﺍﻷﻣﺔ" عضويته ﺩﺍﺧﻞ قوى ﺍﻟﺤﺮﻳﺔ ﻭﺍﻟﺘﻐﻴﻴﺮ ﻭقطع ﺑﺄﻧَّﻪ هو ﺍﻟﺨﺎﺳﺮ ﻓﻲ موقفه ﻓﻲ ظل اﻟﺸﺎﺋﻌﺎﺕ المتداولة حول أن الحزب يطالب بنصيبٍ أﻛﺒﺮ ﻓﻲ مناصب الولاة ﻭأﻥ موقفه المستجد هو ﻣﺤﺎﻭﻟﺔ للضغط في هذا ﺍﻻﺗﺠﺎﻩ. واعتبر كرار أن "خطوة حزب الأمة بالانسحاب إذا اكتملت، ستضرّ فعلياً بالتحالف، لكن سيكون الأمة هو الأكثر تضرّراً". وأكد أن "الوقت غير مناسب ﻟﻤﺜﻞ هذه الضغوط وكان على الحزب الاحتكام لإعلان الحرية والتغيير والوثيقة الدستورية، من أجل البحث عن نموذج انتقالي وليس مكاسب سياسية حزبية".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


ما وراء الأكمة

لم ينتظر "حزب الأمة" قيام المؤتمر التداولي لقوى الحرية والتغيير الذي عزمت عليه قبل فترة لإعادة هيكلة أجهزتها وتوسيعها بغرض إشراك بعض قوى الثورة غير الممثَّلة، وجرى تأجيله بسبب جائحة كورونا وسيُعقد لاحقاً عبر الوسائط الإلكترونية. وجاء تحرّك "حزب الأمة" على هذه الخلفية وهي اجتماع عُقد في دار الحزب الاتحادي الأسبوع الماضي، وضمّ مكونات من قوى الحرية والتغيير ومن أحزاب داخل المجلس المركزي وقوىً غير ممثلة. تبدو الصورة الجلية الآن أن استباق المهدي لخطوة الإصلاح القائمة من القوى مجتمعةً، والمطالب التي طرحها حزبه هي ضغوط لتحقيق أهداف أخرى، أبرزها ممارسة ضغط ليحصل على عددٍ أكبر من حكام الولايات وعضوية المجلس التشريعي المنتظَر تشكيله بحدود 9 مايو المقبل. ويُتوقع أن يغيّر هذا المجلس المُرتقب أحكام اللعبة السياسية، كما سيغير الوثيقة الدستورية ويضع قانوناً جديداً للانتخابات وكذلك الدستور المقبل.
وتوقَّع مراقبون أن يشرع "حزب الأمة" في حلّ الحكومة الانتقالية بالتضامن مع أحزابٍ أخرى، لإقامة تحالفاتٍ جديدة. كما أن قيامه ببعثرة المسرح السياسي وإرباك المشهد أو تغيير موقفه نحو الطرف الآخر هدفه أن يضمن لنفسه موقعاً مميزاً، فالحزب لم يتعوَّد على العمل ضمن التحالفات، إلّا إذا كان على رأسها، أو في أسوأ الأحوال، أن يحصل على حلفاء مخلصين يكونون سنداً له ولا يوجّهون إليه النقد واللوم، مثلما تفعل بعض القوى الفاعلة حالياً.

أما الهدف اللافت للانتباه، فهو أن "حزب الأمة" يخطب ودّ المكوّن العسكري، وذلك من خلال إشارته في بيانه إلى ضرورة الاهتمام بالجيش. كما يُلاحظ أن هناك ميلاً إلى خلق تحالف مع العسكر، يتّضح في تصريح المهدي في برنامج تلفزيوني أنه "إذا كانت هناك رغبة من قوات الدعم السريع في الاندماج في حزب الأمة، فنحن جاهزون لذلك ومرحّبون ونتمنّى لهم مسيرة ناجحة في تحقيق أهدافهم". كما دعا المهدي، الفريق أول محمد حمدان "حميدتي"، نائب رئيس المجلس السيادي إلى التفكير في المستقبل السياسي الذي ينتظره، قائلاً إن "حميدتي لديه مستقبل سياسي واعد". كما دعاه إلى دمج قوات الدعم السريع التي يقودها في الجيش لتعزيز الوحدة في صفوف القوات المسلحة والاستقرار في البلاد. وقال المهدي "إذا كان حميدتي يأمل في أن يصبح رئيساً للسودان، فعليه الانضمام إلى حزب سياسي كمدني أو تشكيل حزب".
ويعود الصادق المهدي اليوم بمطالب تقوم مقام المناورة السياسية المكشوفة، ويتّضح من ذلك أن الجناح العسكري في الحكومة الانتقالية يجاريه كما جارته حكومة البشير، مستفيدةً من تكرار خروجه إلى المنافي والعودة منها طائعاً مختاراً من دون أن يترتَّب على ذلك شيء سوى بعض المناصب الشرفية. فالخطة هي ذاتها منذ الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، ومنذ إعلانه عن نيته اعتزال العمل السياسي أو العمل ضمن قوى المعارضة لإسقاط النظام الحاكم إذا لم تُقبل مبادرته لتشكيل حكومة قومية عقب الانفصال.


متوالية التأرجح

في الواقع، لم يتغيَّر شيء لدى الصادق المهدي، والأمر الأكثر ثباتاً هو متوالية تأرجح مواقفه واستعداده الدائم لموالاة الحكومة أو المعارضة أو القفز من المركب أينما تراءت مصلحته الخاصة في الجهة المقابلة. لذا، فإنّ بيانه التفسيري ومطالبه لن تجد مكاناً من الإعراب في ديباجة التبرير لاتّخاذ المواقف ونقيضها. وبذلك، فإنّ المهدي لم يخذل تجربته الديمقراطية فحسب وإنما مؤيديه كذلك، فقد كان بإمكانه أن يواصل العمل من موقعه النضالي والمدافع عن الحرية والديمقراطية، لكنه لم يفعل، بل آثر في هذه الفترة ترسيخ أقدام أعضاء حزبه، مثلما رسَّخ أقدام أبنائه في المناصب الحكومية الرفيعة في عهد الإنقاذ، وعلَّق سعيه نحو الديمقراطية على رفّ النضال.

المزيد من سياسة